الرئيسية » » أيّام عمّتي سليمة | محمد بنميلود

أيّام عمّتي سليمة | محمد بنميلود

Written By كتاب الشعر on السبت، 1 نوفمبر 2014 | نوفمبر 01, 2014

أيّام عمّتي سليمة:

عمّتي تعاركت مع العائلة كلّها، طردت الجميع، أصابها الوسواس، تظنّ أنّ الجميع يسحرون لها، قالت إنّ فلانة تصنع السّحر، تقصد زوجة عمّي، وفلانة الأخرى، تقصد زوجة عمّي الأخرى، تحضره لتشتّته في بيتها كما يتشتّت زجاج حادثة السّير على الإسفلت. قالت إنّهم كوّنوا عصابة من السّاحرات كي يخرّبن بيتها، ويطلّقنها من زوجها البوليسيّ.
كانت فخورة جدًّا بكون زوجها بوليسيًّا. قبل أن تُجَنَّ كُنَّا نجتمع أحيانًا في بيتها، على الغداء أو على العشاء، أقشّر الموز والتّفّاح والمندرين الصّغير بلذّة بعد الأكل، جالسًا فقط على رُكبي لصق المائدة بصدري، ناظرًا بتفحّص إلى نقوش صحن الطَّاوُوس الْمُزَوَّق الكبير، الّذي ليس عندنا في البيت صحنٌ مثله.
يدهشني كثيرًا زوجها، يتكلّم بلكنة غريبة عن لكنة أبي وأعمامي، يشرب القهوة في طاسة كبيرة وليس في كأس الشّاي، كلّ ساعة يطلب طاسة أخرى، سيقانه نحيفة بشكل دقيق، لا يبدو أبدًا وهو بالثّياب المنزليّة أنّه شرطيّ. لم يكن يخيفني، كان يدهشني فقط، أحسست أنّه غامض وأنّه رسّام، لأنّه يمسك السّيجارة في يده كفرشاة الرّسم، ويمسك طاسة القهوة في اليد الأخرى بطريقة مميّزة كأنّها مِلْوَن. لا يشارك أبي وأعمامي أحاديثهم السّخيفة، يترفّع عن الخوض معهم في تلك القهقهات غير المهذّبة والأحاديث عن مغامرات الصّيد في البادية؛ كيف كان عمّي يعني يمسك الحجل دون سلاح، بل فقط بالحيلة، وعن العمل بأجرة زهيدة في دالية العنب وسرقة الفدادين ليلاً بالزّحف داخلها كتماسيح وأكل المحصول كلّه، وعن المقالب السّوقيّة. كان يظلّ صامتًا كالقاضي، وهم يثرثرون كمتّهمين. يدخّن بخيلاء، نافضًا رماد سيجارته في منفضة نحاسيّة تُغلق لتصير نملة ضخمة بجناحين، وتُفتح لتصير مرمدة.
عمّتي تعلّق بذلته الرّسميّة بحزامها الأبيض السّميك وَزَرْوَاطَتِهَا الصّغيرة وغمد مسدّسها الخالي من أيّ مسدّس، تعلّقها وسط الصّالة، في وضعيّة معيّنة، بحيث يراها الضّيوف وحتّى المارّة حين تكون النّافذة مفتوحة. الجميع يجب أن يعرف أنّ زوج عمّتي: شرطيّ.
أبي وأعمامي لم يكن بينهم ولا واحد يُحَمِّرُ الوجه، كلّهم بُوهَالِيُّونَ على باب اللّه، وكانوا يعتقدون كلّهم أنّ مهنة شرطيّ تعني الشّيء الكثير، حتّى الجيران دون استثناء كانوا يعتقدون ذلك، فلا ينادون عمّتي باسمها: سَلِيمَةْ. بل ينادونها بـ: زوجة البوليسيّ. كي يثير اسمها بعض الرّعب في نفوس من يسمع.
حين كنت أراه بالبذلة أحسّه طيِّبًا سيشفق بسرعة على المجرمين، بل أكثر من ذلك كانت عنده في البيت مكتبة مرتّبة، مليئة بالكتب، بعضها بالفرنسيّة.
في بيتنا كان عندنا فقط كتاب فقهيّ واحد، ضخم، بحيث يكفي لكلّ الفقه كما كان يقول أبي حين يقرأه مُرَتَّلاً واضعًا على عينيه نظّارات طبّيّة اشتراها فقط من سوق الخردة فلاءمت نظره تمامًا، كأنّها صنعت له، يقول عنه إنّه كنز لا يُقدّر بثمن، وجزأين من كتاب ألف ليلة وليلة بأوراق كثيرة ناقصة. عمّي الآخر لم يكن عنده في البيت ولا كتاب واحد ولا حتّى للزّينة رغم أنّه يقرأ الرّسائل كما يقولون عنه، أنا لم أره أبدًا يقرأ رسالة، أصلاً الرّسائل لا أحد سيبعثها إليه. بقيّة أعمامي لا يكتبون ولا يقرؤون ليكون عندهم كتاب. ذات مرّة اقتربت كثيرًا من مكتبة زوج عمّتي، لم ينهرني، بل ظلّت ملامحه شبه محايدة، أثارتني الكتب الفرنسيّة، حجمها الصّغير المضغوط، واللّوحات على أغلفتها. شجّعني بابتسامة أن أتصفّحها، لكنّه لم يكلّمني، لم يمزح معي، ظلّ متعاليًا، وأنا لم ألمس كتبه بيدي.
عمّتي باتت متأكّدة أنّ أمّي وزوجات أعمامي يدبّرن لها مكيدة، يحسدنها لأنّ زوجها أقرب إلى الطّبقة المخمليّة منه إلى طبقة أبي وأعمامي المنحطّة. قالت عن أمّي إنّها هي رئيسة العصابة، هي من تعرف الوصفات السّحريّة، وإنّ أبي طيّب، لم يطلّقها فقط لأنّها سحرت له بانتظام طيلة ثلاثين سنة.
في الحقيقة أمّي لا تسحر، رغم أنّها تشعل المجمر في عاشوراء وتبخّر الدّار كلّها متحرّكة بخطوات واسعة وملامح خاشعة من زاوية إلى زاوية تتمتم بطلسم غامض داخل عجاجة من الدّخان. كانت تبخّرني رغمًا عنّي حتّى أكحّ، حين تذهب تظلّ رائحة الْجَاوِي عالقة في ثيابي ساعات وساعات، لكنّ ذلك ليس سحرًا، بل مجرّد طرد للسّحر كما تقول، وهو طرد للسّحر الأسود بالسّحر الأبيض. 
أمّي كانت ثرثارة، هذا هو عيبها، طيّبة وحنونة، لكنّها ثرثارة تنقل الكلام من مكان إلى مكان بسرعة البرق، لا يثبت عندها سرّ، تحرقها الأسرار في صدرها فلا تستريح حتّى تفشيها. عمّتي لم تتّهمها بإفشاء الأسرار، بل بتحريض زوجات أعمامي على السّحر لزوجها الشرطيّ لتشتيت شملها.
أحد أعمامي وهو أعزب كان يسكن في غرفة في السّطوح في بيت عمّتي، أطلّ من الضَّوَّايَةْ وشهد أنّ أمّي فعلاً سحّارة، وأنّ زوجة عمّي تصنع السّحر الّذي تقوله لها أمّي، وزوجة عمّي الأخرى توصله إلى مكانه في صالة عمّتي، وقال إنّ ذلك السّحر سيطاله هو أيضًا إن سكت. كان يتملّق لعمّتي. أبناؤها تبادلوا معنا نظرات عدائيّة أنا وأبناء أعمامي، الكبار كانوا سيتعاركون معركتهم، ونحن كنّا سنتعارك معركتنا. لكنّ عمّتي بدأت تصرخ وتُوَلْوِلُ ويكاد يغمى عليها وهي تطردنا من بيتها بالدّفع. صفقت الباب في وجوهنا وقالت وهي متّجهة إلى النّافذة لتطلّ علينا: إنتظرن أن يصلكنّ استدعاء الشّرطة يا جماعة السَّحَّارَاتْ. قال لها عمّي محاولاً درء الفضيحة أمام الجيران الّذين أطلّوا بسرعة من النّوافذ والأبواب كخيول تطلّ من إسطبلات: إلعني الشّيطان يا سليمة، فأنت تخرّفين. لم تأبه لكلامه، دخلت وهي تشتم، وأمّي وزوجات أعمامي يجبنها بالشّتيمة أنّها تظنّ نفسها نصرانيّة وأنّها مجنونة وتشبه عَقِيصَةْ. لم أعرف من هي عقيصة لكنّهم نادوها بهذا الإسم بصيغة الشّتم.
بصعوبة جرّ كلّ واحد زوجته من جلبابها كنعجة العيد المتمنّعة، ليهدِّأها. انتهت المعركة بسلام، لم يُجرح أحد.
بعد سنة ذهب أبي لزيارتها في العيد، لم تفتح له. أعمامي أيضًا لم تفتح لهم، تُطلّ من شقوق النّافذة، تعرف أنّهم هم، فتطلب من أبنائها الصّمت المطبق، يخفضون صوت التّلفزيون بسرعة، ويطفئون الضّوء، كأنّ البيت مهجور من سنوات.
طردت عمّي الأعزب أيضًا. اجتمع أعمامي وأرادوا مصالحتها بكبش سمين يذبح على شرفها، لأنّها أختهم الوحيدة العزيزة وهم لن يأخذوا حمقها هذا على محمل الجدّ كما قالوا. شرطت عليهم تطليق زوجاتهم السّاحرات أوَّلاً.
نعم، كان على المسحورين تطليق زوجاتهم السّاحرات، وقد بدا ذلك أصعب من أن يحدّث الميّت غسَّالَه.
دارت الأيّام بطيئًا كالنّاعورة، مات زوج عمّتي الشّرطيّ، مات أغلب أعمامي، كبر الأولاد وتزوّجوا، تغيّرت الظّروف وتبدّلت، أصيبت عمّتي بالخرف الكامل، لكنّها رغم ذلك، رغم عدم تفسّخ السّحر مع طول السّنين، ظلّت جميلة وأنيقة بالقفاطين، تمشط شعرها الطّويل كلّ صباح بالزّيت البلديّ والْحَرْمَل، وتطلي خدودها بالنَّفْقَة، وتضع في أذنيها أقراطًا ذهبيّة من نوع "اللّْوِيزْ" الثّمين، نكاية في أمّي وزوجات أعمامي.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads