هذه الوجوه أقنعةٌ لمخلوقات أخرى، لا تشبهنا، شقَّها كي ترى الأسلاك والوشائع تنقل رسائلَ البلطة، والبراميل التي تسّاقطُ على الرؤوس، كالمطر الذي أرسله الله إلى أممٍ أخرى. لا ينبغي أن أجدِّف، أنا الذي ينتظرُ في طوابير الواقفين أمام الأرشيف السماوي، مع موتى لا أسماء لهم. لهم أسماءٌ لكنَّها لا تقدِّم ولا تؤخِّر في هذه الدياميس.
من يستطيعُ أن يعدَّ الأنفاس الأخيرة لهؤلاء الذين تنشَّقوا هواءً مفخَّخاً، لا لون له ولا رائحة، الذين سقطت وجوههم على الطريق إلى هنا. هناك بقايا وجوهٍ لم يمحُها السارين لكنَّها، هنا، لا تقدِّم ولا تؤخِّر؟ من رأى كيف هلك هؤلاء الذين لم يكونوا على موعدٍ مع الموت، لكنهم وجدوا أنفسهم في طريقه المرصَّع بالجماجم، فساقهم، كقدرٍ عابثٍ، أمامه. كم يدٍ للموت، كم ذراعٍ. كم قدمٍ حتى يستطيع التنقُّل، كالبرق، بين وجوهٍ لا أسماء لها، وأسماء لا وجوه لها. على أي توقيت يشتغل، هل يملك ساعة منبِّه؟
بيد أنَّ ثمة من يلعبُ بالتواريخ والأرقام، في روزنامة الربِّ الكبيرة، ليس إبليس، يكفيه منفاه الأبدي بين الطغاة والزناة والخاطئين. هناك من يستغلُ قيلولةَ العرش، ليلعب بالتواريخ والمصائر. على أحدٍ أن يسكبَ ماءً بارداً على جبينه الهائل، كي يرى ما يحدثُ فلن يعجبه، على الأغلب، ما سيرى مهما كان مزاجه متعكراً. على أحدٍ أن يرفع هذه الغرَّة الضخمة عن عينيه، ليرى ما يجري في مملكة آدم.
II
III
لأمي طريقتها في النواح الذي يجعلُ الموتَ كشربة ماء. تعالي، يا أمي، من وراء التراب، من تحت أعشابك المُداوية التي تبعتك إلى القبر، ونوحي على هؤلاء المُمَدّدين بلا أوصال، بقصبات هوائية تصفرُ فيها رياحُ الظلمات ينتظرون عربة الموت التي تقلُّ موتى آخرين. تعالي، وغني لهم الأغنية التي كنت تغنينها لأبي، كي يعود من مشيه الطويل في الليل. سمعت بجانبي من يقول: أنظروا، هذه حنجرتي، كنت أستخدمها للغناء ومناداة أخي الصغير بطريقة مضحكة. كان يضحك، ويطلب المزيد. ماذا أفعل بها، الآن، بعدما تمَّ استئصالها وتفريغها من الضحكات والأغاني. لقد رموها بين الأشجار، فالتقطها طائرٌ لا أعرف اسمه، وجاء بها إلي. لا أعرف إن كانت حنجرتي فعلاً، فلا شيء يميّزها سوى ذلك المجرى الذي سالت فيه الأغنية التي جعلتُ فيها إلهاً معبوداً، معلناً من طرفٍ واحدٍ، مسخرةَ على كلِّ لسان. صديقي الذي بلا قوائم يشيرُ إليَّ برأسه، كي أساعده على قضاء حاجته على النصب التذكاري، لإله البراميل والسارين.