الرئيسية » » المحب العظيم | ميلاد زكريا

المحب العظيم | ميلاد زكريا

Written By غير معرف on الخميس، 23 مايو 2013 | مايو 23, 2013


المحب العظيم

لم نكن نعرف عن حياته السابقة
سوى شائعات تقول إنه كان فيلسوف عظيماً
باع كل أملاكه
ليتحول إلى شحاذ
صار يسير فى الشوارع حافياً
يربط على عينيه منديلاً أسود قذراً
يمد يده اليسرى أمامه دون أن ينطق بكلمة واحدة
وعلى كتفه بومةُ عجوزُ خرساء .

بعضنا رأى حجرته الوحيدة عارية الجدران
كانت الحجرة مليئة بصناديق القمامة ؛
على حائطها الشرقى صليبُ كبير مائل
وفى منتصف السقف تتدلى مشنقةَ
مصنوعة من عدد كبير من حمالات النهود
كان يعود كل مساء يحدق فى المشنقة
ويستغرق فى البكاء حتى الصباح .

ومنذ أول يوم رأيناه ؛
لم نستطع أن نشعر بتعاطف تجاهه
شعرنا جميعاً أننا مجبرون أن نكرهه بشدة
حتى إن أطفالنا
كانوا يرونه فى الكوابيس
                 على هيئة قاتل قبيح الوجه
تولدتْ لدينا مشاعرُ القلق والخوف لأول مرة
وتألمنا كثيراً
لأننا لم نجد مبرراً واحداً يجعلنا نحبه
خاصة أن بعضنا رأى أسراباً من الذباب
           تخرج من عينيه
حاولنا كثيراً أن نتجاهل أحاسيسنا به
جربنا أن نستضيفه ليشرب الشاى
كثيرون منا منحوه نقوداً وهدايا طفوليةً وملابسَ جديدةً وبطاطين وسجائرَ واسطواناتِ موسيقى وسلاسلَ فضيةً وساعاتٍ ….

كنا نجلس معه أوقاتاً طويلةً
نحدثه عن خفايا النفس الإنسانية
ونبتسم فى وجهه بودٍ
وقد تجرأ بعضنا على إمساك يده ومصافحته ؛
بل والضغط على أصابعه فى امتنان .
كما أن بعض النساء جربن كذباً
أن يوهمنه بأنهن يعشقنه
أجبرنا الأطفال أن يصنعوا له سريراً من عقود الفل
 ودعوناه فى احتفالات أحد الشعانين
وألبسناه تاجاً من سعف النخيل الأبيض

لكننا لم نستطع فى النهاية
أن نسيطر على مشاعر الكراهية الصادقة
        التى أصبحت تحرق قلوبنا ؛
خصوصاً بعد تزايد أعداد البوم
        التى تتبعه أينما سار
ونمو علاقته بالحشرات والعقارب
التى أشاع البعض أنه كان يتغذى بها
ازداد حرصنا على أشياء مجهولة
وصرنا متأكدين أننا معرضون لسرقة أشياء ثمينة
امتلأنا شعوراً بعدم الأمان
مما جعلنا نقبل على تعاطى المخدرات
وأصبنا بحالات غريبة من النسيان
فكنا ننسى أسماءنا ووجوه أبنائنا
ولم نعد نستطيع أن نتذكر الطرق المؤدية
                إلى منازلنا
كان لدينا شعور قوى
بأن دماراً مخيفاً سيحل بأرواحنا .

ولا ندرى ما الذى حدث  له فى شهر يونيو
حيث بدأ يبيت فى الشارع : على الأرصفة
أو تحت أشجار الحدائق العامة 
أو فوق تل القمامة خارج المدينة
بعد أن أحرق حجرته ورأيناه يرقص حولها .
بعد ذلك فوجئنا أنه بدأ يطلب من المارة أن يشتموه
 وأن يوجهوا له الإهانات .
صار يحمل فى يده عصاً من خشب الجوافة
ويطلب إلينا أن نضربه بها .
يتمدد فى الشارع
           ويطلب إلينا أن نرقص فوق جسده
وندوسه بأقدمنا ، ونصفعه على خديه وقفاه
بل إنه علق فى رقبته  سلسلةً
     تنتهى بورقة كتب عليها :
      " احتقرونى كثيراً ؛ و لا تهتموا بضعفى
       أو صوت صراخى ؛
      فالحنان لا يجدى مع النجاسة التى ولدت بها "
كان يركع عند أقدامنا و يطلب أن يمسح أحذيتنا
بشعر رأسه .
وإذا رأى مشاجرة فى الشارع
           يطلب إلى المتعاركين
أن يبصقوا على وجهه ويضربوه
بدل أن يضربوا بعضهم .
كان يتسلل إلى البيوت
ويغَطّس رأسه فى المرحاض
وبدأ يسرق مقابض الأبواب وأدوات التجميل
وحطم جميع المرايا فى حماماتنا
وملأ أحواض الاستحمام بالعقارب .
عندما ماتت بومته المفضلة ؛
أخذ يكتب فوق الحوائط و أعمدة الإنارة كلماتٍ
غريبةً مثل :
" العبيد أمثالى لا يستحقون الشفقة
أنا لست أكثر من صندوق للقمامة ،
وقلبى مجرد وكر للصراصير "
" أرجوكم وفروا محبتكم وجمالكم
              للبشر الحقيقيين 
 " لدى خونة كثيرون لا تكفيهم الكراهية
وأحزان كثيرة لا يفيد معها البكاء "
عندها كان علينا أن نعترف بالحقيقة
        التى حاولنا إخفاءها عن أنفسنا
نعم .. كنا خائفين أن نصدق أننا نكره إنساناً ما
امتلأنا بالشك
وصار كل منا عدوانياً تجاه أى شىء
فأصبحنا نثور لأسباب تافهة .
نسير ونتلفت وراءنا دائماً
               كأننا مطاردون .
مبادئنا التى بنينا عليها أرواحنا ؛ أصبحت مهتزة .
لم نعد نمتلك إحساساً
                   بوجود شىء حقيقى فى حياتنا .
لم نستطع أن نتهرب من تأمل نفوسنا
فاكتشفنا إلى أى مدى كنا مخدوعين فى حقيقتنا
وكيف أننا لم نحاسب أناساً كثيرين على خياناتهم
ربما لأننا لم نرغب أن نشعر أن بيننا خونة .
وانتبهنا على وهم كبيرا اسمه الإخلاص
 وشعرنا أننا عشنا عمرنا كله
          بأكاذيب صنعناها نحن ؛
تألمنا لأننا اكتشفنا أن الأكاذيب
تظل دائماً مجرد أكاذيب
وندمنا على المرات الكثيرة
      التى قلنا فيها : " صباح الخير "
        لبشر لا يستحقون أن يروا وجوهنا
وتمنينا أن يعود الزمن فنستعيد الحب الذى قدمناه
نستعيد الضحكات والكلمات التى قلناها .

لكن أفظع ما عرفناه بعد ذلك
أنه كان يسطو على مقابر الموتى الجدد
ويمزق أجسادهم وينتزع قلوبهم ليأكلها
وكلما حاولنا قتله
         يدعى مثل الثعالب أنه ميت
وتصدر عنه رائحة نتنة
تجعلنا نفر من أمامه سريعاً .
 ذات مرة قابل إحدى الراهبات وقال لها ؛
إنه ليس آكِلَ لحوم بشرٍ
ولكنه يفتش فى أجساد الموتى
      عن قلب واحد يحبه .
وزاد الأمر بعد ذلك
فكنا نجد كل صباح
جثة أحد الكلاب أو القطط
        منزوعة القلب أيضاً
وكتب على الحوائط بعدها :
"    اتركونى وحيداً فى البرد
        أنا لا أستحق دفء مشاعركم
        لا أستحق ابتساماتكم
        اقتلوا نساءكم إذا أشفقن على?  
        أعرف أن النساء لن يعشقننى
        أنا العبد القذر
        فاتركونى أجبر الحيوانات على محبتى "
فاستيقظت فينا رغباتُنا القديمةُ فى فعل الشر
وصرنا لا نتحرك بدون أن نحمل أسلحة .
ولم يفلح النوم فى تخليصنا من شبحه
بل إن جميع تماثيل الملائكة
            التى كنا نزين بها حجرات نومنا ؛
بدا أنها اختفت بشكل إعجازى
ولم يتبق منها سوى أجنحتها الرخامية مكسورةً
وشعرنا بأجسام هلامية تزاحمنا فى بيوتنا وأعماقنا
أيضاً ؛ بدأنا ندرك للمرة الأولى
أن هناك شيئا يسمى التعاسة
          غير السعادة الزائفة التى عشناها من قبل
           فى حياتنا الخالية من المعانى المؤلمة .

بعد ذلك ؛ أحسسنا جميعاً
أن المدينة مملوءةُ بجيش من الشياطين
كل يوم تحترق ملابسنا المعلقة على الشماعات
جميع النساء أصبن بسرطان الثدى
والرجال فقدوا قدراتهم الغرامية
والأطفال جاءتهم هيستيريا انتحارٍ جماعيةُ
فكانوا يمضون تجاه البحر مسلوبى الإرادة

وفى يوم الثلاثاء البعيد ذلك
جمع الرجل كومةً كبيرةً من الملابس والدواليب
      والأوراق والعظام ،
وأشعل فيها النار
ثم قفز إلى داخل هذا الجحيم الصغير

ظلت النار مشتعلةً ليلتين
كنا نسمع خلالها ما يشبه أصوات الحرب
مختلطا ببكاء أطفال وموسيقى أعياد الميلاد
وفى الليل كنا نشعر جميعاً أثناء نومنا
بأيادٍ خفيةٍ تعبث فى صدورنا
فى مكان القلب تماماً
ولما انطفأت النيران تماماً
وجدنا تحت الرماد قلباً هائلاً حيّاً ينبض
ويتدفق منه الدم بغزارة .
كان صوت النبض عظيماً ؛
يصم آذاننا رغم إغلاقنا لبيوتنا جيداً
أظلمت الشمس تدريجياً ثم اختفت…… إلى الأبد .
وبرغم أننا كنا فى منتصف الصيف
             إلا أن الثلج انهمر بغزارة
فتجمدت أطرافُنا ومشاعرُنا
وبدأ القلب الكبير يتدحرج فى اتجاه البيوت
  فوجدنا أنفسنا مسحورين ومنجذبين إليه
ابتَلعَنَا القلب واحداً واحداً
ولم يتبق منا سوى أفواهنا وألسنتنا
            تطير فى السماء
              وتعلن كلّ صباح
أنها ما زالت ترفض أن تحب
فيلسوفاً عظيماً تحول إلى شحاذ .

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads