الرئيسية » , , , » فارس سباعنة: إصغاء لحركة الثنائيات

فارس سباعنة: إصغاء لحركة الثنائيات

Written By Nova on السبت، 16 فبراير 2019 | فبراير 16, 2019

جرّب أن تصوّرَ حجراً ملء شاشة “الكاميرا”، ثمّ التقط صورةً يكون الحجرُ في زاويتها السفلى من الجهة اليسرى، ثمّ ابتعد عن الحجرِ ثلاثَ خطواتٍ لكي تضعه صغيراً في مركز الصورة، وفي كلّ مرةٍ حاول أن تراقبَ الكثافةَ، وترصد العلاقةَ بين الكثيف والأقلّ كثافة مثل “الفراغ”، وابحث عن مفردةٍ كثيفة الأحاسيس مثل الحرب أو الخوفِ أو النشوة واستبدلها بالحجر، أنا مثلا سأكتبُ “كانت روحي تشربُ الزرقة لولا الخوفُ السمينُ يعرجُ في قفصي الصدري”.

وبالنظرِ إلى ما كتبتُ أفكرُ بكلمة “روحي” فأجدها مستهلكة، ولماذا استخدمتُ “كانت” ؟ أليسَ المضارعُ أجمل؟ -حتى لو حدث الأمرُ في الماضي- فأجرّبُ: “وجنتايَ تشربانِ الزرقة لولا القلقُ السمينُ يعرجُ في قفصي الصدري”، ولماذا “قفصي الصدري”؟ ماذا لو استخدمتُ “قفصَ صدري” أو “قفصَ الصدر”؟

من الواضحِ أن كلّ كلمةٍ أو تركيبٍ يضعنا أمام عددٍ لا نهائيٍّ من احتمالاتِ الصياغة، فمن الذي يأخذ القرار باعتمادِ هذه الصيغةِ دون غيرها؟ هذا هو الفرقُ -برأيي- بين أن تكتبَ الشعر أو تتدرب على الشعر، خصوصاً وأن الفراغَ في الشعر هو غالباً أكثر كثافةً من الحجر.

أتذكّرُ قول أبي تمام لتلميذه البحتري: “إذا أَخَذْتَ في مَدحِ سيِّدٍ ذي أيادٍ؛ …، واجْعَلْ شَهْوَتَكَ لقولِ الشِّعْرِ الذَّريعةَ إلى حُسْنِ نَظْمِه”، ولا أعتقدُ شيئاً يميّزُ الشاعرَ عن غيرهِ إلا هذه الشهوة في اللعبِ مع الزمنِ والضمائرِ والحروف، ومساءلةِ المخيالِ الكلاميّ.
إن ما حدثَ قبلَ قليلٍ كانَ صوتاً ناجماً عن ارتطامِ ثنائية الكثافة والفراغ، وإذا اتفقنا أن الكلامَ مجموعة من أصوات، فيمكننا اعتبارُ الشعرِ ضمن هذا السياق إصغاءً لأصواتِ حركة الثنائيات.

أذكرُ خلالَ مرافقتي لشعراء “مهرجان رام الله الشعري”، أن جميعَ الشعراء الجيدين كانوا كثيري الإصغاءِ أثناء مشيهم ومحادثاتهم، وعندما سألتُ الشاعر الفرنسي (جان بونسيه) عن مجموعة نصوصه حول (القمر)، قال إنه يستمتع كثيراً بالمشي وحيداً في الليالي المقمرة، حتى لفته معنى الضوء الشحيح وغرقَ في مساءلةِ المعنى الذي سلّطه نحو أشياء كثيرةٍ وأنتج هذه المقطوعة المبدعة، وعندما سألته: لماذا لم تكتفِ باستخدام ضوء القمر الشحيح كاستعارةٍ واحدةٍ في نصٍ شعريّ؟ أجاب أنه لا يعلم، وأن سؤالي مهم.

للثنائيات أصواتٌ مألوفةٌ وأخرى غيرُ مألوفة وأصداء، هذا المعنى أجدهُ جلياً في نصّ لأنس العيلة “اليدُ التي ربتت على كتفكَ أثناء الحديث تركت في جوفك أصداء مدويّة”، هنا استطاعت كلمة مثل “في جوفك” أن تفتحَ مساحاتٍ شاسعةً يتردّد فيها صدى “التربيت والدويّ”.

ولا أعرفُ إذا صحّ القول بأنّ أي معنيين في اللغة يمكنهما تشكيلُ ثنائيةٍ بطريقةٍ ما، إن كانت الثنائيةُ انسجاماً أو تضاداً، وهذا ما لا يوضحه معلّمو اللغة العربية في المدارس عند تعريف الجناس والطباق، أو كيفَ لشاعر القصيدة العمودية أو التفعيلة أن يجبرَ كلمتين تحملان إيقاعاً صوتياً واحداً -مثل اشتراكهما بالقافية- على خدمة السياق ذاته، فأنت لا تجد العلاقة مباشرةً بين الصفاء والتمني، بينما تجدهما في قصيدة المتنبي: “وحسبُ المنايا أن يكنّ أمانيا.. أقلِّ اشتياقاً أيها القلبُ ربّما رأيتكَ تصفي الودّ من ليسَ صافياً”.

عليّ في نهايةِ هذا المقال، أن أختمه بأنني لا أعرفُ “ما هو الشعر”، كنوعٍ من الإخلاصِ للغموضِ الذي يغري بالبدايات الشعرية، وأيضاً لأنّ أحداً لا يستطيعُ التأملَ في أصداءِ اللاوعيِ حدّ إيجادِ التعريفات، لكنني في كلّ مرةٍ أناقشُ فيها ثنائيةَ الكثافةِ والفراغ، تدهشني مساحةُ هذه الثنائيةِ من الحياة، وأدركُ قدرتها على قراءة الفنون وتذوّقها.

المصدر موقع تكوين
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads