الرئيسية » , , » ياسر الزيات يدمر العالم في "خوف الكائنات" | عمر شهريار

ياسر الزيات يدمر العالم في "خوف الكائنات" | عمر شهريار

Written By Gpp on الأربعاء، 28 فبراير 2018 | فبراير 28, 2018

ياسر الزيات يدمر العالم في "خوف الكائنات"
عمر شهريار

صدر حديثا عن "منشورات المتوسط" ديوان "خوف الكائنات" للشاعر ياسر الزيات، أحد الأصوات المهمة في قصيدة النثر المصرية، رغم قلة إصداراته، فهناك مسافات زمنية كبيرة بين كل ديوان وآخر، ربما بسبب انشغالاته الصحفية الكثيرة. لذا، وربما بسبب هذه البخل الشعري، يصبح كل ديوان له حدثا سعيدا لقرائه، نظرا لاختلاف نصوصه عن السائد والمتداول، فياسر صاحب شعرية مختلفة، ورهيفة، يضع بها بصمة واضحة في المشهد الشعري الراهن.
هذه الشعرية الرهيفة والمغايرة، لدى الزيات، تتبدى منذ عنوان ديوانه، الذي يجعل مركزه الكائنات، الحيوانات والنباتات والجمادات والمعاني المجردة، ويمنحها صدارة المشهد، يجعل لها حيواتها المستقلة، وينصت لمشاعرها ومخاوفها وأفراحها، فهي –الكائنات- لها وجودها المستقل، وربما السابق على وجود الإنسان، ومن ثم فإنها جديرة بالالتفات لخوفها، وشعرية وجودها في العالم. كما تتبدى مغايرة الديوان، أيضا، في بنيته، فهو مقاطع متتابعة، أقرب إلى قصيدة طويلة، بتنويعات شتى. نفس الحالة، لكن الشاعر يعاينها من وجوه وزوايا متباينة، لذا تأتي النصوص كلها بلا عناوين، كقصيدة واحدة. كما تتجلى مغايرة الديوان، للمرة الثالثة، في طريقة كتابة النصوص، وفق للنسق الفرانكفوني، حيث كل نص سطور كاملة، وليس أسطر شعرية أسفل بعضها كالمعتاد في الشعرية العربية.
نرى، في الديوان، حضورا طاغيا للطبيعة بكل مفرداتها، فهي موجودة في كل قصيدة تقريبا، وفي المقابل نرى حضور الإنسان بوصفه قاتلا لها، هكذا تصبح ثنائية الإنسان والطبيعة فاعلة ومركزية في بنية الديوان ككل، يقول مثلا "على الباب، وقف الشاعر بحيرته، وخلفه الرسام بسكينه، والصياد ببندقيته، والبستاني بفأسه، والنجار بمنشاره والشيطان بجسد معذب، تعلوه النار. وخلف الباب، كانت الغابة تصرخ، بحيواناتها وطيورها وديدانها وأوحالها، ورأيت النار تبكي من فرط التعب."
هكذا، تتبدى الحالة الصراعية، فالشاعر والرسام، هذا الفنانان المرهفان، يستخدمان الطبيعة أيضا، تماما كالبستاني والصياد والنجار، لا فارق بينهم، فكل منهم يستغل الطبيعة بطريقة ما. تنحاز الذات الشاعرة هنا للطرف الأضعف والأبهى، الطرف الصارخ، الخائف، حتى لو كان الأوحل والديدان، ينحاز لبكاء النار، في مقابل الطرف الآخر الذي يستقوي على الطبيعة، طرف الإنسان، ذلك الذي يقف في جبهة واحدة مع الشيطان!
هذا الانحياز للذات الشاعرة يتبدى في أكثر من موضع شعري، داخل هذا الديوان/ القصيدة، يقول: "نظرت إلى السماء، فرأيتها بحرا طائرا، وبادلتني النظرات، فخمنت أنها رأتني سماء، لا تقوى على الطيران." فمقطع كهذا يبدو دالا على تبادل الأمكنة والأدوار، فالسماء تبدو للشاعر بحرا طائرا، وربما تبدو هذه صورة عادية رغم طرافتها وجدتها، لكن الأكثر غرابة ولامألوفية هو تبادل النظرات بينهما، بل وتخمين ما يدور في عقل السماء/ البحر الطائر، تلك التي ترى الذات الشاعرة "سماء لا تقوى على الطيران". فقد ذهب الشاعر بالتماهي مع موجودات العالم إلى حده الأقصى، خالقا مشهدا شعريا غير معهود.
تسعى الذات الشاعرة في الديوان، ضمن كثير مما تسعى له، إلى انتهاك العلاقات المألوفة، مما أنتج نصوصا ذات طابع غرائبي، سيريالية، مفارقة، وهذا ما يمكن أن تجده في أي نص داخل الديوان. ثمة رغبة عارمة في تقويض القوانين الطبيعية للعالم، وربما للشعر، ووضع قوانين مغايرة، وخلق عالم بديل ومراوغ، عبر إنتاج صور ومشاهد شعرية تنتهك العلاقات المألوف وتدمرها، يقول "وفتحت في قلبي نافذة، ثم وضعت عليها وردا ذابلا، وناديت الطيور كلها، لكي تأكل وتشرب، أو تعلق نفسها على على الجدران. وصنعت لقلبي سلما، فصعدت عليه الكائنات كلها، وتبعتها الحواس والأحاسيس، وجاءت الأفكار بلا عدد، فانهار السلم، واشتعل البيت بالنهايات".
إننا، في مقطع شعري كهذا، نشعر أننا بصدد لوحة من لوحات سلفادور دالي، ذلك الذي أعاد إنتاج العلاقات بين الأشياء، ليخلق عالما فنيا جديدا، مدمرا في الوقت ذاته مألوفية العلاقات القديمة واعتياديتها، فنحن إزاء ثنائية قتل القديم المألوف وخلق الغرائبي واللامألوف. ثنائية القتل والخلق هذه تتجلى أيضا في مقطع لافت، حيث يقول "كل صباح، تغسل القبور وجوهها، وتنظف عيونها من الأحلام، من الحياة المتطفلة، من النور. تقف قبور، كل صباح، في الصف، لتغسل أسنانها وتتقيأ. يسقط من فمها الخاسرون، محترفو الخسارة، مصاصو الأرواح، حاملو الرسائل، والذين نبتوا فجأة من الحياة".
يعتمد ياسر، إذن، على سيريالية الصورة الشعرية، بكل وحشيتها، كأن الذات الشاعرة غير قانعة بالوجود الراهن، بطبيعته الوحشية، فتصدمه بإنتاج صور غرائبية أكثر وحشية، وأكثر غرابة، بل إنها تعيد صياغة العالم، عبر إعادة تسمية مفرداته، كأن يقول: "وضعت خيطا على الطاولة، وسميته النهر، وكسرت كأسا، وسميتها الطريق". فالذات غير قانعة، حتى، بمسميات الأشياء، تقتل الأشياء المصنوعة، التي خلقها الإنسان، وتعيد خلقها بمسميات جديدة داخل النص الشعري، فيصبح الخيط نهرا، والكأس طريقا (وليس شارعا من صنع الإنسان)، ليستحيلا طبيعة صافية.
ثمة مبرر شعري لهذا التدمير/ الخلق، هذا الذي ربما يراه البعض جنونا شعريا، تسربه لنا الذات الشاعرة في أحد النصوص، حين تقول: "قلت لنفسي إن هذا الجنون لا يجب أن ينتهي، فلا جدوى من تركيب عالم بلا جنون".
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads