الرئيسية » , , , » مفهومُ الشِّعرِ أَمِ الشِّعرُ المفهومُ؟ | د. محمَّد حِلمي الرِّيشة

مفهومُ الشِّعرِ أَمِ الشِّعرُ المفهومُ؟ | د. محمَّد حِلمي الرِّيشة

Written By Gpp on الأحد، 4 فبراير 2018 | فبراير 04, 2018

مفهومُ الشِّعرِ أَمِ الشِّعرُ المفهومُ؟
د. محمَّد حِلمي الرِّيشة
"القصيدةُ سرٌّ، وعلَى القارئِ أَن يبحثَ عنْ مفتاحٍ." (مالارْمِيه)
منذُ عمَلي الأَوَّل، "اشْتكَى" كثيـرٌ منَ القرَّاءِ بسببِ غموضِ وعدمِ فهمِهم شِعري! فأَضطرُّ إِلى شرحِ رُؤيتي الشِّعريةِ، لَا شِعري، لأَنَّ الشَّرحَ يفسِدُ الشِّعرَ، مِن أَجلِ قراءَتهِ بأُسلوبٍ مغايرٍ تمامًا لِمَا أَلِفوهُ فِي التَّعليمِ المدرسيِّ والجامعيِّ؛ شرحُ القصيدةِ بيتًا بيتًا (بلْ هوَ تشريحٌ للقصيدةِ)، المناسبةُ، الأَفكارُ، العواطفُ. هذَا الفعلُ/ التَّشريحُ كانَ يُمقِتني كثيرًا؛ لأَنَّهُ يُعدِمُ بوحشيَّةٍ الجمالَ الكلِّيَّ للقصيدةِ، كمَا تفتِيتُ وردةٍ، علَى الرَّغمِ مِن أَنَّها قدْ تكونُ نظمًا، لَا شِعرًا. هذَاِ إِشكالٌ مؤرِّقٌ لكثيرينَ "يتعاطونَ" الشِّعرَ بدونِ شكٍّ. لذَا يقِفُ السُّؤالُ: "مفهومُ الشِّعرِ أَمِ الشِّعرُ المفهومُ؟" أَمامَ الشَّاعرِ مثلَ سورٍ شائكٍ؛ بِمَ يَعتنِي؛ بالمفهومِ أَم بالفهمِ؟ بشعرهِ أَم بقارئهِ؟ وظلَّ السُّؤالُ- العبارةُ الأَخيرةُ يَعنِي/ تَعنِي: بمَنْ يضحِّي؟
بنظرةٍ إِلى الوراءِ، نَرى أَنَّ الشِّعرَ ارتبطَ بدايةً بالنُّطقِ/ الشَّفاهةِ، ثمَّ كانَ الإِنشادُ، ذلكَ أَنَّ الأَمرَ تعلَّقَ بأَكثرَ مِن جانبٍ؛ الأُميَّةُ والتَّعلُّمُ/ الشَّفاهةُ والكتابةُ، وغيرُهما.
مِن هذَا؛ كانَ لاَ بدَّ أَن يضحِّي الشَّاعرُ بمفهومِ الشِّعرِ لِتصلَ رسالتهُ- قصيدتهُ، بساعٍ واحدٍ؛ اللِّسان.
حينَ كتبَ الشَّاعرُ المجدِّدُ (أَبو تمَّام) شعرًا مغايرًا تمامًا لِما كانَ سائدًا آنذاكَ، وأَنشدَهُ/أَلقاهُ أَمامَ مُستمِعينَ، انبرَى لهُ مَن يقولُ: "لماذَا لَا تقولُ مَا يُفهم؟" وكانَ جوابُ الشَّاعرِ: "ولماذَا لَا تَفهم؟"
ثمَّ كانَ أَن "جاءَ رجلٌ إِلى الشَّاعرِ أَبي تمَّام وهوَ يحملُ بينَ يدَيهِ وعاءً، وقالَ لهُ: أَعطني قليلًا مِن ماءِ الملامِ الَّذي جاءَ فِي قولِكَ: "لَا تسقِني ماءَ الملامِ فإِنَّني/ صبٌّ قدِ استعذبتُ ماءَ بُكائي". فردَّ عليهِ أَبو تمَّام قائلًا: هلْ قرأْتَ قولَهُ تعالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}؟ قالَ: نعمْ. فقالَ أَبو تمَّام: إذًا لَا أُعطيكَ ماءَ الملامِ حتَّى تأْتِيني بريشةٍ مِن جناحِ الذُّلِّ." كانَ يمكِنُ أَن يقولَ اللهُ تعالَى، بدلًا مِن {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} كلمَتينِ مباشَرتينِ: تَواضعْ لهمَا. إِلَّا أَنَّ الصُّورةَ الشِّعريَّةَ المبدَعةَ، الَّتي أَنشأَها اللهُ، جاءَتْ أَجملَ، وأَكثرَ نعومةً فِي فعلِ الأَمرِ، فِي وقْعِها علَى النَّفسِ البشريَّةِ، إِذِ الخطابُ موجَّهٌ لمخيَّلةِ الإِنسانِ، وفِي هذَا تكريمٌ لهُ.
هذهِ اللُّغةُ كانَ لهَا أَثرُها الجليُّ/ المقنِعُ فِي تكوينِ شعريَّتي منذُ بداياتِها؛ شعريَّتي التَّي جَعلتني أَنفرُ، طبقًا لفَهمي لمفهومِ الشِّعرِ، منْ شرحِ الشِّعرِ بعدَ خروجِ قصيدةٍ لِي مِن فضائِها الدَّاخليِّ الذَّاتيِّ إِلى فضائِها الخارجيِّ؛ الذَّاتِ القارئةِ.
كانتْ أَسئلتي دائمًا:
لماذَا الفهمُ أَوَّلًا؟ ماذَا بعدَ الفهمِ؟ لماذَا يصرُّ القارئُ أَن يكونَ/ يظلَّ متلقِّيًا فقطْ؟ معَ أَنَّنا نعرِفُ "جرائمَ" التَّلقِّي الَّتي ترتكبُ باسمِ التَّعليمِ، والَّذي لَا يعدُو كونهُ تَلقينًا؛ إِفراغُ محتوًى فِي محتوًى آخر. وبِمعنَى آخر أَكثرَ تحديدًا، وتركيزًا، وشبَقًا؛ اغتصابُ ذكورةِ نصٍّ لأُنوثةِ تلقٍّ.
كيفَ يُفهَمُ الإِبداعُ بشكلٍ آليٍّ؟! لَا أَفهمُ!
إِنَّ قارئَ الشِّعرِ بأُذنيهِ الَّذي لَا يزالُ يسأَلُ: لماذَا لَا تقولُ مَا يُفهَم؟ أَردُّ بكلِّ تفهُّمٍ وبراءَةٍ: حينَ تفهمُ الموسيقَى.
إِنَّ كلَّ الفنونِ الإِبداعيَّةِ تحترمُ الإِنسانَ؛ قارئًا/ مُستمِعًا/ مُشاهِدًا/ مُفعِّلًا كلَّ حواسِّهِ فِي سَعيِها إِلى رُقيِّ عقلهِ، ورفعةِ ذوقهِ، تحريضًا علَى إِنسانيَّتهِ وتثبيتًا لهَا، وحضًّا علَى القتالِ الأَبيضِ مِن أَجلِ امتلاكِ حرِّيَّتهِ فِي الرَّأْيِ والتَّعبيرِ عنهُ، وقراءةِ الحياةِ ووجودهِ فِيها قراءَةً إِبداعيَّةً/ واعيةً، دونَ جبرٍ أَو إِكراهٍ. يقولُ الشَّاعرُ أُنسي الحاج: "أَكتبُ كيْ أُبرهنَ أَنَّ القارئَ موجودٌ. لمْ أُقابلهُ، إِنَّه أَنا، إِنَّه أَنتم." وفِي الدِّراساتِ الحديثةِ: "لاَ نصٌّ دونَ قارئٍ."
إِذًا، لاَ توجدُ كتابةٌ متعاليةٌ، كمَا يطرحُ الكثيرُ، علَى القارئِ المطلوبِ. أَنا أَبحثُ عنْ قارئِي؛ قارئِي الَّذي أُريدُ منهُ أَن يعلُوَ عنِ الكلامِ الرَّثِّ/ المبتذَلِ/ الفارغِ/ الفقيرِ إِلى الكلامِ/ اللُّغةِ الَّتي تدركُ مخيلتهُ، فيصيرُ عِندي شاعرًا بفعلهِ القِرائيِّ. أُريدُ منهُ أَن يُنشئَ نصًّا آخرَ؛ نصَّهُ هوَ، لاَ أَن أَفرضَ عليهِ نصِّي، كأَنَّه لوحُ قانونٍ، أَو نظامٍ، أَو دستورٍ. هذَا مَا أَعتقِدهُ حقًّا طبيعيًّا لهُ، ولذَا أَكتبُ نصِّي الخاصِّ بِي، بدونِ أَن أُنازعَهُ علَيْهِ أَبدًا.
لستُ ضدَّ فهمِ الشِّعرِ الإِبداعيِّ، ولكنْ أَن لاَ يكونَ الفهمُ هوَ النَّتيجةُ الوحيدةُ منهُ. هذَا مَا أَرجو أَن يُستخرجَ مِن حديثِي.
أَنا ضدُّ كتابةٍ شعريَّةٍ تقرأُ بالأُذنينِ وحدَهما أَو بالكفَّينِ، إِذْ أَراها أَنَّها كُتبتْ لتلكَ الأَعضاءِ فقط! ومَا أَن تغادرُ هذهِ الأَعضاءُ مكانَ حضورِها، حتَّى يغيبَ رنينُ تصفيقِها معَها. لهذَا لَا يؤمنُ الشَّاعرُ بُول شَاؤول بأَنَّ يتسلُّقَ منصَّةً كيْ يُلقيَ مِنها شِعرَهُ.
وبِما أَنَّني ضدُّ تلكَ الكتابةِ الشِّعريَّةِ سيِّئةِ (...)، فأَنا معَ كتابةٍ شعريَّةٍ تقرأُ بوعيٍ/ إِدراكٍ/ حواسٍّ/ مخيَّلةٍ إِنسانيَّةٍ عاملةٍ/ فاعلةٍ.
إِنَّ خسارةَ قرَّاءٍ مقابلَ القبضِ علَى الجمالِ بالنَّواجذِ، لهيَ أَقلُّ فداحةً مِن خسارةٍ كبيرةٍ؛ خسارةِ الشِّعرِ والشَّاعرِ معًا!

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads