الرئيسية » , , , , , , » دراسة نقدية فى شعر الشاعر العراقى الكبير : عدنان الصائغ | بقلم: محمد دياب

دراسة نقدية فى شعر الشاعر العراقى الكبير : عدنان الصائغ | بقلم: محمد دياب

Written By Gpp on الاثنين، 8 يناير 2018 | يناير 08, 2018

الحداثة عند سلطانٍ من سلاطين شعر التأويل


دراسة نقدية فى شعر الشاعر العراقى الكبير : عدنان الصائغ
بقلم:
محمد دياب




مقدمة :

* " عدنان الصائغ " :

ماذا يمكن أن نكتب عن النجوم ..؟.. كيف لنور الحبر أن يجاور النجوم البعيدة ..؟.
هو اسم لا مع ، مارس صهيل الكتابة العمودية حتى خرج منها مقتدرًا ، عانق الهديل التفعيلى حتى صار حبيبًا وحبيبة  ، طار مع فراشات النثر حتى صار مبدعًا مختلفًا : اقتنص  اليومى والعادىّ بخيال مراوغ  ، روض حبره على عواصف التراث الخصب ، طار على أشجار الشعر المرسل مغردا فى دروب الغناء العصرى ، لحن كحفيف الوتر المتوتر المشدود ، واجه أعاصير الحداثة بمصدة الإبداع ، فتح لها صدره الفنىّ ، قبضته الناعمة ، دواة حبره الملونة ، رقصت أصابعه برشاقة ، وحرفية عالية ؛ لأن لديه مناعة ضد التميع ؛ لقد حقن مبكرا بمصل التراث المنوع ، خبر إنسانية الحرف المرير ، ركز على إنسانية النص ، واصل العزف على إنسانية القصيدة التى يخطفها من مخالب الأفق كمشهد عابر ، يحطها على جلد الأوراق ، يفتح مسام السطور ؛ لتشرب انفجاراته الضوئية ، يميل للكتابة العفوية - كما تخرج - دون الحاجة إلى افتعال الإنفعال ، أو افتعال حالة التجربة النصية ، أو افتعال لحظة الكتابة ، يكتب الحالة القصيدة كما هى ، ويرى " فروم أن الشخص بالتأكيد يكون سعيدا عندما يبدع شيئا ما بشكل عفوي ، وعندما يتحد مع العالم ، ومع نفسه حيث إن عقله ، وعاطفته يكونان في انسجام كامل "  (1) . ثم تغرق معه فى شعريته الحداثية ، و " لم تكد الحداثة الشعرية العربية تترك ظاهرة من ظواهر الواقع المعاصر، من دون معالجة فنية ،  ومن دون تقويم جمالي ، بحيث يمكن التوكيد : أن  هذه الحداثة قد استوعبت مجمل ماطرحه الواقع من إشكاليات ذاتية ، وروحية واجتماعية " (2) . عمومًا - بالنظر إلى إبداعه الكلىّ - فى كل لون نشهد أنه قد أبدع ..!.

* " عدنان الصائغ " :

قصائده كثيرة ، متنوعة ، متعددة الاتجاهات ، حية ، عمومًا : القصيدة الجميلة جميلة سواء : كانت عمودية خارجة من أجنحة التاريخ ، أو تفعيلية انبثقت من ريش التاريخ أثناء العبور الفضائى للشعر ، أو نثرية حين تفتت الطائر من جراء العلم الحديث ، فخرجت القصائد لتواكب هذا التحدى الجدلى فى ساحة غليان الإبداع ، أو خليطًا من كل هذا ، النص الجميل جميل – مهما كان شكله -  ولا أحب أن أضيف الكتابة بـ " اللهجة العامية " لهذا الخليط الإبداعىّ حتى لا يصبح الإبداع هجينًا مستقبحًا ، لا شخصية له ، لا هم له غير التجديد الهادم ، حتى وان كان على حساب عشقنا لجميلة الجميلات ، سيدة الشعراء ، والكتاب ، والأدباء ، وأرباب الأقلام ، أمنا الحبيبة :" اللغة العربية " .

* الشكل الإبداعى :

الشكل لا يمثل لـ " عدنان الصائغ " أزمة إبداعية ؛ فالذين تمرسوا فى حقل القديم أبدعوا فى الإنفجار التفعيلى الجديد ، والمتجدد ، روضوا ملكاتهم ؛ ليغرفوا من محيط الحداثة التى لا تركن لبحر ، أو وزن موروثٍ ؛ فكان لزاما على المبدع أن يخلق نصًا مغايرًا بعيدا عن القوالب الموروثة ؛ لخلق حالة من التطور بالعدوان على القديم لإثبات شخصيته ، مع الجزم بأن الإبداع لا شكل له ، متطور ، شأن كل العلوم ، شأن كل الأجناس الأدبية ، " عدنان الصائغ " سريع التطور ، عظيم التجربة ، كثير التجريب الفنى ، نصوصه تشهد قدرة عالية على تميزه ، تفرده ، له بصمة صوتية نعرفها من أنامله حين تطالعه مستقلاً قطار الدرجة الأولى المميزة فى سلم الحداثة الصادمة ، لكن ليس كل من استقل قطار الحداثة يصل ، لابد من حوادث الاصطدام التى تعيق ، أو تمنح المبدع طاقة أخرى فوق طاقة الروح ، تجعله يتحدى نفسه لتقديم إبداع يليق باسمه ، بمجده إن كان يبحث عن وتر الخلود ...!. من هنا " يكون الشعر تفجر طاقة الروح ، حنين المنفصم إلى الالتحام ، التفجر المطلق ، الاحتراق الذي لا بقايا بعده ، الضوء الأنقى ، الضوء المستحيل " .(3) . الذى يبحث عنه جل الشعراء ..!.

* روح الشاعر " عدنان الصائغ " :

" عدنان الصائغ " له روح خاصة فى الكتابة ، تلحظه منها ، تعرفه حتى لو لم يوقع باسمه ، يتسم بـ : العمق ، طول النفس ، توسطه ، قصره ، قصره جدا .. جدا .. جدا .. مثل قوله :

[ لستُ وحيدًا
وحدتى معى ].

صعد إلى ذهنى - على الفور - قول الشاعر " بلند الحيدرى " :

وحدتي :
هكذا أنت نموْتِ
عشبة صفراء في ضفةِ موتي
وحديثاً مسرفًا في الهمسِ كالرجسِ كصمتي
هكذا أنتِ نمَوتِ
من سكوتي (4) .

تختلف طريقة التعبير بين الشاعرين ، كل له أسلوبه  " بلند الحيدرى " يسبح  فى بحيرات حديث الماء التفعيلىّ ، مصدر وحدته / غربته بدأت من الصبا المبكر ، ثم ظروف المجتمع الطاحن المتصارع ، ثم ظلت تكبر ، تزيد ، تنمو من صمت الشاعر ، يخاطبها كأنها تسمعه ، تعى ما يقول ،  و" عدنان الصائغ " يطوع عاصفة الحداثة ، يجعل القصيدة طلقة من رصاص تسكن اللحم ، والعظم ، والفؤاد ،  عمل على ترويض وحدته ، صاحبها حتى غدت معه ، الوحدة كأنها أنيسه ..!.. لماذا كأنها..؟.. إن الوحدة هو الذى يؤنسها ، أو هى التى تؤنسه ، كأنها تخرج من ضلعه للمؤانسة ، تضع يديها على كتفيه ، تربت عليه ، تمسح رأسه مسحًا يليق بوجودها معه ، أو وجوده معها ، فكلاهما جزء لا يتجزء من الآخر ، هما معا الشاعر نفسه ، هكذا بالتبادل بين : الشاعر والوحدة فى عالمها الهادىء الذى يتصف : بالفكر ، والتأمل ، والصفاء ..!.

و " الطاقة كي تصبح موصلة ، وهي تمتص الكثير من الطاقة ، وقد لا توصلها جيدًا وكما نريد ، كل ذلك يجعل مرهفي الإحساس يشعرون بالوحدة التي قد تصل إلى حدود الغربة ، وبالتالي ينكرون إمكان التوا صل " .(5). إلا مع وحدتهم ، الأنيسة المحببة ، الصديقة الدائمة ، المؤلمة ، الملهمة ، بإيجاز : شاعرنا يصيب الهدف بشعرية فائقة مدهشة ، متفرد حين يعصر الكلمة ؛ فتفوح : ألمًا ، أوجاعًا ، همومًا ؛ ليشارك المقهورين ، المطحونين ، المعذبين ، المهمشين فى كل ما يحدث لهم . يمثل " هذا الاتجاه على الطبيعة الإنسانية التي تنطوي على حاجات في الاتصال الدافئ  الملىء بـ : الثقة ، العاطفة ، الاتجاه الإنساني والإبداع ، الاحترام المتبادل في صيرورة دائمة التطور" . (6) ." عدنان الصائغ " له القدرة على التعبير اليسير .. اليسير .. اليسير .. الذى لا يجيده إلا المخضرمون فى عالم الشعر ؛ لأنهم يعرفون : مدن الكلمة ، أسرار الحروف ، شوارع الكلام ، رصيف الجسد الذى يعانى من : حجرية النوم شتاء .. صيفًا عبر العمر الذى لا يحياه إلا ميتًا بين أحذية الناس ؛ يقول " عدنان الصائغ " :

[ جالسًا
على الرصيفِ أمامَ صندوقهِ
يرنو لأيامهِ
التى ينتعلها الناس ].

* مجاورة النص :

قمة الحزن المتصاعد ، فى ساحة ذالبؤس المؤصل ، ظلم التراب للتراب ، الطين ينتعل الطين ، انظر لهذا المشهد الكئيب ..!.. فى لقطة أشد مرارة ، أشد ألمًا لهذا العامل " ماسح الأحذية " أو بتأويل آخر : إنسان يجلس أمام صندوق الذكريات - على رصيف العمر - فى شارع الحياة ، شارع الضجر ، شارع الموتى من الناس الذين يمرون ولا يمرون ، يدوسون ولا يعبأون أين تحط أقدامهم ..؟.. يدهسون الجسد ربما ، يدهسون الروح الضعيفة ربما ، الفقيرة ربما ،  المحتاجة ربما ، دون نظر أو بصيرة ، أو إحساس ، أو لفتة انتباهٍ عابرٍ لهذا الجالس  الذى يدخل الشاعر فى روحه ، يحاول أن يستنطقه ، أن يستبطن ما بداخله ، أن يستكشف ما يدور فى عالم هذا الرجل / الرصيف الذى قضى عمره عليه ، وعمله عليه ،  حياته عليه ، ذكرياته عليه ؛ فلا يجد إلا أن يبعد خطوات ؛ ليصور بقلمه الحزين هذا الرجل / الصندوق الأسود المخزن النفسىّ ، أو كما يسميها " يونج " : بــ " الخافية " أو كما يسميها " فرويد " بــ " اللاوعى " الذى فيه كل أحلام هذا الرجل الذى يعيش على رصيف الحياة مهمشًا ، ومن هم على شاكلته ..!.

* المخزن النفسىّ / الصندوق الأسود :

هذا المخزن الذاتىّ به كل طموحات هذا الجسد الحزين ، به كل ما خبأه من هموم وأفراح ، يرنو ، يقترب ؛ فلا يجد إلا ذكريات محطمة يدوسها الخلق ذهابا وإيابا ، صباحا ومساء ، كل وقت ، وهم لا يشعرون . حياة هذا الجالس حذاء يلبسه الناس حين تمر عليه الأيام يلقونه فى أقرب مكان للقمامة ، أو كيس أمام منزل ؛ ليحصل عليه من هم مثله ، ويشغلون رصيفًا آخر من الحياة الزمن ، أو يلقون به فى لفافة من الشرفة ؛ ليحصل عليها من يفتشون عن : الملابس ، والطعام ، والحذاء ، والعالم المُسمَّى بـ :" بمخلفات الآخرين الذين لا يشعرون بغيرهم إلا حين يحتاجون شيئًا أنانيًا لهم ولأبنائهم ..!.

* هيأة الرجل فى النص :

معروفة ضمنًا ، رجل يسكن فى الرصيف ..!.. كيف تكون حالته ، وعيشته ؟.. الحركة فى المشهد هى " الجلوس " الموقع / المكان هو " الشارع / الرصيف " . أداة المشهد هى : " صندوقه الأسود / النفس البشرية " . الحركة الثانية هى : " أحذية العابرين فى الشارع " عليه ، فوقه ، جواره ، أمامه ، خلفه ، عن يمينه ، يساره ، كل ذلك ضمنًا ، أو كما يقول : [ ينتعلها الناس ].

* مابعد النص :

يفتتح القصيدة " اسم الفاعل / جالسًا ، يستعير الشاعر ريشة الفن التشكيلى ؛ لينقش  بقلم يغلى – فى هدوءٍ – موضع الجلوس ، وهو " الرصيف الاسمى " انظرْ تبصر أنه يجلس أمام " الصندوق " . المعروف هو أن : الصندوق  يكون أمام الرجل / ماسح الأحذية ، لكن الشاعر يعطيك تأويلاً أخر يدرك أنك سوف تصل إليه ، وهو أن صدر شخصية المرسوم / ذاته فى القصيدة ، فى الصندوق ، النفس التى يحكى عنها الشاعر هى " الصندوق " الذى يمتلىء بكل تناقضات الدنيا ، فى اللحظة نفسها تشعر أن الرجل يجلس أمام صندوق حقيقى ، يداه منقوشتان بورنيش الحذاء ، ملابسه تغطيها كل ألوان الصبغات ، ألوان " الورنيش " رمز لما يحدث له فى الدنيا ، تتداخل الألوان الأوساخ عليه ، تلتصق بجسده ، تصير جزءًا لا يتجزأ عن لون الجلد ، تحرق الشمس البشرة ؛ لتقترب من لون " الورنيش " نتيجة السعى الدائم كدًا للرزق ؛ نتيجة لما يحدث لهذا الصندوق النفسىّ من امتلاء بالأقذار التى ينتعلها الخلق كما ينتعلون جواربهم وأحذيتهم ..!. أستطيع القول – إذن – : " إن مطمح أي مقاربة نقدية أن ترصد العناصر المكونة للنص ، تحللها ، تفسرها ، تؤلف بين تكويناتها في بناء يستطيع المتلقي تبينه ، واستيعاب مضامينه ، مضمراته ،  فهم معنى الأدب ، فحواه التي تحقق له أدبيته " (7) . تعطيه إنسانيته التى تحقق له العالمية ." عدنان الصائغ " شاعر يستحق عن جدارةٍ " نوبل " واعلموا : الجائزة هى التى تشرف به ؛ لأن شعره إنسانى : المولد ، إنسانى النشأة ، إنسانى التكوين ، إنسانى النضج ، دائمًا يتفوق على نفسه ، نصوصه تشهد له ، احترامًا لقدرته الإبداعية ، لكن " نوبل " – كما هو معروف – تذهب لاعتبارات أخرى ..!.

* فن قيادة النص :

الشاعر قائد مدرب ، القيادة فن ، قيادة الآلة غير قيادة الطين ، غير قيادة الطيور ، غير تدريب الطيور ، غير ترويض الحيوانات ، غير ترويض ما خلق الله عل الأرض ، غير قيادة النص / المعنى ، المعنى / النص ، مَنْ يقود مَنْ ..؟.. مَنْ يقود الآخر ..؟.. النص أم الشاعر ؟.. مَنْ يقود الثانى ..؟.. الشاعر أم المعنى ..؟.. مَنْ فى يد مَنْ ..؟.. مَنْ يدون مَنْ ..؟..
الشاعر الذى لا يعصى للنص أمر إذا حضر ..؟.. أم قوة الشاعر التى تستقبل النص كما يستقبل النص ذاته بذاته ..؟.. أم أن الشاعر يتلبس حالة حضور النص تلقائيًاتاركًاكل ما فيه للنص الذى فيه ..؟.
يقول " عدنان الصائغ " :

[ أدونُ النصَّ
أمْ أنه يدوننى ..؟ ].

حقيقةً : الأمر عسير - جدا -  تارةً : نرى التدخل الكامل من الشاعر ، تارةً : التراجع التام من الشاعر ؛ ليقود النص مسيرة نفسه ، وأخرى : نرى الذهنية حاضرة ، ليشكل كما يشكل " الجواهرجى " سبيكته ، الشاعر يحضر فى الوقت الذى يجب أن يحضر فيه ، يغيب فى الوقت الذى يجب أن يغيب فيه ؛ ليضفى شعرية على روح المعنى ، عذوبة على ملح القصيدة البحر ..!.

* تلاقى الأجيال :

وليسمح لى شاعرنا العظيم أن أذكر نصًا لى يعبر عن : " تلاقى أرواح الأجيال " مكتفيًا بذكره دون أن أعلق عليه بعنوان :  " أعشقُ النصَّ الذى يغتالُنى  " .

أعشقُ النصَّ الذى يغتالُنى
والكتاباتُ التى تقطرُ منِّى
ذاتَ يومٍ :
قد ْرأيتُ النصَّ يمشِى فِى خيالِى ؛
فانتفضتُ وانفعلتُ
قابضًا كفِّى عليهِ  ؛
فوجدتُ :
أننى فِى كفِّ نصِّى ريشةً
يحفرُ بِى
قدْ ظننتُ أننى أكتبُ نصِّى
والحقيقهْ
أنهُ يكتبُنى ..!.(8) .

* حماية النص :

يدخل الشاعر حدائق المعنى ، يستظل بأشجارها ؛ ليحمى النص / الابن وهو يقوده عبر طرق لم تطأ ، فى طريق البحث عن حفر الذات فى سماوات البقاء ، حماية النص تبدأ من : الرمز ، الإيحاء ، الصورة ، التركيب ، الإيجاز ، التشكيل ، الكثافة ، خلق حالة من السمو المطلوب لرفع النص . فى حالة المعجم البكر ، المعجم النائم فى زحام الصفحات نرى الكلمات بما تدل عليه فحسب من معنى هنا أو هناك ، قول يصول ، آخر يجول ، اللغة فى معجمها نشاهدها ترقد شبه ميتة ، مستيقظة ، شبه واعية فى سريرها المعجمى ، تنتظر ولدا شاعرًا يلمسها بريشة طيرٍ يجعلها تحلق فى سحاب المعنى ، تسبح فى غيوم الحروف ، يخرجها من سطورها المقابر ، يسقطها دهشة .. جمالا .. تعددًا ، فى قارات التأويل ، دول المعنى ، عوالم التشكيل الحى ، يفتحها عل أكوانٍ مغلقة .. مفتوحة ؛ لتتعانق الأكوان ؛ لتصبح كونًا واحدًا متعددًا فى كف الشاعر ..!.

اللغة هى : المادة الخام ، اللغة التى نكتب بها هى ، لغة خام مرنة ، لغة تنحت منهاحسب قدرتك كوخًا صغيرًا على شاطىء النهر ، قصرًا عظيمًا على شاطىء البحر يتحمل هبوب الرياح ، يقوى ضد الرعد و الزلازل ، ضد البرق المفاجىء من النص ، ضد الصواعق النازلة ، أو منزلاً وسطًا قريبًا .. بعيدًا عن الناظرين ، تحصنه بسياجٍ يمنع الأيدى من انتهاك المعنى بيسرٍ انتهاكًا كاملاً ، يجعل الشاعر- بعدها-  يفقد رونقه الزمنىّ ، حضوره الآتىّ ، تواتره العصرىّ . الشاعر يجعل على هذا السور النصىّ  سلكًا شائكًا هو : قدرة الشاعر على تسوير القصيدة ؛ ليحميها من تسلل العابرين الذين لا يجيدون شيئًا ، لا يحسنون فن الدخول إلى النص ،  يركنون ظهورهم للسور راحةً ، فجأةً : يسقط المعنى فى حجرهم وهم قاعدون دون أدنى تعبٍ ، لن يسألوا عن سبب وقوع المعنى هكذا ، كما فعل " نيوتن " مع " التفاحة " إنهم يلقون بالمعنى فى أول حركةٍ حينما يقومون ، ينفضون ثيابهم ؛ ليقع على الأرض سريعًا ، تدهسه الأقدام ، هكذا دون مجهودٍ ، أو قصديةٍ ؛ للبحث عن رحلة المعنى التى ينبغى أن يعد لها الباحث / المتذوق الذى يحمل كل ما يحتاج إليه من مدارس شعريةٍ ، ومناهج نقديةٍ ، وعلوم قديمة وحديثة ، وآخر ما وصل إليه العلم ؛ لتكون له معينًا ، ومساعدًا فى طريق العبور إلى النص ..!.

* قائد النص :

يقول الشاعر " عدنان الصائغ " :

أقودُ الكلامَ من يديهِ كضريرٍ
وأعبرُ بهِ زحامَ المعنى
خشيةَ أن يدهسَه أحدٌ
وهو فى طريقهِ إلى النص ..!.

يقول الشاعر :
[ أقود الكلامَ من يديهِ كضريرٍ ].

قائد النص لابد أن يكون شاعرًا ماهرًا ، الكلام فى حالته الأولى حالة المادة الخام الأصل نائمة فى المعجم القبر ، يتصدر القيادة فعلية الجملة الشعرية على اسميتها: [ أقود الكلامَ من يديهِ كضريرٍ ]. ولم يقل الشاعر : [ الكلام أقوده من يديه كضريرٍ ]. لم يقل مقدمًا الجار والمجرور : [ من يديه أقود الكلام كضريرٍ ]. لإثبات قدرته على التدخل فى النص أى : " لحظة الوعى " بـ " الكتابة " لحظة حضور " الذهن " لحظة حضور " العقل الواعى " وهو يمسك النص من يديه كضريرٍ ، أو الكلمات مثل الأعمى ، هل الشاعر – هنا برغم كل ما قيل الآن - أعمى يقود أعمى ..؟.. بمعنى : أن النص المفاجىء للشاعر يأمره بتدوينه ، والكلام فى ذلك الوقت أى : قبل حضوره إلى ذهن الشاعر يكون شبيهًا بالأعمى – أيضا- ..؟.. لأنه مجرد كلام مسطور فى المعاجم لا يعطى شيئًا سوى معانى المفردات ، الأعمى – أيضا- له اسم يعرف منه مثل : الكلمة لهااسم ، أو معنى تعرف به ، الكلام لا نعرفه إلا حين يكتب ،  يُسرد ، يحكى ، يقال ، كل ذلك فى يد الشاعر الضرير حين حضور النص فى لحظة ولادته ، ثم يبصر – بعدها- أو أثناءها ، يصبح ذا رؤية خاصة هذا الضرير أثناء التاشبك مع النص الحداثىّ ؛ فيفجر فيه ما أوتى من إلهام ، وانفعال ، وحضور للنص غير معلوم المصدر..!. لكن  " الإلهام نفسه ظل أمرا خفيا ذا طبيعة سحرية يحدث فجأة ، في ظروف لم يكن الفكر فيها مشغولا بأى مشكلة بل قد تكون في الحلم أثناء النوم"  (9) . أو تحت أى ظروف أخرى مشابهة .

* إنقاذ النص / العبور به :

يقول الشاعر" عدنان الصائغ " :

[ وأعبر بهِ زحامَ المعنى ].

رحلة العبور إلى المعنى هى : رحلة شاقة ، تتطاير المعانى فى الطريق ، وهى تحضر إلى بيت الشاعر ، منزله ، قصره الخيالى ، كوخه الصغير ، يستضيفها باهتمام - بالغٍ حسن - ، أو يعطيها ظهره لعدم فراغه ؛ لأنها جاءت فى وقتٍ أصابع الشاعر ليست على ما يرام ، تتوافد عليه المعانى ، يسقط منها ما يسقط ، يبقى ما يبقى ، يقوى ما يقوى ، يضعف ما يضعف ، تتزاحم على بابه ، تتكاثر عند لحظة الكتابة ، لحظة الكتابة الإبداع هى لحظة عرىٍّ كاملٍ من المبدع ، لحظة تحصينٍ كاملٍ ، لحظة بين : العرى والستر ، لحظة عرى المبدع لحظة لا يحب فيها أن يراه أحد ، لا بد أن يستر نفسه فيها ، لا يريد أن يُرَى على هذه الشاكلة ، لذا : يحتفظ لنفسه بما يريد توصيله للمتلقى ، فى رحلة زحام المعانى ؛ خوفا من أن يدهسه أحد ، وهو فى دربه إلى التعامل النقدى الجاهز " المقولب " مع النص ، والنقد " القالبى " يصيب النص بالضمور ، يمنحه إعاقةً ، تنمعه من التحليق صوب الممكن واللاممكن ..!.

*الذين يدهسون النص :

يقول الشاعر " عدنان الصائغ " :

[ خشية أن يدهسه أحدٌ ] .

الشاعر يغرس الحروف تحت لأرض ؛ ليحميها من أقدام العابرين ؛ فتنمو على سطح الأرض الأوراق مورقة للناظرين ، كلٌّ يصف الجانب الذى يقف فيه ، يخط ما يراه  حتى تكتمل الجوانب ، أو اتجاهات الناظرين للحرف الذى أهال عليه الشاعر تراب المعنى ، هناك من يمرون على حبة الشعر يدهسونها بألسنتهم دون أن يروها ، يدوسونها بأقدامهم ؛ لأنها جديدة عليهم هذه النبة المفاجئة ، لا يجيدون التعامل معها ، يعبرون عليها كما يعبر الاحتلال وطنًا ، تدوس أعضاؤه الغبية جسد القصيدة دون أن يشعروا بهذا الجسد المضىء الحزين الذى وهبه الشاعر : عمره الحزين ، روحه القلقة ، أصابعه المرتعشة من برد القصيدة ، وحمى الانفعال ، وذهنه المتقد: موهبةً ، أحلامًا ، جموحًا، عبقريةً ، وروحًا جديدةً قبل أن يدهسوا قلب المعنى حتى يكف عن ضخ الصور إلى بقية أعضاء القصيدة الروح ؛ لتصير كتلة صامتة .. صماء ، مصمتةً ، ميت البوح يخجل منها التأويل ، وأصابع النقاد الشرفاء ...!.

*شىُّ النصِّ :

يقول الشاعر " عدنان الصائغ " :

[ وهو فى طريقهِ إلى النص ].

التأويل فن لا يجيده أى ناقدٍ ، التأويل ملكة لا يمتلكها إلا الراسخون فى العلم ، الشاعر يحيط حائطه المحلَّى / البيت / النص بزحام التأويل المتفجر ، التأويل فتنة ، التأويل مدرسة ، التأويل جامعة ، التأويل سماءٌ لا يصعدها المؤل وإن أجاد ، المؤل يحاصره الشاعر حينما يشبك أصابع يديه ؛ لا يستطيع الخروج إلا بما شاء ، الشاعر حين يوسع من فتحة يديه قليلاً لخروج المؤل بصيد اللؤلؤ ، كلما أحكم الشاعر أصابعه ، وقلل من فتحات الأصابع يصبح التأويل عسيرًا ، صعبًا على من يسلكون دروبه على خط نار الحروف التى لا يستطيع أحد أن يلمسها إلا إذا حمل واقيًا خاصًا كى لا يصاب بأذىً ، أو يضل طريق القبض المتفلت  ..!.

الـتأويل يحتاج ناقدًا ينهج منهج الشاعر - ولو جزئيًا – يسير على الطريق نفسه ، يتلبس حالة الشاعر أثناء مخاض الإبداع ، أثناء نزيف الكتابة خلال لحظات الإنفعال الهاربة ، المتواصلة ، المتقطعة ، الحاضرة الغائبة ، الواقفة الساكنة ، المعتمة المضيئة ، الصاخبة ، الهادئة ، يشاركه  الأرق  الكد ، التعب ، الكد الذهنى ، يضع نفسه مكانه – كليًا – يشعر به حين يحذف كلمةً ، ويضيف أخرى ، حين يقدم مقطعًا على مقطعٍ ، بيتًا على بيت ، يدخل معه فرن العملية الإبداعية ، وهو يؤؤل ؛ ليشعر بصهد الشاعر ، بروح الشاعر ، بنار الإبداع وهى تسوِّى الكلمات ، وتطهى النص على فحم الإنفعال المفاجىء ؛ فيشم دخانًا متطايرًا يعبر الأفق ، يفتح صدره بكل انتعاشٍ ، يملأ رئتيه بهذا الدخان المبين المجازى ، يمد يدي خاطفًا لحم المعنى ، يضعه على طبق التقديم للقارىء ، كلٌّ له أسلوب خاص فى طريقة العرض ، فى شكل التقديم ، فى تطريز الحرف الشهى ،  يستطيع أن يعرف نوع الحبر ، ولحمه من رائحة شىِّ النصِّ ..!.

* مع النص :

النص جاء مكونًا من فعلين ، هما : القيادة ، والعبور [ أقود ، أعبر ] القيادة – طبعًا- تحتاج إلى العبور ، لكن هل كل شاعر قادر على العبور ..؟.. هل كل صاحب نص قادر أن يعبر بنصه الأزمنة القادمة ..؟.. هل كل شاعر يستطيع أن ينقل روح نصه إلى روح كل عصرٍ ..؟.. هل عبر الشاعر بالنص ..؟.. أم النص هو الذى عبر به ..؟.. أترك ذلك للقارىء ؛ لإثارة ذهنه ، وليشاركنا الرأى ، وليعلم القارىء أن " عدنان الصائغ " شاعر قلما يجود به الزمن علينا فى زمن أصبح فيه الشعر تحت مسمى الحداثة ، وما بعدها ، وما بعد بعدها .. مجرد ناطحات سحاب لا تتحمل مرور النسيم ؛ لأن ليس لها أرضًا ثابتة ، عفوًا : الأرض لا توجد - من الأصل - ..!.

كما سيطر الجار والمجرور على القصيدة مما يجعلنا نسأل سؤلاً ، وهو : مَنْ يجر مَنْ ..؟.. الشاعر أم النص ..؟.. النص أم الشاعر ..؟.. إنها علاقة تبادلية بين : الكلام ، وصاحب الكلام ، بين : النص ، وصاحب النص ، بين : الشعر الكون المفتوح ، والشاعر الكون المفتوح ، حين يميل هذا على ذاك تتعانق مجرات الرؤية الواحدة بين : الشعر والشاعر ، تدور فى مداراتٍ أخرى ، ربما تصطدم بمجراتٍ شعريةٍ أخرى ، أو تدور فى فلكها ، أوتعود كما كانت ، أو تنصهر معها وتذوب ، أو تصبح لها شخصيتها المستقلة إذا مستها يد الشاعر القدير الذى يعزف لكن لا يشبه الآخرين ..!.

* مع التأويل :

إذا تحدثت عن التأويل ، وأصوله ، وشروطه ، وبدايته ، وكنه ، ستطول الدراسة ، لكن " من الصعب أن نفرض تأويلاً وحيدًا لنص ما فإنه ، والحق يقال ، توجد معايير تثبت شرعية التأويل أو عدمها ، وإن كان النص يجيز لنا قراءات كثيرة ؛ فإنه لا يأذن لنا أن نقرأ كما نشاء ، وكيفما اتفق حسب أهوائنا . إذ لو جاز لنا أن نقرأ ما نشاء في أي نص نشاء لتساوت النصوص جميعها ،  ولاختفت الحدود بينها ، ونحن نعرف بتجربتنا أن الأمر ليس كذلك البتة . (10) . التأويل إما أن يكون فى صالح العمل الأدبى ، أو ضده ، أو يأخذ ما يناسبه ، يترك ما عدا ذلك ، يأخذ موقفًا وسطًا ، لا معه ، لا ضده ، فى صالح العمل الشعرى حين يضىء المعتم فى جوانبه ، يرش عليه من الضوء ذرات الوضوح ، يكون فى صالح العمل الفنىّ حين يبرز ما خفى ، يشير إلى ذكاء الشاعر ، حساسيته ، شعريته الناعمة ، يكون فى صالح القصيدة حين يضع يديه بجوار الشاعر ، يحاول أن يقول ما ستره الشاعر بزجاجٍ شفافٍ واضعًا عليه شارةً شفافةً تزيد متن كثافة الكلمة الزجاج ..!.
ولنأخذ قولاً للشاعر يمثل هذ الحديث – برغم إطاره – العاطفى المشحون بالتجربة الواقعية  ، الصادقة حد نزيف النزيف المسورة بالمرار :

أقولُ :
لعلَّ الستائرَ تلك الموشاة بالياسمين
تبوحُ ببعضِ الحديثِ
لعلَّ النوافذ تحكى لسيدتى من هواىَ الدفين
فمازال قلبى بكلِّ المواقدِ
- حيثُ الأحاديثِ -
مشتعلاً بالعذاباتِ
مازال دمعُ النجومِ وراءَ الزجاجِ الشفيفِ
يطرزُ جفنى وعشب الحديقة .
وما زال خلفَ الستائرِ شىءٌ يقال ..!.

* ضد التأويل :

أنا ضد الذين يتعاملون مع النص كعدوٍ لهم يجب : تأديبه ، ردعه ، قتله ، إبادته ، ضد الذين يدخلون إلى النص بسطحيةٍ .. بسذاجةٍ ، بطريقة بلهاء ، ضد الذين يحملون النص مالا يحتمل ، ضد من يتصيدون كل كبيرة وصغيرة ، يتصيدون مالا يتصيد ، ضد من يشوهون النص من أجل التشويه / من أجل حفر قبر للشاعر ؛ لأن هذا الشاعر مكروهٌ من المؤسسة أيًا كانت : دينية ، أو سياسية ، ضد كل من يحاول العبث مع النص ؛ للتقليل من شأنه ، وقدرته ، وأهميته ، وثباته فنيًا عبر الزمن ...!. ولنأخذ نصًا لـ  " عدنان الصائغ " لنحاول معه تجريب التأويل كمحاولةٍ للإقتراب من النص ، ودخول عالم الشاعر المتوتر ، لنفهم شخصيته الفريدة ، أو جانب منها ، ليكن هذا النص الذى يتحرك فى رمال التأويل بذكاء ، وشفافية ، وقدرة فنية طاغية ، يقول لشاعر " عدنان الصائغ :

[ تربعَ المربعُ
متنهدًا
على أريكةِ الصفحةِ :
كان يمكنني أن أمضي معكَ إلى الأبدِ
أيها المستقيمُ
لولا انهم أغلقوا عليّ أضلاعي ].
توجد بالنص عدة تأويلات ، هى :

* التأويل الأول :

أن " المربع " رمز للإنسان الذى تعرض لتكسير أضلاعه / الإعتداء على الجسد ، تحطيم أضلاعه ، أغلقوا عليه منافذ الحركة ، طرق التعبير ، سبل المرور – مما أصبح فى نهاية الأمر – بعد إطباق الأضلاع بعضها على بعض : شكلاً وحيدًا هندسيًا مثل : " المستقيم " – أيضًا – الأضلاع تتداخل بالإغلاق ، تقترب المسافات فيما بينها ، تقترب أكثر ، أكثر ، أكثر ، تنضغط بالقوة حتى تغدو زوايا المربع ، وأضلاعه المتبقية ضلعًا واحدًا مستقيمًا بفعل : الضغط المستمر ، القهر الدائم ، التدخل الأبدى ، التسلط القائم على الروح ، الجاثم على الجسد حتى يأخذ خطًا مستقيمًا هو الآخر بفعل القوة ، والضغط ، على النفس .

* التأويل الثانى :

أن هذا المربع رمز خاص بالشاعر يعرف مراده ، وإن أعطانا تأويلاً ، يتبقى المربع المتربع شيئًا ، حدثًا ، شخصًا ، موقفًا ، صورة فى خيال الشاعر- فى داخله - ربما لا نستطيع تحديدها ، و " من حقنا أن نشك فى كل تجربة تأويلية تخيل إلينا : أن كل شىء واضح ، معروف مكانه ، حدوده ، الإطار الذى ينتمى إليه " . (11) برغم توجهنا ، واختلاف ثقافتنا المائية .

* التأويل الثالث :

أن " المربع " مربع حقيقى تقمص الشاعر لغته ، تحدث عنه ؛ ليحكى إلى مستقيم مثله من جنسه / شكله .

* لغة الهندسة الشعرية :

- النص محاط بهندسة اللغة ، لغة الهندسة التى تتمثل فى : [ المربع – المستقيم – أضلاع ] . ثم منحها الشاعر سحابة شعرية ؛ ليكسر هذا الشكل الهندسى الذى استعار من لغة " الهندسة " بعض مفرداتها الشكلية فى عمل صغير ، لغة الشعر قد نخاف عليها حين نذهب إل لغة " الرياضيات " لكن الشاعر المدرك لما يفعل الخبير بموضع الكلمة الشكل ، القادر على خلق حالة من التوازن بين : الفكر ، والرياضيات ، يتجاوز ذلك لما تملى عليه القصيدة الملكة ما تريد ، أو تتنزل عليه الفكرة / النص ؛ فتنام على أريكة الصفحة هادئة مطمئنة ؛ لأنها تعلم أنها فى يد شاعر قدير أمين ، يبحث دائمًا عن الطريقة التى تليق بالقصيدة ؛ ليقدمها فى شكل : يثير الدهشة ، والتعلق بطريقة التعبير المبتكرة عن مراد القصيدة التاج .

-                              ومثل هذا الأسلوب الهندسى قول الشاعر " أحمد الشهاوى " الذى تراه فى مفردات [ تستقم – دائرة – مثلث - ] :

لا تستقم ؛
فالأرضُ دائرةٌ
ومثلثٌ هو موتكَ الآتى
وكمالُ ذاتكَ ناقصٌ
فاصعدْ
وكملْ دورةَ العشقِ
ابتدىْ.!. (12) .

- ومثل هذه اللغة التى تقترض من  " الهندسة " بعض مفرداتها الشكلية مثل قصيدتى التى بها هذه المفردات : [ الدائرة .. دائرى / مثلث / مكعب / مربع / مستطيل .. يستطيل / توازيا .. متوازى الأضلاع ]. أقول فيها :
 أنَا في طريقٍ دائريٍّ معتمٍ
مثلثٍ .. ومكعبٍ .. ومربعٍ
ويستطيلُ توازيًا وإرادةً بتربعٍ
لاَ ينحنِي رغمَ انكساراتِ التجاربِ والتأخُّر ..! . (13) .

والمربع بأضلاعه الأربعة يعطيك إيحاءً بــــ : الغرفة ، بالجدران الأربعة : إذ يمثل  الضلع جدارًا ، أو حائطًا ، ولو قال لشاعر: [ لولا أنهم هشموا علىّ أضلاعى ] . أى : استبدل [ أغلقوا ] بــــ [ هشموا ] لقلنا : إن المربع تفتت تشظى ، تناثر ، لكن لن يعطى القدرة على الضغط النفسى على أعضاء المربع الرمز ، ألغوا وجوده ، أصبح لا شيئًا نتيجة العدوان الدائم عليه ، على أضلاعه ، لكنه قال : [ أغلقوا ].أى : منعوا أى شىءٍ من الدخول له ، أى شىءٍ من الخروج منه ، حصار نفسى ، فكرى ، إبداعى ، داخل هذا الإطار المربع ، حبس داخل ذاته ، داخل شكله ، داخل إطاره المحَدد ، مع أن زواياه / أفكاره – فى الأصل – قائمة شامخة كروحه ، منتصبة قوية حاضرة ، مؤثرة ، الشاعر يؤكد : أنهم أغلقوا عليه أضلاعه معتمدًا على الضمير الغائب الجمعىّ ، والتوكيد الثانى الحرفىّ مع صيغة الماضى التى تثبت ، وتنهى قضيته التى لم يعد هناك مجال للشك فى العدوان الذى قد حدث من السلطة الدينية ، أو السياسية ، أو أى سلطة أخرى – أيًا كانت - .

* الإطار المشهدى :

يظهر فى قول الشاعر :

[ تربعَ المربعُ
متنهدًا
على أريكةِ الصفحة ].

هذا واصف لحالة المشهد قبل بدء الحوار ، وهذه لغة المسرح ؛ ليعيش المشاهد الحالة كاملة ، فالحركة هنا : هى الاستعداد للجلوس على هيئة الشخص المربع ، الصوت هنا : هو التنهيدة الطويلة الخارجة من الصدر المشحون بالإغلاق ، المكان هو : أريكة الصفحة ، يتضح أن أشخاص النص ، أو أصواته هو : الشاعر ، ذاته ، الورقة ، القلم ، الشخص المتخيل فى القصيدة الذى جلس متربعًا ، أو ليس هذا عالم الشاعر..؟.. يجرد من النفس نفسًا أخرى ؛ ليمسك كل نفس ، لتصلح للنفس الإنسانية ، مع ملاحظة : أن للمربع أربعة أضلاع ، كذلك جاء ضمير المتكلم للشاعر مكررا أربع مرات ، هل هى مصادفة من أن المربع الذى أغلقوا عليه أضلاعه هو الشاعر " عدنان الصائغ " ؟.. الذى فر مهددًا بالقتل مرةً : من الساسة ، وأخرى من السلطة الدينية المتطرفة ، وأخرى من الذين لا يرحمون القدرة على الإبداع ، ولا يطيقون المتخيل المبتكر الأعلى ...!.

* أعضاء القصيدة :

إذا أردنا أن نلمس أعضاء القصيدة ؛ فلنتأمل ما يمور فى النص المتأجج همسًا حين يقول : [ تربع المتربع ] يصعد إلى ذهنك حركة أعضاء الجسد من الأيدى والأرجل ، ملامسة الأرض ، اهتمام من المستمع/ المستقيم الذى يرمز للإنسان المتدين ، ثم يحدث زفيرًا – فى ثوانٍ - ينبىء عن طول التنهيدة من المربع المتربع فى وصفه قائلاً : [ متنهدًا ]. كل ذلك فى مكان محدد هو [ أريكة الصفحة ] التى يستريح عليها الشاعر من : غباء الآخرين ، من اضطهاد الآخر- أيًا كان – من تقلبات الزمن ، من عناء الدنيا ، من صراع الذات مع ذواتها ، من هموم الكون وما فيه ، وأريكة الصفحة هى : موضع مرور الشاعر ، أو جلوسه بسن القلم على صدر الورقة ذهابًا وإيابًا للتفكر ، أو موضع الكتابة / السطور ، مما يشعرك بلحظة من الصمت ، لحظة من الفكر ، لحظة من التأمل ، لحظة من المراجعة .

لم يقل الشاعر : [ على أريكةِ الصفحةِ وقالَ ]. بل دخل إلى الماضى ؛ لأن فى لغة الهندسة لا يوجد غير : المعطيات ، المطلوب ، البرهان ، حين ننتهى يكون هو المطلوب إثباته . كما نلحظ فى قول الشاعر : [ كانَ يمكننى أن أمضى معكَ إلى الأبدِ ] طول الجملة الشعرية ؛ لتناسب راحة الصدر فى التنفيس - أثناء الحكى – بعد الطول النسبىّ للتنهيدة . كما نجد : شدًا وجذبًا بين : [ كان ويمكننى ] الماضى والحاضر ، ثم يسحق الماضى الحاضر ؛ لتكراره : الدائم ، الغالب ، المؤبد . كما نجد : صوتين متفرعين هما : صوت الشاعر ، وصوت المربع ؛ ثم أخر الشاعر النداء على المستقيم ؛ لعلمه – مسبقًا – باستقامة المخاطب / المنادى عليه ، ثم يختتم بصيغة الماضى الثلاثية [ أغلقوا ] بعد : التربع ، والماضى ، والإغلاق [ تربع – كان - أغلقوا ] ليعطى رمزًا  مثلثًا هندسيًا للقهر التاريخى الذى حدث ، ومازال يحدث ، ويظل يحدث طالما حوصرنا داخل المربع / الحياة ، أو جدران الكون الذى أصبح محددًا فى شكل المربع الذى لا يستقبل ، ولا يرسل ، ولا يتحاور حتى مع ذاته  ..!.
تقول الكاتبة " ماجدولين الرفاعى " عن شاعرنا قائلةً : " حقيقةً : من يقرأ قصائد الصائغ يدرك : حجم الحزن ، والألم ، والمعايشة اليومية لنهر الظلم والموت " . (14).

* الخاتمة :

يوجدالكثير من قصائد الشاعر تستطيع أن تذهب مع التأويل إلى حدود أخرى ، أو يذهب التأويل معك ، أو أن تذهبا معا فى رحلة : عشق الحرف ، والكلمة ، وصهيل الإبداع ؛ ليتمتع عشاق الكتابة بأمواج التأويل على شاطىء القصائد ، وأن يقتربوا منها بحذر حين تأتى العواصف الحبرية لترمى بلوحاتها البحرية علينا ؛ فتلون شوارع الكلام بما تحمله من رسومٍ ضد ، أو مع ، لنتعامل بوعى حين تلقى علينا الكتل النارية من محيطها، اعلموا أنه على كثرة النقد ، ومناهجه ، ومدارسه ، وعلومه .. إلا أن النص هو الذى يفرض على الناقد - أى ناقد – نفسه ، وطريقة التعامل معه ، بمعنى : أن النص هو الذى يخلق نقده بنفسه خاطفًا القلم من يد الناقد دون أن يشعر . العالم الشعرى لـ " عدنان الصائغ " أكبر من أن تحصره دراسة صغيرة كهذه ، إن متعة قراءة الشاعر أكبر من كل الدراسات ، هكذا الشعر ، هكذا يكون ، هكذا يبقى .


-----------

- الشعر الوارد فى هذه الدراسة  للشاعر " عدنان الصائغ " انظر موقعه على الشبكة العنكبوتية ، وصفحته على الفيس بوك .
(1) - الإبداع العام والخاص . تأليف : د . مصطفى ناصف / ترجمة : د. غسان عبدالحي أبو فخر/ 23بتصرف / 1989م . / العدد 144/ سلسلة عالم المعرفة / الكويت .
(2) - وعـــي الحــداثــة . د. ســعد الـدين كـليب/ دراسات جمالية في الحداثة الشعرية / ص 124بتصرف / دراسة / من منشورات اتحاد الكتاب العرب /1997م.
(3) - أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح . آراء/ ميخائيل عيد / ص 8 بتصرف / دمشق: اتحاد الكتاب العرب/ 1998 م.
(4) – الأعمال الشعرية الكاملة / بلند الحيدرى / ديوان / أغانى المدينة الميتة / قصيدة : " وحدتى " / ص 219 بتصرف / الطبعة الأولى 1992م./ دار: سعاد الصباح .
(5) – الإبداع العام والخاص . تأليف : د.  مصطفى ناصف . ترجمة : د . غسان عبدالحي أبو فخر/ ص 22 بتصرف / 1989م ./ العدد144/ سلسلة عالم المعرفة / الكويت .
(6) – نفسه .
(7) - الطريق إلى النصّ / مقالات في الرّواية العربية / سُلَيمان حُسَين / ص91 بتصرف / من منشورات اتحاد الكتاب العرب / 1997م .
(8) – قصيدة : " أعشق النص الذى يغتالنى " شعر : محمد دياب . انظر صفحة الشاعر على : " الفيس بوك ".
(9) - الإبداع في الفن والعلم . تأليف د . حسن أحمد عيسى / ص21 بتصرف / العدد 24/ 1990م./ سلسلة عالم المعرفة / الكويت .
(10) - نظريات القراءة والتأويل الأدبي وقضاياها . د. حسن مصطفى سحلول / ص  28 ،  29  بتصرف / دراســـــــة / من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق – 2001م.
(11) – اللغة والتفسير والتواصل . تأليف : د. مصطفى ناصف / ص بتصرف / 183/ 1995م./ العدد / 193/ سلسلة عالم المعرفة / الكويت .
(12) – مياه فى الأصابع – أحمد الشهاوى – قصيدة "حديث الكمال" ص 141/ مكتبة الأسرة / الهيئة العامة للكتاب 2002م .
(13) – ديوان " أنا فوق أنا " . شعر : محمد دياب / قصيدة " الحب يقهر كل شىء " ص 95 / الطبعة : الأولى / 2008م .
محمد دياب .
***



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads