الرئيسية » » مقطع (3) | من ديوان منتصف الحجرات | أحمد يماني

مقطع (3) | من ديوان منتصف الحجرات | أحمد يماني

Written By هشام الصباحي on الاثنين، 4 يوليو 2016 | يوليو 04, 2016

3




أفتح النافذة التي تطل على حديقة صغيرة، الحديقة الصغيرة تطل على حديقة أكبر والحديقة الأكبر تطل على حائط باهت بارتفاع عشرة طوابق. إذا ما مددت البصر فسوف أصطدم بالحائط مباشرة ولكي أؤجل هذه اللحظة التعيسة فإنني أخفض بصري ناحية الحديقة الصغيرة التي لا أود استهلاكها بنظرة واحدة ومن ثم أفتح النافذة أولا، أحدق في زجاجها لدقائق ثم في شيشها الحديدي وبكل هدوء أخفض بصري ولا أرفعه حتى ينتصف النهار، ساعتها أمضي إلى الحديقة الأكبر.


هنا شجرة زيتون وارفة وبجانبها شجرة ليمون، أحدق فيها مباشرة وهي تكاد تسقط بأغصانها، الشجرة نفسها التي جفت تماما حين بلغت السادسة من عمري كانت هناك قابعة باصفرارها الذي خيب آمالي، كان مرعبا أن تحب شجرة تعرف أنها تموت يوما بعد آخر، المياه التي كنت أرشها عليها كانت تتشربها الأرض وفي صباح اليوم التالي تهزل أكثر، أحيانا كانت تنتعش للحظات، أوراقها المصفرة تتمايل مع الريح ويبدو أنها أخيرا ستستحيل إلى خضراء، بل إنها كانت تخضر أحيانا لكنها ما تلبث أن تخذلني وتجف فجأة. الشجرة نفسها أراها اليوم بالاصفرار ذاته، بالجفاف، بالموت القادم لا محالة عما قريب، أراها من نافذة غرفتي، في نظرتي الثانية الممتدة إلى الحديقة الأكبر، غدا سوف تموت شجرة الليمون ولن يبقى أمامي سوى الحائط الباهت، أما شجرة الزيتون الوارفة فلا تعنيني بالمرة، الحقيقة أنني لا أراها وإذا ما رأيتها فكشجرة تخص حديقة أخرى لا تقع في مرمى بصري في هذا الصباح غير الممطر والذي يجعل من حياتي صندوق أحذية متربة يمتد أسفل السرير.






 عصفورة بائسة تقفز فجأة وتحط على شجرة الليمون، تتنقل بين فروعها بخفتها وزيغ عينيها ولا يبدو أنها تفكر للحظة في الشجرة الوارفة بجانبها، في العراء تقريبا تضع عشها، العش الباهت فوق الشجرة الباهتة أمام الحائط الباهت في هذا اليوم الباهت الذي لم تمطر فيه ولم تطلع له شمس. الشجرة الذاهبة إلى حتفها كانت بعيدة عن المياه، المياه تهبط إليها لكنها تنساها، تتركها هناك حتى تأتي شجرة وارفة ودون استئذان تسحب المياه كلها إليها والأخرى تنظر فقط ولا تعلق، ترى طعامها في أفواه الآخرين وتمعن في الصمت.

 أغلق النافذة من جديد، أولا الشيش الحديدي ثم الزجاج، أقول وداعا لشجرة الليمون، وداعا يا شجرتي العزيزة، ربما التقينا في عالم أفضل أكون فيه شجرة ليمون وتكونين فيه شخصا يرص الكلمات بجانب بعضها في الليل ويبكي، لكن لا تقلقي، غدا سأفتح النافذة من جديد وستكونين هناك باحتضارك اللانهائي وأفراخ العصفورة فاتحة فاها والعصفورة حائرة في توزيع الطعام وطعامك بكل تبجح تسحبه شجرة زيتون وارفة.






التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads