ستيفن كوتش: تدريبات الكاتب (2/3) | ترجمة: رؤوف علوان

Written By تروس on الأحد، 20 مارس 2016 | مارس 20, 2016


ستيفن كوتش: تدريبات الكاتب (2/3)
ترجمة: رؤوف علوان

ما من طريق آخر لاستكشاف شعور، وطعم، وماهية الأشياء بالتحديد إلا عبر الذاكرة

التذكّر/ الذكريات. 

وهذا تنويع آخر على الخيال، فالخيال بالفعل هو نوع من التذكر الإبداعي. لا يمكن لأحدهما أن يقوم دون الآخر. الذاكرة ضرورية للكتابة حتى وإن لم يكن لكتابة مذكرات. وذلك لأن في النثر، الذاكرة – والذاكرة وحدها – تُضفي على الأشياء ماديّتها. ما من طريق آخر لاستكشاف شعور، وطعم، وماهية الأشياء بالتحديد إلا عبر الذاكرة. إن كُتّابَ الرواية، مثلهم مثل الشعراء، يجب أن يصبحوا ما أطلقتْ عليه ماريان مور: “حِرفيو الخيال”، الذين يصنعون: “حدائق خياليةً بضفادع حقيقيةٍ. إنّ التذكّر والتخييّل ثُقلا موزانةٍ يوازن كلاهما الآخر، بحيث يؤدي المزيج المتفرد لكل كاتب عند الموازنة بينهما، إلى تفرّده في أسلوبه أو أسلوبها”.  يقول فيليب روث: “إن ما يُؤخذ مباشرة من الحياة يساعد على دعم وتثبيت مستوى واقعية الكتاب؛ ويُزوّد مقاييس العوالم المختلقة بشيء يدعمها…” ملاحظة روث لها من القبول عند عظماء كتّاب الخيال أمثال غابرييل غارسيا ماركيز ولويس كارول بمثل ما لها من قبول عند كتّاب الواقعية أمثال ثيودور درايزر أو توم وولف أو (وأحيانًا) عند فيليب روث نفسه.  الذكريات الحقيقية من ماضي غابرييل غارسيا ماركيز عن كولومبيا، تحدّد ما كان “يعرفه” عندما خلق قرية ماكوندو الأسطورية. والطفلة آليس ليدل الصغيرة، التي يتذكرها لويس كارول، تقوده مباشرة إلى جحر الأرنب.

     أشار راسّل بانكس إلى ذلك بأن: “الحلم ككيان، يمتلك ذاكرة أشد حدّة من ذاكرة الوعي”. إنه كامنٌ في أكثر المناطق عتمة حيث تستتر الذاكرة، وحيث ملفات الأفكار الأكثر إشراقًا وأصالةً مخزونة. لنفترض بأنك ستكتب قصةً عن شخصٍ ما يصفع آخر. لا بد وأنك قد قرأت عن آلاف الصفعات ورأيت عشرة أضعافها على الشاشة. لكن هناك وبلا شك صفعةً واحدةً حقيقيةً على الأقل، مدفونة في مكان ما في ذاكرتك. هذا إلا إنْ كنت أمضيت حياة وديعة بشكل استثنائي. تلك الصفعة شديدة الأصالة – وربما أكثر من واحدة؟ –  تساوي جميع صور الصفعات التي شهَدتَها من على مسافة آمنة. لقد باتت جزءًا من أدواتكَ ككاتب، ومهمتك تكمن في استرجاعها.

     إن استرجاع الذكريات، وعلى غير المألوف، مرتبط بالقيام بفعل ساكن. لقد كان همينغواي يمتلك سريرًا متحركًا – ليس كالذي تجده عند المحللين النفسيين – يستلقي عليه وينطلق في ماضي ذكرياتٍ نصف منسيّة، محاولًا استرجاعها بأفضل وجه ممكن. آيلين سمبسون كانت تقوم بالشيء ذاته عند كتابة مذكراتها “الشعراء في شبابهم”. تقول آيلين: “كنتُ أتمدّد على الأريكة وأحاول أن أجد طريقي إلى عام 1947. وأنتظر لأرى ما الذي سيظهر على شاشة الذاكرة… بدا الأمر وكأني أنتظر تحت الماء كي تعبر أمامي فصائل أسماك معينة”. إن جهد محاولة استدعاء الماضي عمل شاق – فكل جزء منه بصعوبة الكتابة ذاتها. قد تمضي أحيانًا ساعة ولا يأتي شيء… ثم أخيرًا، ذات يوم، تذكرتُ وبوضوح عظيم، بأني ذهبتُ في يوم أحدٍ مع عائلة لويل إلى الكنيسة. رأيتُ القبعة التي كانت ترتديها «جين» بحوافّها المقلوبة. رأيتُ خيوط حذاء »كال لويل» الغير معقودة. ورأيتُ «كال» يأخذني إلى المقبرة بعد القداس – المقبرة ذاتها التي سيكتب عنها لاحقًا في قصيدته “طواحين كافيناه”.

     قد تكشف عملية استرجاع الذكريات عن مفاجآتٍ من كل نوع. إذ فبناءُ الذاكرة ليس بناءً سرديًا في هيئته إنما بناء يعمل بالتداعي. فالذكرى فيه تقود إلى أخرى ليس بتسلسل طوليّ لكن بمجموعات. وعندما تُشاهد هذه المجموعات متكتلة، فإن تجمّع الصور هذا بإمكانه أن يكشف عن أضعافٍ من  المعاني والأشكال المتضافرة. حول ذلك كتبَ فلاديمير نابوكوف: “أتابع بسرورٍ إنجاز الذاكرة الأسمىٰ، إنجازًا متقنًا لتجانسات عفوية تتآلف لينبثق عنها نغمات موسيقية شاردة من الماضي”. يتوقف نابوكوف بعد إسترجاعه واحدًا من أكثر الأماكن القصيّة والنائية من ماضيه – سنوات صباه في المدرسة – في كتابه (حديث الذاكرة) ليعيد انعكاس الإشراق الذي استعاده، يقول: “ذلك الواقع المهول يحوّل الحاضر إلى شبح. تـترعُ المرآةُ بالسطوع. نحلة طنانة تدخل الغرفة وترتطم بالسقف. كل شيء على عهده كما يجب أن يكون، ما من شيء سيتغير أبدًا، ما من أحدٍ سيموت أبدًا”.

المصدر : تكوين


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads