الرئيسية » , , , , , , , » الشاعر الفرنسي اندريه دو بوشيه غاب عن 74 عاماً . رائد "قصيدة البياض" غرق في هاوية اللغة بحثاً عن الجوهر | عبده وازن

الشاعر الفرنسي اندريه دو بوشيه غاب عن 74 عاماً . رائد "قصيدة البياض" غرق في هاوية اللغة بحثاً عن الجوهر | عبده وازن

Written By تروس on الثلاثاء، 1 مارس 2016 | مارس 01, 2016

الشاعر الفرنسي اندريه دو بوشيه غاب عن 74 عاماً . رائد "قصيدة البياض" غرق في هاوية اللغة بحثاً عن الجوهر 
عبده وازن

غياب الشاعر الفرنسي الكبير اندريه دو بوشيه أخيراً عن 74 عاماً، لم يحدث الضجّة التي كان من المفترض ان يحدثها غياب شاعر في مرتبته. شاعر استطاع ان يشكل ظاهرة فريدة في الشعر الفرنسي والعالمي عبر تأسيسه ما يُسمى "قصيدة البياض". وان لم يعرفه القارئ العربي إلا من خلال بعض الترجماتت القليلة. فهو شاعر عصيّ على الترجمة، صعب ونخبويّ وذو نزعة تجريبية.

الصمت الذي رافق رحيل الشاعر الفرنسي اندريه دو بوشيه يدلّ - أكثر ما يدلّ - على عزلة هذا الشاعر وعلى "وعورة" عالمه الذي لا يسلّم مفاتيحه بسهولة. ولولا القليل الذي كُتِب عنه غداة رحيله لمات دو بوشيه موت أي شاعر عادي أو هامشي، علماً ان الأثر الذي تركه في الأجيال اللاحقة لم يتركه شاعر آخر من شعراء جيله، أولئك الذين كانوا أقل عزلة شعرية منه وأقل انغلاقاً وصعوبة.
ليس في سيرة اندريه دو بوشيه المولود في العام 1927 ما يجعل منها سيرة صاخبة بالأحداث. فحياته كانت "شاغرة" مثل شعره الذي سمّي بـ"الشعر الشاغر"، وقد زادتها "عزلته" الخاصة هدوءاً وجعلتها أقرب الى حياة الشعراء المتقشفين، على رغم بعض الاطلالات التي كان يقرأ الشاعر خلالها قصائده "البيضاء" أو "الصامتة". ولعل هجرته الى الولايات المتحدة الأميركية في الرابعة عشرة من عمره كانت من أبرز الأحداث في مقتبل حياته. وامتدت الغربة تلك زهاء عشر سنوات كانت كافية لقطع علاقته باللغة الفرنسية خلال فترة التكوّن. لكن عودته الى باريس عام 1949 ارجعت اليه لغته الأم، وباشر حينذاك مشروعه الشعري الذي كرّس حياته كلها له، هاجراً العالم والمجتمع وربما الحياة نفسها. الأحداث الأخرى في سيرته لم تتعدّ الثلاثة أو الأربعة ربما. وأولها لقاؤه الشاعر الفرنسي بيار ريفردي 1889 - 1960 الذي سرعان ما تحوّل أباً له في المعنى الرمزي. لكنه لن يلبث ان "يخونه" لاحقاً كشاعر، من غير ان يتخلّى لحظة عن "أبوته". فالشاعر الشاب لن يتوانى عن اكتشاف لغته الشعرية الخاصة والفريدة والتي لا تشبه الا نفسها. الحدث الثاني تجلّى في مشاركته في تأسيس مجلة "العابر" ليفيمير التي كان لها اثر كبير في تطوير الشعر الفرنسي في مرحلة ما بعد الحرب الثانية. وضمت المجلة رواد القصيدة الجديدة من مثل: ايف بونفوا، جاك دوبان، لوي رينيه دي فوريه وباول تسيلان. أما سنوات صدورها فكانت بين العام 1966 والعام 1971. وبعد توقف المجلة تفرق شعراؤها ومضى كل الى عالمه ولغته.
وإن بدا اندريه دو بوشيه، منذ ديوانه الرئيسي "في الحرارة الشاغرة" 1961 شاعراً تجريبياً صعباً وغامضاً، فهو حاز الجائزة الوطنية الكبرى للشعر في فرنسا العام 1983. واستطاعت هذه الجائزة ان تكرّسه كشاعر رائد ومؤسس ولكن من غير ان تجعل شعره أو لغته الشعرية في متناول القراء العاديين أو الهواة. في هذا المعنى لم يبدُ اندريه دو بوشيه شاعر فرنسا حتى وان كان فرنسياً - على المستوى اللغوي - بامتياز. فشعره لا ينتمي الى عالم محدّد ولا الى زمن محدد. ولا يمكن استخلاص أي ملمحٍ للعصر وقضاياه من خلال قصائده. ولا يمكن ايضاً استنباط تحولات الحياة الجماعية من خلال شعره المشبع بالبياض والصمت. فهو شاعر المكان والزمن في المطلق، أي شاعر اللامكان واللازمن المتجليين في المكان والزمن. ترى ألم يقل هو نفسه: "على القصيدة ألا تكون مرتبطة بمكان أو بعصر"؟
لم يكتب أندريه دو بوشيه الا الشعر. حتى مقالاته النقدية القليلة ويومياته كتبها بحسب طريقته الشعرية، فإذا هي لا تخلو من ذلك "البياض" الذي وسم قصائده. أما ترجماته فكانت أشبه بالتمارين التي تخدم لغته وتطوّعها انطلاقاً من نصوص يتلقاها بإيقاعاتها قبل ان يبحث عن معانيها. وهكذا حملت ترجماته لنصوص فولكنر وشكسبير وجويس وهلدرلن وتسيلان وباسترناك آثاره اللغوية ونمّت عن مراسه الصعب. وتجلّت لعبته الخاصة في قصائد هلدرلن وتسيلان التي ترجمها على طريقته إذ انه لم يكن يجيد الالمانية تماماً.
كان من الطبيعي ألاّ يميل دو بوشيه منذ مطلع عهده الشعري الى الثورة السوريالية التي كانت بدأت تشهد انحسارها كحركة في مرحلة ما بعد الحرب الثانية. فهو ادرك على غرار شعراء جيله ان مشروع هذه الحركة اصطدم بجدار الواقع والتاريخ وخصوصاً بعدما فشلت في "تغيير العالم" عمْلاً بمقولة رامبو. وأدرك أيضاً ان "الأفكار" الكبيرة والايديولوجيات لم تعد تجدي في زمن أفقد الإنسان انسانيته وذاتيته وفردانيته. وكان عليه ان ينطلق بمشروعه "الفردي" الهادف الى تغيير العالم ولكن عبر اللغة وقدراتها السحرية. كانت اللغة في نظره أداةً وغاية معاً. كانت الهاوية التي ينبغي السقوط فيها بحثاً عن الجوهر المفقود والمعنى الغائب. ولعلّ هذا الهاجس دفع الشاعر الى الانقطاع عن "الخطاب" الشعري السائد والى تبني لغة خلوٍ من امجاد "البلاغة" ومباهج "الصورة" وأَشراك "المجانية". انها اللغة المعرّاة التي تلائم الكائن "المعرّى" وقد رماه التاريخ والواقع في حالٍ من العزلة الذاتية. ولم يكن البياض الذي جعله دو بوشيه، توأم اللغة ووجهها الحقيقي والمضيء إلا فضاء الكينونة، فضاء الحضور لا الغياب، فضاء "الرغبة في البقاء في العالم".
شاعر البياض بامتياز اذاً هو اندريه دو بوشيه، شاعر المساحات البيضاء التي تتخلل المقاطع والجمل وتغزو الصفحات و"جغرافيتها". غير ان هذا البياض الذي يصدم في أحيان عين القارئ لا مخيلته لا يعني الانقطاع أو "الوقف" بحسب ما يعبّر النحويون العرب مثلاً بل هو استمرار للقول الشعري ولتدفق اللغة الصامتة أصلاً والمكثفة والمختزلة دائماً. البياض هنا يجسد احوال الريب أو الشك التي تختزنها الكلمات في زمن تفتّت اللغة وتفككها وفقدها سماتها أو اشاراتها. ليس البياض هنا الا تجسيداً مادياً وملموساً أو فيزيقياً للفراغ، ذاك الركن الصامت الذي تقوم عليه العبارة.
غير ان البياض لا يكتمل الا عبر تجلّيه في "فضاء" الصفحة الذي هو "فضاء الكلام". فـ"مادة الورق" تستدعي مادة العالم. تصبح الصفحة شاشة ينعكس عليها ما يُقال وما لا يُقال. انها "الصفحة البيضاء الكبيرة التي تخفق في الضوء المدمَّر" كما يعبّر الشاعر. وحركة البياض الذي يتخلل الكلمات أيضاً، تنجم عن ايقاع ذلك "المحرك الأبيض" بحسب عنوان احدى القصائد الذي "يوقّع" الفراغ حافراً اياه في صلب الصفحة. ومن يتأمل صفحات دو بوشيه الشعرية يخيّل اليه انه ينظر الى فضاء تمتزج فيه الكلمات والفراغ. هنا يصعب على القارئ ان يدرك ان كان يقرأ الكلمات التي تسوّر البياض أم البياض الذي يحيط بالكلمات وكأنه صداها الطويل والمتواصل. أما القصائد فلا تتواصل أفقياً ولا عمودياً، بل تتبعثر في "ليل" الصفحة الأبيض، في هذا الفراغ المضيء الذي يحفر مجراه في صميم اللغة وخارجها. وكم يبدو غريباً أمر هذا الشاعر الذي لا يكاد يبني جملته حتى يهدمها. لكن مرحلة الهدم تبدو كأنها تصحح مرحلة البناء عبر البياض الذي يتصاعد من اللغة نفسها. ولعلّ هذه الصفحة المرسومة بالحبر و"اللاحبر" والمشرعة على "هواء" المعنى تتيح للنَفَس الشعري ان يعبر وكذلك للإشارات أو العلامات. وعبر هذه الحركة التي يتردد صداها بين الكلمات والبياض يتجلّى العنصر غير المرئي والكلام الذي لم يُقل والذي قد يفوق القول. وهذا البياض قادر حقاً على ان يعكس الضوء الذي يُغرق غالباً "مناظر" اندريه دو بوشيه ومشاهده الشعرية البعيدة من التجريد والمغرقة في حسّيتها أو فيزيقيّتها. فشعر دو بوشيه هو شعر الحضور في العالم وليس شعر الغياب عنه أو فيه، شعر العناصر لا الأفكار، شعر المادة لا العدم. وهنا يكمن سرّ الاختلاف بينه وبين استاذه ستيفان مالارميه الذي كان رائد "شعر البياض" منذ العام 1897 عندما نشر قصيدته الشهيرة والغريبة "ضربة نرد". كانت هذه القصيدة فاتحة عهد شعري حديث لم يعرفه الشعر الفرنسي والعالمي من قبل. وبدا احتفاؤها بالبياض مثيراً جداً ومفاجئاً. وما برح "بياضها" حتى الآن غامضاً، شديد الغموض، تماماً مثل الأسطر والكلمات التي تتبعثر على الصفحة البيضاء وشبه الفارغة. الا ان قصيدة مالارميه تلك تميل الى التجريد - عماد لعبته الشعرية - مُشرِعةً اللغة على العدم الذي طالما خلب الشاعر "الرمزي". وان كانت القصيدة بحسب مالارميه مصنوعة من "مفردات" يتوالد بعضها من بعض، فإن القصيدة لدى دو بوشيه مصنوعة من الكلمات - العناصر، من المفردات "الفيزيقية" والأصداء المدوية في الفراغ، من "الحرارة" والهواء، من الجفاف والرطوبة، من المحسوس واللامحسوس... بياض مالارميه في قصيدته الفريدة "ضربة نرد" هو بياض العدم، أما بياض دو بوشيه فهو بياض الحضور أو الكينونة. غير ان شعر دو بوشيه لن يكون شعراً ميتافيزيقياً حتى وان شرّع معانيه على فضاء من الصمت واللاقول واللالغة واللازمن واللامكان. فهو يكتب "ليجد علاقة مفقودة" كما يقول. والعالم "الأقرب" كما يعبّر، هو الذي يصعب النظر اليه على رغم كون الشاعر "كائن الأقاصي". الا ان هذه الصفة التي يطلقها دو بوشيه على الشاعر لا تعني ان الشاعر هو كائن الماوراء بل هو بحسبه، كائن موجود قبل وجود ذاته ومشدود دوماً نحو أفق تصعب الاحاطة به ويصعب ادراكه. أما الوعي الشعري فلا يتحدّد عبر الحال الداخلية التي يحياها الشاعر أو ما يُسمى عربياً بالسريرة، بل عبر الحركة التي تجعل الحال الداخلية تتجلّى في "الخارج"، أي تحت ضوء العناصر والعالم.
الا ان بياض القصيدة لدى دو بوشيه لا يكتمل الا عبر اللغة نفسها: اللغة المتقطعة والمتوترة التي تتوسّل "النقصان" لتصل الى الحقيقة التي تبغي الوصول اليها. فالقصيدة قائمة على لعبة من الأصداء الصوتية والدلالية التي تتداخل وتتدرّج وتتقطع. والجمل لا تكتمل في احيان ولا تصل الى نهاية ما أكيدة. يشعر القارئ ان عليه هو ان ينهي الجملة متخيّلاً "المعنى" أو "الجزء" الذي لا يختلف عن "الكل". ويعمد الشاعر كذلك الى الجمع بين مفردات وأفعال وصفات لا يجمع بينها جامع. ويسعى الى خلق صور متنافرة العناصر ومتباعدة الحقائق، والى ابتداع تشابيه "ينحرف" فيها المشبه عن المشبّه به. والأمثلة على هذه اللعبة كثيرة: "يخرج في الغرفة" يقول الشاعر، أو "صوت يظل جافاً على رغم المطر"، أو: "نار متجمّدة"، أو: "انها قطع من هواء أطأها مثل التلع". الا ان مزاوجة الشاعر بين العناصر المتناقضة والمتنافرة لا تماثل البحث عن حال "ما فوق واقعية". هنا تبرز نزعة دو بوشيه الهيراقليطية على غرار نزعة رينه شار فيذكّر القارئ بما قاله هيراقليط عن "التناغم الداخلي" الأعمق من التناغم الخارجي.
لا حدود بين الشعر والنثر في قصيدة دو بوشيه كما في معظم نصوصه. وقصيدته تنتمي الى قصيدة النثر ولا تنتمي اليها في آنٍ. ايقاعها لا تستمدّه من توالي المفردات والجمل وانما من حركة البياض أيضاً، من مسرى الأسطر الشعرية والمقاطع داخل فضاء الصفحة. ولعل العناصر هذه هي التي تميّز قصيدته البيضاء عن قصائد بعض الشعراء المستقبليين والدادائيين الذين خلبهم بياض الصفحة بدورهم. فاللغة لديه لا تنفصل لحظة عن الصمت أو البياض الذي "تجسّده" كجزء منها ملموس و"غائب" في الحين عينه. يقول دو بوشيه في احدى قصائده: "لأنني/ لم أكن لأريد ان تنغلق اللغة/ على نفسها -/ لم أكن لأريد/ ان تنغلق اللغة عليّ/ البياض الذي أدوّن عليه/ يختطفها...".
شاعر تجريبي، أندريه دو بوشيه، شاعر جعل من قصائده في أحيان "أبحاثاً" شكلية ولكن من غير ان يقع في شرك "الشكلانية" لحظة. البحث الشكليّ هنا نابع من مغامرة البحث عن الحقيقة كما تتجلّى وتتوارى في حقائق اللغة والطبيعة والعناصر. والتجريب يعني التجربة التي لا يغيب الشاعر عنها الأنا والذات. يقول دو بوشيه: "عندما اتحدّث فأنا الذي أتحدّث". وحضور الشاعر أو أبوته لا يلغي أبداً حضور "الكلمة". فالكلمة هي الشاعر وهي الذات. يقول دو بوشيه: "الكلمة هنا/ لا أنا". تصبح الكلمة أيضاً كلمة في المطلق على غرار معظم العناصر والأشياء والموصوفات لديه. فالماء لديه هو ماءٌ ما، النار هي نارٌ ما، والجبل هو جبلٌ ما... انها العناصر في المطلق، عناصر هي صنو الحقائق التي تعجز اللغة عن تجسيدها كاملة وعن التقاطها في حالتها النهائية.
قد يكون عالم دو بوشيه الشعري عالماً واحداً شرع في تأسيسه منذ قصائد ديوانه "في الحرارة الشاغرة". عالم واحد يتقطع ويتواصل عبر دوام مواضيعه وعناصره. عالم يكتفي بما هو أساسيّ ويميل عن التفاصيل. عالم مقفر وكثيف ولكن "شاغر" أبداً مثل "الحقيقة" التي تسعى العناصر اليها. هنا، في هذا العالم لا يلوح أي حضور انساني. لا نزعة ذاتية هنا ولا انفعالات ولا أحاسيس ولا مكابدة بل امعان في وحشة العناصر و"صحراوية" الفراغ و"خواء" البياض. والشاعر الذي أراد ان يكون غريباً عن الشعر في معناه التاريخي وعن اللغة في مفهومها اليومي لم يسعَ الى مخاطبة العالم والآخرين. وهو أصلاً لا يملك "رسالة" يود ان يؤدّيها، بل همه، كلّ همّه ان يبحث عن الحقيقة أو أن يجدها داخل لغة تُدرَك وتُحَسّ أكثر مما تُفهَم. ولعلّ هذا ما يفسّر ميل دو بوشيه الى الرسم والنحت وتحديداً الى عالم جياكومتي الذي يشكّل الفراغ جزءاً من حضوره.
شاعر الفضاء والانتظار، شاعر "الحضور الصافي"، شاعر العناصر والحركة، شاعر الفراغ والجفاف... قيل الكثير في دو بوشيه وفي "صنعته" الشعرية النقية والمعزولة والصعبة. لكن الشاعر يظل سليل شعره. فالـشاعر والشعر واحد، مثلما الكلام والصمت واحد، مثلما النظر والاصغاء واحد أيضاً. وكلما ابتعد اندريه دو بوشــيه عن "الشعر" اقترب من "الشعر" وكلما أمعن في قتل "الغنائية" انتصر لحركة العنــاصر والبياض.
من يقرأ اندريه دو بوشيه يسأل نفسه: هل قرأتُ اندريه دو بوشيه؟ وكلما أمعن في قراءته أدرك أكثر فأكثر انه يحتاج الى ان يقرأه.

اندريه دو بوشيه: قصائد
فُتحة
وجهنا، كمثلِ جدار، يصطدم
بالنار نفسها.
كالصقيعِ في الأفق الكثيف.
على الأرض المنقبضة، ألمس تلك الجبهةَ
التي ترتفع في جواري.
المســافة الأخـ
رى التي تحاكي الجبهةَ، عبر
هذي الحرارة الشديدة، كمثل الجسدِ الزهيد،
جسدِ الصيف.
الكلّ ينسرب عبر الماء الجامد، أنفاس الهواء.
الطريق المعقودة أعيدت الينا مشتعلةً بالنارِ.
لم أكن لأعتاد النهارَ
إلاّ في آخِرِ النهارِ
النار تشتعل الآن تحت اسم آخَر.
وجه الحرارة
متوقّفاً،
إلى أن يكشفني الهواءُ هنا، ملتمعاً،
ها انّي اتعثّر بالحرارة
تحت الخطى
وها أنذا أتوقّف
كلّما طرقتْ
حدقةَ الحجارة.
كَسْر
البعيدُ أقلّ نأياً من الأرض، السرير
الذي ينهش الهواء،
حينما تتوقّف، مثل نورجٍ
على الأرض المحمرّة.
أمكث فوق العشب، في الهواءِِ الساطع.
الأرضُ تقتحم ناحيتنا باستمرار
من غير ان ابتعد
عن النهار.
الآن، ما من أرضٍ
موطوءة. ولست لأبقى في الهواء العاري. على
هذه الطريق التي ترتفع.
التي تبلغ جبهة الحجارة.
قبل ان تجفّ السماء.
كما الهواء الذي يخترقه هذا الضوء، في قتامة
الحرارة.
خمرة النهار
خمرة النهار تبلغني
في منتصف النهار
المنتصف القاني
عبر طريقٍ في القعر
وقعقعةِ الحديد
الذي يخصّني
آنيةُ الأرضِ
تتداعى
كمثل منزل
حادثات
طالما تهت حول هذا البريق.
تمزّقت، مرّةً ثانية، في الناحية
الأخرى لهذا
الجدارِ، كما الهواء الذي تبصره،
حيال هذا البريقِ البارد.
في الناحية الأخرى للجدار، أبصر الهواءَ الساطع نفسه
في البعيدِ الذي لا ينقطع،
كمـثل المدى نفســــه للأرض المجـــزأة، التي أطأها بعيداً أكثر، لا أحــدَ يحسّ الحرارة.
سوف نتبرّأ من وجهنا، كما الهواء الذي يتوّج الجدار.
نيزك
الغياب الذي يحلّ منّي محلّ النَفَسِ يعود الى الهطول
فوق الأوراق كالثلج. الليل يتراءى. أكتبُ أبعد ما يمكن من نفسي.
قبل ان يصبح بياض الشمس
قبل ان يصبح بياض الشمس شديدَ القربِ
كيدك، هفوتُ من غير أنْ انطفئ.
في قتامة النهار، ليس الكلُّ، على هذي الطريق
إلا سقطة وبروقاً. إلى أنْ ينتشرَ المساءُ.
طريقنا لم تنهكها الحرارة التي
تعيدنا مستنيرين. من غير أن تتوقّف عند
هذه الحرارة. الطريق التي أَبيد فيها أيضاً
تتخطّاني كالريح.
أجهل الطريق التي ينسحب عليها نَفَسُنا.
النهار إذ يحلّ، يحيط بي.
يدي، المتعافية آنفاً، تكاد لا تخترق
الجفافَ، الالتماعَ.
* من أعمال اندريه دو بوشيه: "في الحرارة الشاغرة" 1961، أو الشمس 1968، من لم يُستدر نحونا 1972، التنافر 1979، الآن هوذا 1984، هنا، اثنين 1986، بقعة 1988، يوميات: 1952 - 1956 1990، قصائد ونثريات 1995... وسواها من الكتب التي تصعب ترجمة عناوينها.

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads