الرئيسية » » أضغاث أحلام | يحيى الشيخ

أضغاث أحلام | يحيى الشيخ

Written By هشام الصباحي on الخميس، 28 يناير 2016 | يناير 28, 2016

أضغاث أحلام
قبل الفجر يلوذ الموتى بفراشي الفردي الدافئ: أمي، وجدتي، واختي، واحيانا أبي، واصدقائي كلهم. لطالما كان ذلك قبل الفجر، حتى أمسى ضجيجهم وتزاحمهم حولي ساعة منبّهة لا تخطئ موعدها وآذاناً لاستيقاظي. لا يقلقني وجودهم حولي، بل يسرني، فلا أنهض من فراشي، واقضي الوقت معهم حتى اشبع منهم، فبعضهم غادر مبكرا جدا. ابقى ساكناً وحتى ترتوي روحي، وتشبع أرواحهم من الحياة التي انطوي عليها... مثل كل قروي، أنا لا أبخل على ضيوفي.
- صباح الخير فائق!
رفع رأسه وابتسم لي، وعاد إلى لعبته المفضلة، التي يجتهد فيها كل مرة: يعزف على أضلاعه. مرة بقلم الرصاص، ومرة بملعقة شاي صغيره يُعلقها برقبته، او ينقر عليها باصابعه.
- علّمني العزف، ارجوك! توسّلتُ اليه.
- هذا لا يحتاج الى درس. كل ما هناك أن تنتظر عظامك حتى تفرغ تماما، وتصبح خاوية كالقصب اليابس، وتنقر عليها. كل ضلع يعزف صوتاً خاصا به ويختلف من وقت الى آخر في اوقات النهار، ولكل مخلوق موسيقى داخلية خاصة. الضلع المكسور يبقى مجروح الصوت طيلة الزمن، لدى كل البشر.
وواصل يعزف. سألته:
- كل مرة تأتيني أسألك عن إبراهيم ولا تجيبني... لماذا لا يأتي لزيارتي؟
- إبراهيم مازال منشغلا يبحث عن الرصاصة في جمجمته... قلت له انها اخترقت الجمجمة وخرجت في ساعتها، لكنه لم يصدّقني ويعتقد انها مازالت هناك.
أخذته إلى مكان يحبه ومازال منشغلا في العزف على أضلاعه،. في الطريق قال لي:
- تعرف، أن المرأة ليست من ضلع الرجل المكسور، فهي لها ضلع مكسور هي الأخرى. 
رفع صدره وطوى ذراعيه كما يطوي الطائر جناحيه، واسترسل في كلامه:
- استنتج من هذا أن هناك كائن غريب نتج عن كليهما، من ضلع الرجل المكسور ومن ضلع المرأة المكسور...
قاطعته بلا صبر:
فائق ارجوك، ... دعنا من الاحاجي! وقلّ لي اية امرأة في حضنك هذه الايام؟
يبدو أن سؤالي كان فاشلا. وصلنا المكان ودلفنا اليه، من الضوء الشديد الساطع إلى الظلمة، فتعذر عليّ البصر، ولم تكن أمامي، في عمق المكان، غير بقعة ضوء تحط فوق جبين شاسع كنجد. سمعته يصيح:
- يا يحيى، خذ الكتاب بقوة!
- أهلاً رشدي!
جلسنا إلى جواره. كانت تفوح منه رائحة خمرة عتيقة. لكنه لم يكن عليلاً كما كان يبدو حين يشرب.
- ما زلتَ تسرف في شربها؟ سألته بخجل.
- لا! هذا الذي تشمه هو ما تبقى منها في رفاتي، فهي ليست متوفرة هناك... ولا قطرة منها! كذبوا علينا أولاد القحبة. 
تصاعدت انغام فائق، وغطت على حديثنا وعلى ضوضاء المكان والشارع، وصدح بصوته اليائس باغنية سومرية يغنيها دائما:
"آه، يا نزوتي ... يا نزوتي... يا نزوتي المسيطرة".
شربتُ "استكان" الشاي على عجل فأنا قد سمعتها منه مئات المرات، وغادرت. كان الظل يلوذ بالجدار ويتبدد بسرعة. بانامل نحيلة كان انور الغساني يرفع عن جبينه خصلات شقراء ذات اطراف ناعمة بلون الحنطة.
- أهلا أنور! حييته.
واصل طريقه كأنه لم يسمعن. لحقت به:
- أنور... أين أجد مؤيد؟
لم يتوقف، ولم يلتفت، وصاح وكأنه في الطرف الآخر من الكون:
- في كركوك ... يتعارك مع فاضل العزاوي بشأن البيان الشعري.
مع حاجتي الشديدة للقائه، ليس بي طاقة على السفر إلى هناك، فأنا اكره قضاء الطريق أجامل الركّاب، أو أراقبهم بعين جانبية، فأتجاهلهم وأدعي الانشغال بالافق الزئبقي الهارب بعيداً. خلفي سمعت احدهم يتنهّد. التفت اليه. أنا أعرفه، لكني لا أتذكر اسمه: أنه جارنا.
- أهلا اخي. أنا أعرفك لكني لا اتذكر اسمك.. هلا ذكّرتني به؟ 
ردّ علي بجفاء وعجرفة:
- لا أتذكره ! عليك انت ان تتذكر! لقد تركنا لديكم ذاكرتنا وغادرنا بدونها، فأية أمانة هذه؟
- حسناً... سامحني! اية خدمة تطلبها مني؟
- انا بحاجة لاسنان من الذهب الجيد. هلا ساعدتني في الحصول عليها؟
- أنها باهضة الثمن... باهضة جداً.
ابتسم وقال:
اقترض من المصرف مبلغا كافيا.
أخذته إلى مصرف عريق. ملأ الاوراق الالزامية للقرض، وطلبوا منه التوقيع عليها. فتح فمه الادرد وأخرج ختما اسطوانيا، مسحه بالحبر وختم به الاوراق. لم يعتمد المصرف توقيع الرجل وطلب كفيلا ضامنا له... التفت الي ّ وبلهجة آمرة قال:
- جاء دورك!
وقعّت على الأوراق صاغراً بضمان تسديد القرض خلال عام واحد من تاريخه. لم أسأل نفسي ما هو اسمه ومكان اقامته، وكيف اكفله بمبلغ يكلّفني الافلاس التام او قضاء حياتي كلها في السجن! الموتى لا يُرد لهم طلب.
من أقرب مكان لصياغة الذهب اشترى الاسنان المناسبة له، وضعها بين فكيه، ابتسم لي ابتسامة ناصعة، وغادر خفيفاً، يتهادى في مشيته، ولا اتذكر انه شكرني.
مرّ أمامي رجل شممت منه زنوخة دم خاثر، توقف قبالتي، مسح جبينه الدامي بكفه ورفعها في وجهي وصاح:
- يا لثأري... يا لثأري... يا للثأري المستبد.
مددت له يدي لاسعفه من دمه، نظر إلي برعب، جنّح ذراعيه، وطار عالياً.
بجوارنا كانت امرأة ثكلى، مازال على جبينها تراب الواقعة، قالت وكأنها تكلم نفسها:
لم يبق فينا غير الثأر... فالديدان أكلت كل شيء، ولم نتعلم منها غير أن نأكل كل شيء ايضاً.
نظرت إليّ بمحجرين خاويتين يتسلل من ثقبيهما ضوء باهت، واستطردت:
هذا أخي، مات منذ الف وبعض مئة، يقوم كل عام في موعده، شاهراً سيفه، يثأر لنفسه وينتقم من قوم خذلوه: يجبرهم يركضون الصحراء لنجدته، ولم يجدو غير السراب، وينطحون رؤوسهم بالحائط... الاموات لا يجيدون غير الثأر من الأحياء! ... أسأل صديقك ماركس.
مرّ ماركس مثقلا باصفاده، يعزف على ناي، تتبعه جحافل بروليتاريا رثة باتجاه المقبرة.
في نهاية الشارع صادفني خنزير بري ينقر طعامه كالطائر، عيناه مصباحان صغيران يضيئان الطريق.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads