الرئيسية » , , , , , , , » أول ترجمة عربية لرائد الشعر الإسباني روبين داريو | عبد الهادي سعدون

أول ترجمة عربية لرائد الشعر الإسباني روبين داريو | عبد الهادي سعدون

Written By هشام الصباحي on السبت، 3 أكتوبر 2015 | أكتوبر 03, 2015

من الجميل أن يحظى القارئ العربي أخيراً بترجمة لمختارات شعرية لرائد الشعر المعاصر المكتوب باللغة الإسبانية روبين داريو (نيكاراغوا 1867ـ إسبانيا 1916))، ومن المستغرب بالوقت نفسه أن تجيء متأخرة كل هذا الوقت وهو الذي له الشأن الأكبر بكل تطورات الشعر الحديث في إسبانيا وأميركا اللاتينية. الترجمة الأولى تجيء منشورة عن دار سنابل في القاهرة وعلى يد الكاتب والمترجم المصري المعروف طلعت شاهين، الذي أتحفنا قبل ذلك بترجمات مهمة لأسماء عديدة من الأدب المكتوب بالإسبانية مثل ماركيز، كلارا خانيس، جوردي استيفا، نوريا آمات، جيوكاندا بيللي، خوليو ياماثاريس وغيرها. في هذا الكتاب المترجم الجديد تتقدمه دراسة مطولة ومهمة عن تطور ودور روبين داريو في مسار الشعرية الإسبانية مع نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين ضمن موجات ما سمي بحركات المودرنيزيم التحديثية والذي يعتبر داريو رائدها الأكبر والأكثر تأثيراً في مسار الشعرية والأجيال التالية. الكتاب المنشور (يتضمن النص الأصل بالإسبانية) ترجمة أستطاع مترجمها الإقتراب بشكل كبير من نقل روحية النص الإسباني وانشغالاته الداخلية فضلاً عن تبيان علاقة القصيدة بمحيطها وظرفها دون الإخلال ببناء القصيدة وتقطيعاتها الأصلية.

بنظرة تقريبية للقارئ العربي يمكن عد الشاعر النيكاراغوي روبين داريو المجدد ورائد الشعرية الإسبانية بنفس مكانة شعراء الشعر الحر في ريادة الشعر العربي وما أحدثوه من ثورة في أنماط الشعر العربي. لقد كان أهم شخصية في أدب أميركا اللاتينية المعاصر، ويعتبره النقاد والباحثون الأب الروحي لحركة الحداثة “الموديرنيزمو” El Modernismo، التي كان كتابه “أزرق” الصادر عام 1888 إنجيلها ونموذجها الأدبي الرائع، وبفضل كتاباته وتأثراتها انتقل هذا الأدب مع نهايات القرن التاسع عشر من “أدب الهامش” بالنسبة للآداب المكتوبة باللغة الإسبانية التي كان مركزها في ذلك الوقت ومنذ فتح كريستوفر كولومبس للعالم الجديد عام 1492 العاصمة مدريد، ليكون أدب المركز المكتوب في تلك اللغة هو اميركا اللاتينية نفسها. كما يذكر المترجم في مقدمته للكتاب فقصائد روبين داريو خاصة كتابه (أزرق) يعد نقطة تحول مهمة في تاريخ الآداب المكتوبة باللغة الإسبانية، ليس فقط في أميركا اللاتينية بل في كل الأدب المكتوب في أسبانيا نفسها، وبصدوره تحول الهامش الأميركي اللاتيني إلى المركز وتراجعت أسبانيا لتصبح تابعة لهذا المركز اللغوي والأدبي الجديد. بل يمكن الإضافة على ان إسبانيا وبسبب هذا التحول والتغيير الشعري الكبير في الآداب المكتوبة بالإسبانية، لم تستطع إلا الرضوخ والتعلم من إضافات شعرية روبين داريو ومحاولة التواصل معه حداثوياً وشعرياً، وهذا يتبين بشكل واضح من خلال تقييم الشاعر في إسبانيا وعلاقته بشاعر المودرنيزم الإسبان ومدى تأثيره البين عليهم.

إن علاقة روبين داريو، بفضل تنقله وأعماله في أوربا ودول عالم مختلفة، كانت المفتاح الرئيسي لفهم شعري جديد، ومدى رغبته بالإستفادة من كل تلك الحركات الأدبية العالمية ومحاولة التأثير والتغيير في بنية اللغة الشعرية للأدب المكتوب بالإسبانية. إذ لم تكن حياة روبين داريو العملية مستقرة على الإطلاق، فقد تنقل بين العديد من دول أميركا الجنوبية بحثا عن فرص أفضل للحياة نظرا لتأثير التغيرات السياسية والانقلابات العسكرية على علاقته بالوظيفة، فقد انتقل عام 1886 إلى التشيلي قضى فيها حوالي أربع سنوات لينتقل بعدها إلى أوروبا مرورا بأسبانيا التي زارها لأول مرة عام 1892، وخلال تلك الزيارة كان مكلفا بتمثيل نيكاراجوا في الاحتفال بمئوية كولومبس، ثم عمل وزيرا مفوضا لنيكاراجوا في مدريد، وخلال تلك الفترة احتل العديد من المناصب الرسمية، ومثل بلاده في العديد من الاحتفاليات الدولية السياسية والثقافية، ومع ذلك كان خلال تلك الفترة نشطا في المشاركة الفعالة بتحرير العديد من الصحف والمجلات التي كانت تصدر في أميركا اللاتينية. ولعل هذه السمة بالتنقل والتواصل مع ثقافات ومنابر الثقافة في الدول الناطقة بالإسبانية مع المركز الأساسي إسبانيا، هو ما أتاح فعلياً لروبين داريو وحركته التجديدية من الظهور الكبير و البروز والتواصل والريادة.

و الشاعر النيكاراغوي ـ كما يذكر مترجمه ـ راح يستخدم في كتابة أشعاره أنواعا جديدة من الأوزان الموسيقية التي لم تكن مطروحة في الشعر الأسباني حتى ذلك الوقت، ومزج بين العديد من التفعيلات ليقدم تركيبا شكليا جديدا اعتبره النقاد خروجا على ما اعتاد شعراء اللغة الأسبانية استخدامه حتى ذلك الوقت، ليؤرخ نقاد الأدب الأسباني لظهور ما سيسمى فيما بعد بحركة “الموديرنيزم” El moderismo. ولعل من اللافت التركيز على إن كتابات داريو شكلت منعطفا مهما في الاهتمام بالقضايا الحياتية والإنسانية المهمة التي كانت تمر بها مجتمعات تلك المنطقة، فقد عبر الكاتب في كتاباته عن رفضه للكثير من ممارسات المجتمع البرجوازي، ومحاولة التقرب من أجواء الحياة اليومية العادية والتغني بالطبيعة القريبة، مثلها محاولة التقرب وفهم العلاقة مع الشرق والعوالم الغريبة التي بدأت هذه الشعوب بالانتباه لها والاهتمام بها لتشكل النظرة المشرقية في الشعرية الإسبانية الجديدة بؤرة مركزية ونقطة جوهرية في التناول والطرح.

إن كتابات روبين داريو إضافة إلى منحاها ومغايراتها اللغوية والشعرية الغنية، فقد راحت تكتظ بالصور والرموز غير المألوفة قبل ذلك في الشعر الإسباني، كما عليه الرموز الحيوانية وخاصة الطيور (كما عليه عينات شعرية كثيرة يترجمها المترجم في هذا الكتاب) مثل رمز الأوزة التي تصل فيها إلى حد الهوس التام والتعلق الكبير من قبل الشاعر داريو، مما حدى بالعديد من النقاد لوصفها بحركة الأوزة بدلاً من (التحديثية المودرنيزم) المعروفة بها أكاديمياً. وهذا بحد ذاته سيكون مدعاة لشعراء لاحقين تمردوا على الحركة وكانوا يرغبون بالقضاء عليها أو تجاوزها مما حملهم على شعار (كسر عنق الأوزة) كإشارة لبعدهم وعلاقتهم المنقطعة عن الحركة. لا ننسى الأشارة أيضاً إلى الحضور الرمزي للثقافة الإغريقية القديمة التي مثلت أيضا رموزها تكرارا مهما في أعمال روبين داريو. ويشير المترجم في مقدمته إلى أن شاعرنا كثيرا ما استخدم أسماء الآلهة الإغريقية بدلالاتها المختلفة، بل خصص أعمالا كاملة تجمع تلك الآلهة معا في صورة واحدة، كما هناك رموز أخرى لها علاقة بأعماله الشعرية والنثرية على حد سواء، فاللون الأزرق الذي اتخذه عنوانا لأول واهم كتبه تكرر هذا اللون كثيرا في أشعاره وقصصه متخذا دلالات أخرى مختلفة.

كما تميزت أشعاره في الحب بتنوع الملامح الجمالية للمحبوبة، وحسب رؤية الكاتب الإسباني “بدرو ساليناس” فإن هذا يعود إلى تعدد قصص الحب الحقيقية التي مر بها داريو في حياته وكان لكل واحدة منهن جمالها وشكلها الخاص، من أول الشقراء ذات العيون الزرقاء التي كانت أول حب له، إلى الهندية الأصيلة ذات اللون الأسمر كالشيكولاته، إلى السمراء وغيرهن ممن مررن بحياته، لذلك لا توجد امرأة مثالية في حياة داريو بل تتعدد المرأة المثالية بتعدد المحبوبات والعشيقات في حياته. وهذا ما جعل الشاعر روبين داريو أيضاً من إيجاد منحى أساسي للعشق والتوله كرمز من رموز القصيدة الجديدة وموضوعاً أساسياً سواء في تلك القصائد الحياتية الواقعية أو حتى تلك القصائد التاريخية وذات المنحى اليوتوبي والتاريخي القديم.

لكننا لا ننسى الإشارة هنا إلى ان روبين داريو قد أضاف من المواضيع العديدة ما تشكل سبقاً ومحاولة في التجديد داخل الشكل الشعري الإسباني ومنها بصورة أساسية موضعي الإيروتيك والغرائبية الإكزوتيكية، وكلاهما له علاقة بالمشهد المشرقي المنقول آنذاك وبكثرة عبر الرحالة والمستشرقين، مما جعل شاعرنا المطلع الكثير الأسفار على الاستفادة الواضحة والكلية منهما بعد أن كانا مجرد موضوعين مهمشين ويكادان لا يذكران بكثرة. ولعل العلاقة الواضحة لروبين داريو بثقافات العالم من خلال اللغة الفرنسية ومفاهيمه الجديدة المرتبطة بكل تلك العوامل هي ما جعلته على دراية تامة بما ينقص الشعرية الإسبانية من تحديث في الشكل والمضمون.

إن روبين داريو من خلال علاقاته الواسعة، أسفاره واطلاعه على لغات وعوالم وثقافات أخرى غير الثقافة الإسبانية، ما ساهم بشكل كبير في هذا التحول وهذه الإضافة العظيمة للشعرية المكتوبة بالإسبانية نهايات القرن التاسع عشر مع بدايات القرن العشرين. نموذج روبين هو نموذج الشاعر القلق المطلع والمنفتح على الآداب الأخرى، ولعل هذه الميزات ما ساهمت ببلورة مفاهيمه التحديثية لتكون كحجر أساس في الثقافة الإسبانية الجديدة التي سيبني عليها أجيال كاملة أسس الثقافة والشعرية الإسبانية وبأصوات مهمة تدين لروبين داريو هذه التجديدية كما عليه أصوات ماتشادو و خمينث و بايه إنكلان وأصوات التحديث الإسباني مع بدء القرن العشرين. هذه المنتخبات الشعرية لروبين داريو الأولى باللغة العربية تضم أيضاً منتخبات نثرية ارتأى المترجم ـ وفعل خيراً ـ بضمها لنهاية الكتاب لتمنح القارئ العربي فكرة أوسع عن أفكار وكتابات شاعرنا النيكاراغوي، وهي نتاجات تقرأ كاملة ولا يمكن فصل نتاجه النثري عن الشعري عن كتاباته ومقالات الفكرية الأخرى.

نموذج من أشعاره

قصيدة (المحتوم)

ملعونةٌ الشجرةُ التي لا تكاد تحس،

وملعونٌ أكثر الحجر الصلد لأنه لا يشعر،

لأنه ليس هناك ألمٌ أكبر من الألم الإنساني،

ولا أكبر إيلاماً من الحياة الواعية.

أن تحيا، دون أن تعرف شيئاً،

وأن تحيا دون توجه محدد،

والخوفُ مما كنته، والخوف من المستقبل....

والرعبُ المؤكدُ من أن تكون ميتاً في الغد،

والألمُ من الحياة ومن الظل ومن..

ما لا نعرفه ولا نكاد نتبينه،

واللحم الذي يعرينا بعناقيده الرطبة،

وألا نعرف إلى أين نسير،

ولا من أين جئنا...!

(أناشيد الحياة والأمل، باريس 1903)

 


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads