الرئيسية » , , , , , » طبيعة المتعة – ديفيد فوستر والاس ترجمة: راضي النماصي – مراجعة: أحمد الحقيل

طبيعة المتعة – ديفيد فوستر والاس ترجمة: راضي النماصي – مراجعة: أحمد الحقيل

Written By هشام الصباحي on الجمعة، 2 أكتوبر 2015 | أكتوبر 02, 2015

يسعدني في هذه التدوينة أن أقدم أول ترجمة إلى اللغة العربية لواحد من أهم روائيي مابعد الحداثة في الولايات المتحدة خلال القرن العشرين. كبداية، سأتحدث عنه وعن أعماله بإيجاز.

ولد ديفيد فوستر والاس سنة 1962، وهو روائي وقاص وكاتب مقالات، وأستاذ سابق للكتابة الإبداعية. جذب انتباه الوسط الثقافي منذ روايته الأولى “مكنسة النظام” حيث وصفتها صحيفة لوس أنجلوس تايمز بـ:” الجنونية، الإنسانية، والمعيبة بأسلوب رائع.”. بعد استمراره بالكتابة لعشر سنوات مابين القصص القصيرة والمقالات، قدم ملحمته “دعابة لانهائية” في أكثر من 1000 صفحة، وهي تصور المجتمع الأمريكي كمهووس بنفسه وبالمتعة والترفيه، دون حرص على مايرفع من شأنه. ولعلها أعظم نتاجه على الإطلاق. طالما وُصف والاس بأنه مكافح أبدي، على مستوى الكتاب والأشخاص. تحدث عنه الناقد الشهير أنتوني سكوت قائلًا: ” كان والاس من أهم كتاب جيله في الولايات المتحدة لأنه مثل مخاوفهم وتحدياتهم، وأبرزها بطريقة صافية وشجاعة وصارمة. يمكن أن أصنفه بـ( روائي الروائيين ). بقصصه القصيرة وروايته الكبرى (دعابة لانهائية)، قدم نمطًا ونبعًا يستقي منه كتاب الوقت الحالي في مشوار كتابتهم.”. أقدم والاس على الانتحار في 2008 تاركًا ثلاث روايات، ثلاث مجموعات قصصية، وست كتب غير روائية تنوعت مابين مجموعة مقالات وكتب توثيقية.

من ضمن مقالاته، تصف ماريا بوبوفا، وهي ربما أشهر مدونة في العالم، عبر مدونتها brainpickings ، مقالة “طبيعة المتعة” بأنها من أفضل ماكتب. والمقالة عبارة عن تأملات حول دافع الناس للكتابة، ممزوجة بوعي حاد للنفس البشرية، وبما يتأثر به الكاتب أثناء مشواره الأدبي.

أترككم مع المقالة، قراءة ممتعة.

طبيعة المتعة – ديفيد فوستر والاس

ترجمة: راضي النماصي  –  مراجعة: أحمد الحقيل

لعلّ أفضل استعارة تحضر في بالي حول كون الشّخص روائيًّا هي في رواية دون ديللّو[1] “ماو 2″، وذلك حينما يصف فيها كتابًا قيد الإنشاء برضيعٍ مشوّهٍ يطارد الكاتب أينما حلّ ويزحف خلفه: يسحب نفسه على أرضيّة المطاعم الّتي يأكل الكاتب منها، يظهر في نهاية السّرير عند استيقاظ الكاتب صباحًا.. الخ. رضيعٌ مشوه مخيف، رأسه غير مكتمل وبلا أنف، مكسور الذراع، لحوح، مختلّ، ويسيل من فمه سائل المخّ الشّوكي كلّما اشتكى أو صاح بوجه الكاتب مطالبًا إيّاه بالمحبّة، ومطالبًا إيّاه أيضًا بالشّيء الوحيد التي تضمنه بشاعته: انتباه الكاتب كليًّا.

 

المجاز الكامن خلف الرّضيع المشوّه مثاليّ، لأنه يجسّد مزيج الحبّ والنّفور لدى الرّوائيّ نحو شيء يعمل عليه. دائمًا ما تخرج الرّواية مشوهة بفظاعة، وقد خانت بشكلٍ مخيف كل آمالك حولها – صارت صورة كاريكاتوريّة قاسية ومنفّرة لكمال التّصور الذي تملكه عنها – نعم، أنت تفهمني: رضيع بشع لعدم اكتماله. ومع ذلك فهي تبقى لك، يبقى ذلك الرّضيع هو أنت، وأنت تحبّه وتدللـّه، وتمسح عن ذقنه الضّامر بقايا سائل المخّ الشّوكي، وتنظّف القميص الوحيد المتبقّي لديك لأنك لم تغسل ملابسك منذ ثلاثة أسابيع؛ لأنك ترى ذلك الفصل، أو تلك الشّخصيّة وهي تتأرجح أخيرًا على حد اللّقيا والاكتمال، وأنت مرتاع من أن تمضي أي وقت خارج العمل عليها، لأنك لو أشحت بنظرك لثانيةٍ ستفقدها، مما يحتّم بقاء ذلك الرّضيع مشوّهًا. ولكنك تحب ذلك الرّضيع، وترثي لحاله، وتهتم به؛ وفي نفس الوقت تكرهه – وبالفعل تكرهه – لأنه مشوه ومنفر، ولأن شيئًا بشعًا قد حدث له أثناء ولادته، من الرأس حتى كتابته على الصفحة. أنت تكرهه لأن تشوّهه يعني تشوّهك (فلو كنت كاتبًا أفضل لكان رضيعك ممّن يظهرون على إعلانات ملابس الرضّع: مكتملٌ وذو بشرةٍ ورديّة، وجذّاب بشكل يخلب العقول.) وكل نَفَسٍ بشعٍ له هو اتّهامٌ مباشرٌ لك على كافّة المستويات.. ولذلك رغبته ميّتًّا، على الرّغم من حبّك وشغفك به وتدليلك له، وحتى رغبتك في إنعاشه حينما تَسُدُّ بشاعته مجرى تنفّسه، وأنه قد يموت تمامًا.

 

يبدو الأمر برمّته مبعثرًا وحزينًا، لكنّه في نفس الوقت محرّك ونبيل ورائع، ويحثّ على العطاء – كنوعٍ من علاقةٍ أصيلة – وحتّى في ذروة تشوّهه، ينبّهك ذلك الرّضيع إلى ما تظنّ بأنّه أجمل ما فيك ويلمسه: تلك الأمومة المدفونة بداخلك. فأنت تحبّ رضيعك بشدّة، وتريد من الآخرين أن يحبّوه أيضًا، حينما يحين الوقت لذلك الرّضيع المشوّه أن يخرج ويظهر للعالم.

 

إذَنْ، أنت في موقفٍ محيّر: أنت تحبّ الرّضيع وتريد من الآخرين أن يحبّوه كذلك، ولكن هذا يعني أنّك تأمل من الآخرين في الوقت ذاته ألّا يروه بشكل سليم. إذًا، تريد أن تخدع النّاس بشكلٍ ما: تريدهم أن يروه كاملًا، وهو ما تعلم في قلبك أنه لا يمتّ بصلةٍ للكمال.

 

أو أنّك لا تريد أن تخدع أولئك الأشخاص؛ ما تريده هو أن يحبّوا رضيعًا مكتملًا، يليق بإعلانات الرضّع وباهر الجمال، وأن تجدهم محقّين فيما يرونه ويشعرون به. أنت تريد أن تكون مخطئًا بشكل مهول، وأن ذلك الرضيع المشوه ليس سوى تهيّؤات وتوهّمات غريبة من عندك. لكنّ هذا سيعني بأنّك مجنون، لأنّك كنت ترى تلك التشوّهات، وكنت مُطاردًا من قِبَلِها، وكنت ترتعد كلّ ذلك الوقت من تشوّهاتٍ بشعة – وبتشجيع من الآخرين – هي ليست موجودة على الإطلاق. هذا الأمر بسخافة احتمال أنّك ربما تكون الآن مجرّد إصبعي بطاطس مقلية في وجبة “هابي ميل”. يمكنك أن تتخيّل ذلك، ولكن الأمر سيزداد سوءًا: هذا يعني أيضًا أنّك ترى وتحتقر تشوّهاتٍ بشعةٍ في شيءٍ صنعته (وأحببته)، نبع من داخلك، وهو يمثّلك بشكل أو آخر. وأخيرًا، أفضل المتفائلين لن يرى هذا السّلوك سوى نوعٍ من الأبوّة السيّئة؛ سيبدو نوعًا فظيعًا من الاعتداء على النّفس وتعذيبها. لكنّ ذلك ما يمثّل أقصى رغبتك: أن تكون مخطئًا بشكل جنونيٍّ انتحاري.

 

لكنّه يبقى أمرًا ممتعًا للغاية. لا تفهموني خطأ. بالنّسبة لطبيعة تلك المتعة، أتذكّر دومًا تلك القصّة الغريبة الّتي سمعتها في مدرسة الأحد حينما كنت صغيرًا. جرت تلك القصّة في الصّين أو كوريا أو بلد مشابه. تحكي القصّة عن مزارعٍ مسنّ يتواجد خارج قرية في الرّيف، وهو يعمل في مزرعته بمساعدة اثنين: ابنه، وحصانه الحبيب. في يوم ما، كان الحصان، والذي لم يكن محبوبًا بقدر أهمّيته في عملٍ شاق كالزّراعة، قد حلّ لجامه وانطلق عبر التّلال هاربًا من المزرعة. اجتمع المزارعون الآخرون حول صاحب المزرعة ليرْثوا حظّه السّيء، بينما اكتفى المزارع بتجاهل الأمر وقال: “حظٌّ جيدٌّ، حظُّ سيّء، من يعلم؟”. بعدها بعدّة أيام، عاد الحصان وبرفقته عدد من الخيول البرّية. اجتمع أصدقاء المُزارع ليهنؤوه بحظه الرّائع، بينما اكتفى هو بترديد “حظّ جيّد، حظّ سيّء، من يعلم؟”. كان المزارع يردد ذلك ويتجاهل المناسبة مهما كانت. ما أستطيع تذكره هو أنّه في يومٍ ما، وبينما كانوا يهمّون بترويض الخيول، رفس أحدها ابنه بقوّة كافية لكسر رجله. وكالعادة، اجتمع المزارعون ليلعنوا ذلك الحظّ السيّء الذي جعلهم يقومون بإيواء تلك الخيول، والمزارع مثل كل مرة، كان يردّد: “حظّ جيّد، حظ سيّء، من يعلم؟”. بعدها بعدّة أيام، أتى الجيش الامبراطوري الكوريّ – أو شيئًا مثله – ليجنّدوا أبناء القرية الشّباب في المدفعية من أجل معركة قاسية مقبلة، وتركوا ابن المزارع بسبب رجله المكسورة استنادًا إلى قانون ما. وبدلًا من أن يواجه الموت، بقي الولد مع أبيه المزارع. حظ جيد؟ أم حظ سيء؟

 

نحن ندور في مثل هذه الدّائرة من الأحداث في نضالنا من أجل المتعة ككُتَّاب. في البداية، عندما تحاول كتابة رواية ما، فكل ما تبحث عنه هو المتعة فقط. أنت لا تتوقّع أن شخصًا آخر سيقرأها. كل كتابتك هي لأجل أن تستمتع، وتحفز خيالك، وتطلق آرائك الخاصّة، ولتضع على الورق أو تحوّل مالا تحبه في نفسك. وبالفعل، هذا ما يحدث، وهو أمر في غاية السّعادة والمتعة. بعد ذلك، إن كنت محظوظًا، وبدأ الناس يحبون ما تكتب، وبدأت تتلقى المال من أجل الرواية، وترى ما تكتبه وقد تم تنسيقه وتسويقه ومراجعته، بل قد ترى ذات مرة في قطار الصباح فتاة جميلة لا تعرفها وهي تقرأه، يبدو الأمر وكأنه ممتع أكثر من ذي قبل، وذلك للحظة ما. حينها تبدأ الأمور بالتّشابك والتعقّد، ناهيك عن كونها بدأت تصير مخيفة؛ تحسّ بأنك بدأت تكتب لأجل أشخاصٍ آخرين، أو أنك تأمل ذلك على الأقل. لم تعد تكتب منذ الآن لاستخراج ما بداخلك، والذي كان – بما أن أي نوع من الاستمناء تمارسه وحيدا وبإحساس من الفراغ – يبدو جيّدًا. لكن ما الذي يدفع هذه الرغبة الاستمنائية؟ أنت تجد نفسك قد أحببت كون النّاس تعجب بكتاباتك، وتجد نفسك حريصًا بشدّة على أن يحبّ النّاس ما ستكتبه في المستقبل. تستبدلُ الرّغبة في محبة النّاس تلك المتعة الشّخصية المحضة أثناء تقدّمك في مشوار الكتابة، تلك الرّغبة بأن تعرف أن هناك أشخاصًا جميلين يحبّون ما تكتبه ويعتقدون بأنك كاتب عظيم. كان استجلاء ما بداخلك هو الدّافع الوحيد للكتابة. الآن، صار دافعك الوحيد هو العمل الجدّي، والخوف من رفض الناس.

 

مهما يعني الكبرياء بالنسبة لك، فتأكّد بأنه دخل في مشوار كتابتك، أو ربما “الغرور” هو ما يعبر عن هذا الشّيء بشكل أفضل. لأنك تلاحظ أن جزءًا كبيرًا من كتابتك صار مجرد استعراض، ومحاولة لحمل الناس على الاعتقاد بأنك شخص عظيم. هذا أمر قابل للتفهّم. فهناك رهان يتعلق بذاتك أثناء الكتابة، وغرورك الآن على المحكّ. تكتشف في هذه اللّحظة أمرًا محيرًا في كتابة الرّواية: يلزم بأن يكون هناك قدر معيّن من الغرور لكي تتمّ الرواية، ولكن أيّ زيادة على تلك الكمّية تكون مميتة حتمًا. في تلك اللّحظة، هناك ما يربو على تسعين بالمائة من كتابتك يجري بإلهامٍ ورغبةٍ ماسّةٍ منك في أن تكون محبوبًا، وهذا ينتج رواية سيئة. والروايات السيئة يجب أن ترسل إلى القمامة، ليس لأيّ سبب فني بقدر ما سيجعلك هذا العمل محطّ كره الناس. في هذه المرحلة من تحوّل متعة الكتابة، الشّيء الذي كان يشجّعك على الكتابة هو نفسه ما يشجّعك الآن على رمي ما تكتبه إلى سلة المهملات. هذه المفارقة/المعضلة قد تستطيع حبسك عالقًا داخل ذاتك لأشهر وربّما لسنوات، وتبدأ إثر ذلك بالعويل والنّدم على حظك السّيء، وتتساءل بمرارة حول تلك المتعة الأولى وأين ذهبت.

 

من نافلة القول – كما أعتقد – هو أنّ الخروج من هذه المعضلة يكمن في بحثك عن الدّافع الأوّل لكتابتك والعودة إليه، وهو المتعة. وإن استطعت العودة إليها، ستجد أنّ تلك المعضلة السّابقة المخيفة لم تكن سوى من نوع من الحظّ الجيد بالنسبة لك، لأن تلك المتعة التي عدت إليها قد انسلخت من شعورك بعدم الرّضا الناتج عن غرورك وخوفك من الفشل، فأنت تتوق إلى مفارقة ذلك الشعّور، والمتعة التي أعدت اكتشافها ستكون أكثر امتلاءً وملئًا للقلب، متعة تجعل العمل كاللّعب، أو تجعلك تكتشف أن المتعة المنضبطة أروع من المتعة اللحظية أو المتعة المتسرعة، أو تجعلك تكتشف بأنّ ليست كل المفارقات تقود للحيرة. تحت إدارة جديدة للمتعة، أصبحت كتابة الرّواية طريقًا للحفر في داخلك، وأن تُظْهِر بدقّة ما لا تريد أن تراه أو يراه الناس؛ وهذا الشّيء الذي لا تريده أن يظهر ينقلب – بشكل أقرب للمفارقة – إلى أن يكون هو نفسه ذلك الشّيء الذي يتشاركه القرّاء والكتّاب ويتحدّثون حوله ويشعرون به. صارت الرّواية بطريقةٍ غريبة تشجيعًا للنفس وطريقةً لقول الحقيقة، بدلًا عن كونها هروبًا عن النّفس أو طريقة لكي تقدّم نفسك بالشّكل الأقصى للحبّ. ما يحدث أثناء هذه العمليّة هو معقّد ومربك ومخيف، وأيضًا شاقّ، لكن قمّة المتعة تكون هناك.

 

الحقيقة التي تؤكّد بأنك تستطيع الحفاظ على متعة الكتابة عن طريق مواجهة مالا يرضيك في نفسك، والّتي استخدمت الكتابة قبلًا لكي تتجنّبها، هي مفارقة بشكل أو آخر، ولكنّها ليست معضلة على الإطلاق. هي هبة، هي نوع من المعجزات، ونستطيع موازاتها بالجائزة الكامنة في تعاطف الآخرين كقدرتنا على موازاة الغبار بالوبر.

[1]  Don DeLillo (1936-الآن) روائي وقاص ومسرحي وكاتب مقالات أمريكي، يعتبر أحد أعمدة الرواية الأمريكية الحديثة بجانب جوناثان فرانزن وفيليب روث وجوناثان ليثيم. (ماو 2) هي رواية أصدرها ديللو سنة 1991، وتعتبر العاشرة في مسيرته الأدبية، وقد حازت على جائزة بن/ فوكنر المرموقة للرواية سنة 1992.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads