الرئيسية » , » ديفيد فوستر والاس: تجسّداتِ أطفالٍ مُحترِقين | ترجمة ريم غنايم

ديفيد فوستر والاس: تجسّداتِ أطفالٍ مُحترِقين | ترجمة ريم غنايم

Written By هشام الصباحي on الخميس، 1 أكتوبر 2015 | أكتوبر 01, 2015

كانَ الأبُ عندَ طرف المنزل يركّب بابًا للمستأجر عندما سَمع صيحاتِ الطّفل وصوت الأم يتعالى وسطها. اندفَع بسرعة، وكانت الشّرفة الخلفيّة مفتوحةً على المطبخ، وقبل أن توصَدَ شاشةُ الباب خلفه كان الأب قد أدركَ المشهد برمّته، القِدر المقلوب على بلاط الأرضية أمام الفرن وشعلة المَلهب الزرقاء وبركة ماء الأرضيّة والدّخان لا زال يتصاعد منها فيما أذرعتها الكثيرة تتمّدد، الرضيع بقماطه المرتخي يقف متيبّسًا والبخار ينبعث من شعره وقد احمرّ صدره وكتفاه وعيناه مقلوبتان لأعلى والفم فاغر على مصراعيه وبدا منفصلاً عن الأصوات المحيطة به، جثت الأم على ركبة واحدة تربّت عليه بالفوطة عبثًا وتؤالف بين صيحاته وصراخها، وقد أصيبت بالهستيريا إلى حدّ كادت تجمد. كانت ركبتها والقدمان الرقيقتان الصغيرتان الحافيتان لا تزال داخل بركة البخار، وكان أوّل ما فعله الأب أن تأبّط الطّفل ورفعه بعيدًا عنها متّجهًا به نحو المغسلة، هناك تخلّص من الصحون ودقّ فوق الصنبور ليدفق الماء البارد على قدمّي الطفل فيما أخذ يجمع الماء بكفّه المكوّرة ويسكبه أو يرشق مزيدًا من الماء البارد فوق رأسه وكتفيه وصدره، ومراده أن يتوقّف تصاعد البخار منه قبل أيّ شيء، الأم خلف كتفه تتضرّع لله إلى أن أرسلَها لإحضار مناشف وشاش إن توفّر لديهم، وقد تحرّك الأب بسرعةٍ وبإتقانٍ وخلا ذهنه الرجوليّ من كلّ شيء سوى الهدف، غير مدركٍ بعدُ سلاسةَ حركته أو توقّفه عن سماع الصيحات العالية، لأنه لو سمعها لكان جمد مكانه ولعجزَ عن فعل ما يجب فعله ليُسعفَ طفله الذي انتظمت صيحاته كالنّفس وتواصلت مدّةً من الزّمن حتى تحوّلت إلى غرضٍ في المطبخ، شيءٍ آخر للطواف حوله سريعًا. كان باب المستأجر الجانبيّ في الخارج معلّقًا بنصف ارتخاءة في مفصلته العلويّة ويتحرّك برفقٍ في الريح، وعصفور على شجرة البلّوط عبر الممرّ بدا كَمَن يراقب الباب برأس يميل جانبًا فيما تواصل ورودُ الصيحات من الداخل. بدت أسوأ الحروق في الذراع الأيمن والكتف، تلاشت الحمرة في الصدر والبطن إلى الورديّ تحت الماء البارد ولم تظهر نفطات في الجزء السفليّ الناعم لقدمَيه حسب ما رأى الأب، لكنّ الرضيع ظلّ يُطلقُ قبضاتٍ صغيرةً ويصرخ وبدت الآن أنّها ردّة فعلٍ على الخوف فحسب، سيُدرِكُ الأب لاحقًا أنّه ظنّها إمكانيّةً واردةً، وجهٌ صغيرٌ متورّمٌ وعروقٌ خيطيةٌ ناتئة عند الصّدغين وقد عاد الأب وكرّر إنه هنا إنه هنا، الأدرينالين يتناقص وثمّة شعور بالغضب تجاه الأمّ التي سمحت بوقوع الأمر قد بدأ يتراكمُ عميقًا في الجزء الخلفيّ من وعيه ولم يحن التعبير عنه بعد. عندما عادت الأم لم يكن متأكدًا هل يلفّ الطفل بمنشفة أم لا ومع ذلك بلّل المنشفة ولفّه، قمّطه بإحكام ورفع طفله من المغسلة ووضعه عند طرف طاولة المطبخ للتخفيف عنه بينما حاولت الأم تفقّد الجزء السفليّ لكفّتي القدمين بيدٍ تلوّح عند منطقة الفم وتغمغم بكلمات بلا طائل بينما انحنى الأب إلى الأمام مواجهًا وجه الطفل عند طرف الطاولة ذي المربّعات وهو يردد حقيقة وجوده ويحاول التخفيف من صراخ الرضيع لكنّ الطفل ظلّ يصرخ منقطعَ النّفس، كان الصوت متوهجًا نقيًا عاليًا لدرجة كان من الممكن أن يتوقّف قلبه وقد تلوّنت شفتاه ولثّته الصغيرة الآن بالأزرق الفاتح لشعلة خفيفة، فكّر الأب، إنّه يصرخ كأنّه لا زال يرقد تحت القدر المائل ويتألّم. دقيقة، دقيقتين مثلها بدتا أطول، والأمّ بجوار الأب تتحدّث بنبرة رتيبة قبالة وجه الطفل والكروان فوق الغصن برأس مائل والمفصلة تبيضّ بشكلٍ خطّيّ من وزن الباب المائل إلى أن تصاعدت حزمة البخار الأولى بتكاسل من تحت حاشية المنشفة الملفوفة وعينا الوالدين التقتا باندهاش- الحفاظة، عندما فتحا المنشفة وأسندنا الطفلَ إلى الخلف فوق الشرشف ذي المربّعات وفكّا الرّبطتين المرتخيتين وحاولا إزالة الحفاظة اعترض الطفل قليلا وأطلق صيحات عالية جديدة، كانت حفاظة طفلهما ساخنة وأحرقت أيديهما وقد أدركا أين تجمعت المياه الحقيقية وواصلا إحراق طفلهما طيلة الوقت وهو يصرخ ويطلب منهما المساعدة ولم يفعلا، لم يفكرا، وعندما أزالا الحفاظة وشاهدا الحاصل هناك تلفظت الأم بالاسم الشخصيّ لإلههم، وأمسكت بالطاولة لتحافظ على توازن قدميها فيما طاف الأب وصوّب لكمة في هواء المطبخ وشتم ذاته والعالم ولم تكن المرة الأخيرة فقد أمكن لطفله أن يكون نائمًا الآن لولا وتيرة تنفسّه وحركات يديه الموجوعتين الصغيرتين في الهواء فوق المكان الذي ينام فيه، يَدَين بحجم إبهام رجل بالغ تشبثتا بإبهام الأب في المهد وهو يتأمل فم الأب يتحرك شاديًا، رأسه مائل وبدا وكأنه يُدركُ شيئًا يفوقه، شيئًا جعل عينَي الطفل تثيران في الأب اشتياقًا على نحو غامض وغريب. إذا لم تبك يومًا ورغبت في البكاء، فأنجِب طفلاً. اكسِر قلبك داخلك وشيءٌ ما سيصيرُ طفلا هو الأغنية الرنانة التي يصغي إليها الأب من جديد وكأنّ السيّدة من المذياع تتواجد معه وتطلّ لترى صنيعهما، رغم أنه بعد مضيّ ساعات على ذلك، أكثر ما لن يغفره الأب لنفسه كيف تاقت بشدّة إلى سيجارة وقتَ قمّطا الطفل جيّدًا بالشاش وبمنشفتي يدين متصالبتين ورفعه الأب كَرَضيعٍ حديثَ الولادة والجمجمة في كفّ يد واحدة وتقدّم به نحو الشاحنة وأحرقَ الشارع في الطريق إلى البلدة وإلى قسم الطوارئ في المستشفى فيما ظلّ باب المستأجر معلّقا مفتوحًا طيلة اليوم إلى أن سقطت المفصلة لكن الوقت قد فات، عندما لم تنتهِ المسألة ولم ينجحا في وضع حدٍّ لها تعلّم الطفل أن يهجرَ نفسَه ويرقب البقيّة تتمدّد من نقطة فوق الرأس، وأيا كانت الخسارة فإنّها لم تغيّر شيئًا، وكَبُرَ جسد الطفل وتسكّع وسحبَ الأموال وعاش حياته مهجورًا، من جُملة أمورٍ أخرى، لم تكن روحه سوى دخان متطاير، تسقط كالمطر ثمّ تعلو، الشمس تعلو وتهبط مثل لعبة اليويو.


نقلا عن بيت الخيال

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads