الرئيسية » , , , , » أنطونيو غامونيدا… الشّعْر في مِرْآة المَوت خالد بلقاسم

أنطونيو غامونيدا… الشّعْر في مِرْآة المَوت خالد بلقاسم

Written By هشام الصباحي on الأحد، 20 سبتمبر 2015 | سبتمبر 20, 2015

   














أنطونيو غامونيدا… الشّعْر في مِرْآة المَوت 
خالد بلقاسم 

1. إضاءَة
مِنَ النّاحِية التاريخيَّة، يَنْتَمي غامونيدا إلى جيل أطْفال الحَرْب؛ الجيل الذي بَدأ الكتابة في الخَمْسينيّات مِنَ القرْن الماضي. غيْرَ أنّ غامونيدا احتَفظَ بما يَفْصِلُهُ عن الجَماعَةِ المَعْرُوفة بالخَمْسينيَّة، حتّى وإنْ حَصَلتْ تَقاطُعاتٌ كتابيّة، على نَحْوٍ عَفويٍّ، بَيْنَهُ وبَيْنَ بَعْضِ أعْضَائِها.
لقدْ ظلَّ غامونيدا مُؤمِناً، مُنذ الخَمْسينيّات، أنَّ الشِّعْرَ مُمارَسَة فرْدِيّة، تتطلَّبُ مِنْ صاحِبها أنْ يَسْمَعَ نبْضَهُ الذاتيَّ الحامِلَ لِجيناتِهِ التي لا تقبَلُ التناسُخ، وأنْ يَرْعَى هذا النَّبْضَ على نَحْوٍ فرْديّ. لا يَسْتَجيبُ الشِّعْرُ، وَفقَ هذا المَنظور، لِتَواطُؤاتِ جَماعةٍ شِعْريَّةٍ مَهْمَا تَسَنَّى التّقارُبُ النَّظريُّ بيْنَ عَناصِرها. ولعَلّ هذِهِ اليَقظة تجاهَ التكتّلاتِ الشِّعْريَّة هي إحْدَى العَلاماتِ التي تكشِفُ، مُنذ البَدْء، عَنْ حِدَّةَ الوَعْي الشِّعْريِّ لدَى غامونيدا، وَعَنْ حِرْصِهِ على تحْصين الصّوْتِ الذاتيّ الذي تتطلَّبُهُ كلُّ تَجْربَةٍ شِعْريَّة.
الشِّعْرُ، في تَصَوُّر غامونيدا، علاقة خاصَّة يَبْنِيها المُبْدِعُ، انطلاقاً مِنْ دَبيبٍ ذاتيٍّ، مَعَ قضَايا الإنسان، والذاتِ، واللّغةِ، والوُجُود. الشِّعْرُ هو ذلك الخاصُّ المُحَوِّلُ لِلْعَامّ. وَمَا بهِ يَتَحَصَّلُ هذا التَّحْويلُ شَبيهٌ بالوَجْه. العناصِرُ البانيّة للوَجْهِ وَاحِدَةٌ، لكنَّ الوُجُوهَ لا تتكرَّرُ وإنْ تشابَهَتِ المَلامِح.
بهَذا الوَعْي المُنتَصِر للدَّمْغةِ الذاتيّة، لمْ يُفرِّطْ غامونيدا في ما سَمّاهُ بالمُوسيقى الدّاخليّة، التي ظَلَّ يَسْمَعُهَا في أعْماقِهِ وألْزَمَتْهُ، أكثرَ مِنْ ذلك، الرُّكونَ إلى صَمْتٍ شِعْريٍّ في فترَةٍ مِنْ مَسَاره، كما سَيَأتي بيانُه. هذه الدَّمْغة هي ما مَكّنَهُ مِنْ نَسْج علاقةٍ خَصيبَة بَيْنَ الذاكرة والنّسْيان في مِرْآةِ المَوْت، التي اخْتَارَهَا، في العَديدِ مِنْ أعْمَالِهِ، مَوْقِعاً لِبنَاءِ المَعْنَى.
اسْتِناداً إلى هذا التّصَوّر، حَصَّنَ غامونيدا على نَحْوٍ مُبكّر، المَسَافة مَعَ الجَمَاعَة الشّعْريَّة التي بَرَزَتْ في فترةِ بداياتِه الشِّعْريّة. ولعَلَّ هذا أيْضاً ما تَسَنَّى في ما بَعْد لِوَاحِدٍ مِنْ مُجَايليه جَمَعَتْهُ بهِ قرَابَة شِعْريّة؛ نقصِدُ الشاعر أنخيل بالنطي، الذي شَقَّ لنَفْسِه، بعْدَ التّقارُب الذي تَحصَّلَ لهُ في البَدْءِ مَعَ الجَمَاعَة الخَمْسينيَّة، مَسَالِكَ كتابيّة فَصَلتْهُ عنْها، على نَحْو مَا تبَدّى مِنْ رهَانِهِ على الكتابة الشَّذريّة.
الحِرْصُ على تَخْصيبِ الصَّوْتِ الذاتيّ وَعْيٌ شِعْريٌّ بَلْوَرَهُ غامونيدا مُنذ البدايات. وبَيِّنٌ أنّ هذا الوَعْيَ، الذي شكّلَ لدَى الشاعر نوَاةً انطلاقاً مِنْ كتاباتِه الأولى، هو المُؤَمِّنُ لِكُلِّ تجْديدٍ، والضّامِنُ لانفِصالِ المُبْدِع عَنْ نفسِهِ باسْتِمْرار.
هكذا، فإنَّ القارئَ لِتَجْربَةِ غامونيدا؛ بشُسُوعِها المُمْتَدِّ في الزَّمَن والمُكثَّفِ لُغويّاً، يَلمِسُ، مُنذ الدّيوَان المَوْسُوم: "وَصْف الأكذوبة" 1977، دَمْغة مُمَيِّزَةً لِرُؤيَةٍ شِعْريّةٍ رَاهَنَتْ في بناءِ المَعْنَى على مِنطقةِ التّفاعُل بَيْنَ الشِّعْريّ والوُجودِيّ، على نَحْوٍ جَعَل شِعْرَ غامونيدا مُنطوياً على امْتِداداتٍ وُجُوديّة وميتافيزيقيّة، حتّى وَهُوَ يَتَحَدّثُ عنْ أشْياءَ مِنَ الطَّبيعَة أوْ مِنَ الحَيَاةِ الحَديثة.
تُعَدُّ هذِهِ المنطقة الكتابيّة مِنْ أهَمِّ المَدَاخل المُهَيِّئة للاقتِرَاب مِنْ عالَمِ غامونيدا الشِّعْريِّ الفَسيح. فيها بَلْوَرَ ذلك المَلْمَحَ الذي بهِ تَخْتَلِفُ الذوَاتُ الكاتِبَة، أي ذلك الماء المُخْتَرِق لِلُّغة والبَاني للإيقاع، أو بتَعْبيرٍ فِكريّ؛ تلكَ الطاقة على صَوْغِ تَسْميّاتٍ جَديدَةٍ برُؤيةٍ تَسْتَجْلي الوُجُوديَّ الصامِتَ في الأشْيَاء، مَهْما بَدَتْ هذه الأشْياءُ بَسيطة.
2. الصّمت الشّعريّ
والإبْدال الكتابيّ
ليْسَتِ المَسَافة التي بَناهَا غامونيدا مع الجَمَاعة الخَمْسينيَّة هي وَحْدَها العَلامَة على الوَعْي الشِّعْريّ الذي ميَّزَ مَسَارَهُ، بلْ ثمّة أيْضاً الصّمت الذي فرَضَتْهُ الكتابة عليْه في مَرْحلةٍ مِنْ هذا المَسَار.
بَعْدَ ديوان "بلوز قشتالي" (1961 – 1966)، الذي لمْ يُنشَر، بسَبَب الرَّقابة، إلاّ عام 1982، وفرائد II "هوى النّظرة" (1963 – 1970)، دَخَلَ غامونيدا في صَمْتٍ شِعْريّ امْتَدَّ قرابَة عَقدٍ مِنَ الزّمَن، كانَ لهُ أثرٌ فاصِلٌ في الإبْدال الكتابيّ عندَه. إلى هذا الصَّمْتِ يُشير في مُسْتَهَلِّ ديوان "وصف الأكذوبة"، قائلاً:
« خلال خمْسِ مائةِ أسْبوع كُنتُ غائباً عنْ نَوَايَاي / مُشْتَمِلاً بعُقيْداتي وَصَامِتاً حتّى اللَّعْنَة / وأثناء ذلك عقدَ التعذيبُ اتّفاقاً مَعَ الكلمات / والآنَ يَبْتَسِمُ وَجْهٌ وتَتَسَرَّبُ ابْتِسَامَتُهُ فوْقَ شفتيّ / ويُفسِّرُ تَحْذيرُ مُوسيقاهُ كُلَّ الخَساراتِ ويُرافِقُني »
قدْ يَبْدُو هذا الصّمْتُ، مِنَ زَاويةٍ مُبَاشِرَةٍ، مُتجاوباً مَعَ الشَّرْطِ التّاريخيِّ لإسبانيا السّبْعينيّات، ومع ما اقتَرَنَ بمَوْتِ الديكتاتور فرانكو عام 1975 وبالمَرَاحِلِ الأولى لِديمُقراطيّةٍ كانت لاتَزَالُ، زَمَنئِذٍ، في مَرْحلةِ التّأسيس، بمَا يَدْعُو الإنصاتَ الشِّعْريَّ إلى التفاعُلِ مَعَ تَحوُّلاتِ المَرْحَلة واحْتِداماتِها، قبْلَ تَحْويلِها نَصّيّاً وَفقَ ما يَقتَضِيه الشِّعْر. لكنّ هذا التّأويلَ المُباشِرَ يَبْقى، على رَجاحَتِهِ ظاهِريّاً، بَسِيطاً مَتَى تأمَّلْنَا الصّمْتَ بوَصْفهِ أحَدَ مُحَدِّداتِ هُويّة الكتابة ومِنْطَقةً في أرْضِهَا. ذلك أنّ الصّمْتَ ليْسَ حَالة مِنْ خَارجِ الكتابة، بلْ هُوَ جُزْءٌ مِنْها.
تَحَدَّثَ غامونيدا عَنْ هذا الصَّمْتِ بوَصْفِهِ لَعْنَة. لكنَّها لَعْنَةُ اللّغةِ السّاميّة التي تُصيبُ مَنْ جَعَلوا الكتابة حَياتَهُم الأسْمَى وأفُقَهُم الذي لا خارجَ له. غامونيدا واحِدٌ مِنْ هؤلاء. ويَبْدُو أنّ هذِهِ الصِّلة بالكتابة كانتْ مَصيراً غامِضاً في حَيَاةِ هذا الشاعر مُنذ مَوْتِ أبيه الذي تَرَكَهُ طِفلاً لمْ يُنْهِ سَنَتَهُ الثانية بَعْدُ. ذلك ما تَنْطَوي عليْهِ صُدْفة غَريبَة طَرَأتْ في بدايَةِ حَياةِ غامونيدا. وهي تَدْعُو، قبْلَ الإنصاتِ لأثر الصَّمْت الشِّعريّ، إلى النَّبْش في تَفْصيلٍ غَريبٍ وَحَاسِمٍ في آن. عَنهُ تَوَلّدَتْ هذِهِ الصُّدْفةُ الشّبيهَةُ بوَديعَةٍ، ولكِنْ مِنْ حُرُوف، جَعلتْ غامونيدا، وَفقَ تَرِكَةٍ يَتيمَةٍ، مَنْذوراً لِلْكتابة. فقدْ كانَ مَا وَرِثهُ عَنْ وَالِدِهِ رَسْماً سِرّيّاً لِمَصِيرٍ كِتابيّ.
كلُّ ما وَرِثهُ غامونيدا عَنْ والِدِه كانَ ديواناً شِعْريّاً بعُنوان: "حياةٌ أخرَى أسْمَى"، حَمَلتْهُ والِدَتُهُ وهي تَرْحَلُ إلى بيْتٍ جَديد. في هذا العمَل، أخَذ غامونيدا، لمّا بلغَ الخامسة مِنْ عُمره، يَتَعَلَّمُ القراءة. كأنَّهُ بذلك كانَ يَتَهَجَّى قدَرَهُ وهُوَ يَسْتَلِمُ وَدِيعَة رَمْزيّة، تَرْسُمُ بدلالةِ عُنْوَانِهَا مَسَارَ الطِّفل في شَقِّهِ للشِّعاب نَحْوَ حَياةٍ أسْمَى، بما يَتطلَّبُه هذا السُّمُوّ مِنْ تَوَقفٍ، وَحَيْرَةٍ، وَصَمْت. لمْ يكنْ هذا السُّمُوّ المُصَرَّحُ بهِ في عُنْوَان الوَديعَة اخْتِياراً غامِضاً لِحَياةِ الكتابَة التي ارْتضَاها غامونيدا في ما بَعْدُ، وَحَسْب، بلْ كانَ أيْضاً تَجَدُّداً يَقْتَضيهِ هذا المَصِيرُ السِّريُّ المَرْسُومُ في تَسْميةِ الوَديعة، بما يُلزمُ الشاعِرَ بالاستِجَابَة لِلصَّمْتِ كلّما دَعَتْ إليْه الكتابة وهِيَ تَشُقُّ للشاعِر مَسَالِكَ سُمُوّها.
في فترَةِ الصَّمْت التي أفْضَتْ في ما بَعْد إلى ميلادِ "وَصْف الأكذوبة"، صَرَّحَ غامونيدا، وهو يُخْضِعُ هذِهِ الحَالة الكتابيّة لِتأمّلٍ نَظَريّ، أنَّهُ شَعَرَ في لحْظةٍ مّا بشَيْءٍ يَتَحصَّلُ بداخِلِه. ولعَلّ ما تَحَرَّك بدَاخِلِهِ هو ما تجَسَّدَ في هذا الديوان؛ بناءً ودلالة، قبْلَ أنْ يَسْري بتلوُّناتٍ أخرَى في الأعْمَال التي تلتْ "وصف الأكذوبة". مَا سَمِعَهُ غامونيدا في أعْمَاق كِيانِهِ هِبَةٌ مِنْ هِبَاتِ الصَّمْتِ الشِّعْريّ. بهَا انْفَتَحَتْ أمامَ الشَّاعِر شِعَابٌ كتابيَّة أخْرَى جَديدَة، مُعَضَّدَةً بوَعْي حادٍّ، اسْتِحقاقاً لاسْتِئنافِ السَّفَر، أو اسْتِحقاقاً لِلسُّمُوّ، الذي قرَأهُ غامونيدا في اسْمِ الوَديعَةِ التي تَرَكها والِدُه.
بظُهُور "وصف الأكذوبة" الذي كانَ حَصِيلَة صمْتٍ كتابيّ، لمَسَ النّقادُ تَحَوُّلاً في مَسَار غامونيدا الشِّعْريّ. المَلمَحُ اللافتُ الذي شَدَّد عليْه النّقادُ في هذا التّحوُّل هو انتِقال غامونيدا مِنْ بنَاءٍ يَقومُ على أبْيَاتٍ شِعْريَّةٍ إلى بناءٍ يَنْهَضُ على كُتَلٍ لُغَويّة. المَلْمَحُ الثاني، جَسَّدَهُ التكثيفُ القويّ لِلّغةِ وَلِلْمَعْنَى. أمّا الثالثُ، فيَعُودُ في نَظَرهِم إلى اتّساعِ المَرْجعيَّة الأدَبيَّة والثقافيَّة التي سَرَتْ في بناءِ الدّيوان، وَسَمَحَتْ لِقُرّاءِ هذا العَمَل بمُلامَسَةِ ظِلالِ بريخت، وتراكل، ورامبو، وسانت جون بيرس، وغيرهم.
لَعَلّ أهَمَّ ما تَحَصّلَ مِنْ فترَةِ الصَّمْتِ أنّها جَسَّدَتِ العُبُورَ نَحْوَ تَجْربَة الكتاب الشِّعْريّ. ذلك ما كشَفَ عنْهُ ديوان "وَصف الأكذوبة"، مِنْ حَيْثُ البناء. وقدِ اقتَرَنَ هذا العُبُورُ، أساساً، بالحِوَار الذي حَقّقهُ هذا العمَلُ بيْنَ الأجْناس، مُؤمِّناً تفاعُلاً مَدْرُوساً بَيْنَها.
في "وصف الأكذوبة"، أدْمَجَ غامونيدا النّفَسَ السَّرْديَّ، ولكنْ عبْرَ إبْعادِهِ عَنِ التَّسَلسُل، مَعَ الحِرْصِ على تَوْجيهِهِ لِتَحْقيق الانتِقال مِنَ البناءِ بالبيْت إلى بناءٍ أشْمَل، فيه تَوَسَّل الشَّاعِرُ بكُتَلٍ لُغَويَّةٍ تَتَجاوَبُ مَعَ الرِّهان على الكتاب الشِّعْريِّ.
في اسْتِثمار النَّفَسِ السَّرْدي عبْرَ تَوْجيهٍ شِعْريّ، اسْتبْدلَ غامونيدا بالتّسَلسُلِ الكثافَةَ اللغويَّة، التي اغتَذتْ في المُمارَسَة النّصّيّة مِنْ تفاعُلٍ بَيْنَ غُمُوضٍ مُتوَلِّدٍ مِنْ التّرْكيب اللغَويّ ومِنَ القضايا الوُجُوديّة التي تَوغَّلَتْ فيها الذاتُ الكاتبة، حتّى وَهِيَ تُلامِسُ مَوْضُوعاتٍ ذاتِ إحالاتٍ خَارجيَّة.
هكذا غدَتِ الكثافة لُحْمَةَ النَفَسِ السَرْديّ الذي تَراجَعَتْ خَصَائِصُهُ النَّثريَّة إلى حُدُودِها القصْوَى، كيْ تُتيحَ لِلْكثافةِ النُّهُوضَ بلَحْمِ الكُتَل اللُّغَويّة في أفُق عَمَلٍ مُتكامِل. بهَذا النَّفَس المُتَحَرِّر مِنْ نَسَبهِ النَّثريّ هَيَّأ غامونيدا للتَّماسُكِ، الذي تَقتَضِيهِ تجْربَة الكتاب، وَجْهَهُ الشِّعْريّ. فقدْ رَاهَنَتِ اللُّغة على الحَدِّ الأقصَى لاقتِصَادِها، وعلى عَتْمَةِ الانْتِقالِ لا بَيْنَ الكُتَلِ اللُّغَويّة فحَسْب، بلْ أحْيَانا بَيْنَ أسْطُر الكُتلة الوَاحِدَة، أيْضاً. وَمِنْ ثمّ لمْ يَكُن الانفِتاحُ على النَّفَسِ السَّرْديّ إلاّ بغايَةِ مَحْوهِ والانْفِصَالِ عَنْه. وَهُوَ عمَلٌ شِعريٌّ دَقيقٌ يُجَسِّدُ الرِّهانَ على التَّكثيف.
ظاهِريّاً، تَبَدَّى العُبُورُ نَحْوَ تَجْربَةِ الكتاب الشِّعْريّ، في "وَصْف الأكذوبة"، مِنَ التَّخلّي عَنِ العَناوين الدّاخليَّة، التي تَنْهَضُ عليْها، في الغالب العامّ، المَجَاميعُ الشِّعْريّة. لِهَذا المَلمَحِ أهَمّيَّتُهُ، لكنّهُ لا يَسْتَوعِبُ تَصَوُّرَ الكتاب الشّعْريّ، بما هو مُمَارَسَة نَصِّيَّة تَقْتَضي عَمَلاً خاصّاً على اللغة وعلى العلاقة بيْنَ الأجْناس. ذلك أنَّ هذا المَلْمَحَ قدْ يَحْتَفِظُ بحُضُورهِ حَتّى مِنْ داخِلِ تَجْربَةِ الكتاب. فبَعْدَ "وصف الأكذوبة"، عادَ غامونيدا في البناء العامّ إلى العَنَاوين الدَّاخليّة، كما في "كتاب البَرْد" و"يَشْتعِل الخُسران" على سَبيل التَّمْثيل، ولكنّ الانتظَامَ المُوَجِّهَ فيهما لِلْعَناوين ظَلَّ مُسْتَنِداً إلى التَّماسُكِ الذي يَقْتَضيهِ عَمَلٌ مُتَكامِل. وَهُوَ ما كشَفَ أنّ تصوُّرَ الكتاب الشِّعْريّ أبْعَدُ مِن أنْ يُخْتَزَلَ في التّخلّي عَن العَنَاوين الدّاخليّة. ليْسَتِ هذِهِ الخَصِيصَة المُلمَحُ إليْها مِنْ خلال اعْتِمادِ النّفسِ السَّرْدي بمَحْوهِ سِوَى وَاحِدَةٍ مِنْ بَيْن خَصائصَ عَديدَةٍ، تَتَطلَّبُ دِراساتٍ تَفْصيليَّةً للاقتِرابِ مِنْ كيمياء البناء النَّصِّيِّ في أعْمَال غامونيدا، التي تَلتْ صَمْتَهُ الشِّعْريّ.
3. الموتُ مِرْآةً للمَعنى
لا يَنفكُّ المَوْتُ يَعُودُ في كتابَة غامونيدا. إنّهُ سارٍ في اللغة وفي الظِّلال التي تَحُفُّ بالدّوالّ، ومُوَجِّهٌ لِبنَاءِ المَعْنَى، إلى حَدّ أنّ غامونيدا صَرَّحَ بأنّ الشِّعْرَ: "سَرْدٌ للطَّريقة التي بهَا نَخْطُو نَحْوَ المَوْت". هذا السَّرَيانُ المُمْتَدُّ في مُخْتَلفِ عَناصِر البناء، يُبْعِدُ المَوْتَ عَنْ أنْ يَكونَ فقط مُجَرَّدَ تيمَةٍ في نُصُوص الشّاعِر. المَوْتُ أبْعَدُ مِنْ ذلك. إنَّه مَوْقِعٌ لإنتاج المَعْنى وللتّوَغُّل في الأشْياء، إلى حَدّ أنَّ غامونيدا غالِباً ما يَبْني التّسْمية الشِّعْريَّة مِنْ هذا المَوْقِع نَفْسِهِ، الذي يُصْبحُ، في الفِعْلِ الكتابيّ عنْدَهُ، مِرْآةً لاسْتِجْلاءِ المَحْو الذي يَسْكنُ الأشياء.
على هذِهِ المِرْآةِ تَتَجَلّى، شِعْريّاً، المنطقة الخَفيّة المَحْجُوبَة في ما يَظْهَرُ عادَةً بَسيطاً. وَهُوَ ما يَجْعَلُ امّحاءً يَنْفَتِحُ، على نَحْوٍ سِرّيّ، في الأشياء، وفي الذات، وفي عناصِر الطَّبيعةِ نَفسِها. فيَكُفُّ كلُّ شيْءٍ عَنْ أنْ يَحْتَفِظَ ببَساطَتِه، لأنَّ المِرْآةَ تُظهِرُ في الشّيْءِ مَوْتاً لا يُرَى، وحتّى إذا كانَ مَرْئيّاً، فإنَّها تُبْرزُهُ. وبذلك، فإنَّ غامونيدا لا يَكتُبُ عَنِ المَوْتِ وَحَسْب، بل يَكتُبُ، أساساً، انْطِلاقاً مِنَ المَوْت.
وَلَمَّا كانَ مِنْ خَصَائِصِ المَرَايا مُضَاعَفَة الأشْيَاءِ كما يُشَدِّدُ بورخيس في إحْدَى قصَصِه، فإنَّ وُجُوهَ المَوْتِ تَعَدَّدَتْ في أعْمَال غامونيدا. طَوْراً، يَحْضُرُ المَوْتُ انطِلاقاً من دَمَارٍ مُوَجَّهٍ بعَمَاءِ السُّلطة، أو مِنَ كُلّ الاخْتِفَاءاتِ البَانِيةِ للنّسيان. وَطَوْراً، يَنبَثِقُ مِنَ التّلاشي الذي يَسْكنُ الأشْياءَ وَيَنْخرها مِنَ الدَّاخِل. وطوْراً، يُطِلُّ مِنْ غوْر الذاكِرَة في صُورَةِ صَدىً قادِمٍ مِنْ طُفولة الشَّاعِر وقسَاوَتِها، أو في صُورَةِ وُجُوهٍ مُلتَبسَةٍ وَصَرْخاتٍ غامِضَةٍ آتيةٍ مِنَ البَعيد. وأطْواراً أخْرَى، يُقدِّمُ غامونيدا المَوْتَ اعْتِمَاداً على نُزُولٍ سَحِيقٍ إلى أعْماق جسَدِه في تَوَغّلٍ نَحْوَ غُرْبَةٍ داخِلِيَّةٍ غَائِرَة، أو اعْتِماداً على رَصْدِ الهَرَم يَدبُّ في الأعْضاء داخلَ صَفاءٍ لا يَسْتَريح، على حَدِّ تَعْبير الجُزْءِ الأخير مِنْ كتاب "يَشْتعِل الخُسْران".
في الحالاتِ جَميعِها، يَكونُ المَوْتُ مَوْقِعاً لِتَأمُّل الخَارج والدّاخل، وكوَّةً لِلتّوَغّل في المَعْنى، مِنْ غيْر أنْ يَحتَفِظَ المَوْتُ بدلالةٍ وَاحِدَة، وَكيْفَ لهُ أنْ يَحتَفِظَ بها وهُوَ ذرْوَةُ المَجْهُول؟
لَعَلَّ هذِهِ المِرْآةَ الكتابيّة هي أحَدُ عَنَاصِر عُمْق المَعْنَى وكثافتِه في أعْمال غامونيدا، بلْ هِيَ ماءُ الغُمُوض الذي يَسْري في هذِهِ الأعْمال. الأسُسُ البانية لِخَلفيّةِ هذِهِ المِرآةِ مَحْوٌ وَتَلاشٍ وَفُقْدانٌ واخْتِفاءٌ. ذلك ما يَتَحكَّمُ في صُورَةِ ما يَظهَرُ على صَفْحتِها.
ما يَظهَرُ في مِرْآةِ المَوتِ الكتابيّة يَكُفُّ عن أنْ يَبْقى بَسيطاً. في حَديث غامونيدا عَنِ الطُّفُولة أو عَنْ عَنَاصِرَ مِنَ الطَّبيعة، على سَبيل التَّمْثيل، يَنْبَثِقُ ظِلٌّ يَسْمَحُ ببُزُوغِ فقدانٍ، أو امِّحَاءٍ، أو غُرْبَةٍ داخليَّةٍ سَحيقة، لا لأنَّ ثمّة خَبيئاً في هذِهِ العناصِر وَحَسْب، بلْ، أيْضاً، لأنَّ مِرْآةَ المَوْتِ تُلبسُها وُجُوهاً عَديدةً، وتكشِفُ عَنْ صَمْتِها الذي لا يَرْتَفع.
أنْ يَكونَ "لِكُلّ مَسافةٍ صَمْتُها وشاهِداتُ قبورٍ" كما يقول غامونيدا، مَعْناه أنّ القبُورَ تُرافقُ الأشْيَاء وتُجَسِّدُ خَلفيّتَها العَميقة. أمامَ قبْر فارغٍ أنْفقَ الشاعِرُ زَمَنَهُ، مُسْتَنْزَفاً بأسْئِلةٍ لا تَزالُ تَغلي بداخِلِهِ، كما يُعَبِّرُ هُوَ نَفْسُهُ. ذلك أنّ الأسْئِلة الوُجُودِيَّة لا تَعْرفُ السُّكون.
ثمَّة اخْتِفاءٌ يَقودُ كُلَّ ظُهورٍ إلى التّلاشي. وَحْدَهُ هذا التّلاشي يَسْتَجْلي الحَقيقة. فيه "نَكُونُ حقيقيّين"، يَقولُ الشَّاعر. هذا الوَعْيُ الحَادُّ بالمَوْت لا يُفارقُ غامونيدا، يَجْعلهُ يَرَى الحَيَاةَ "تنطفئُ مثل دَوائِر الماء"، على حدّ تَعْبيرهِ.
في العَديدِ مِنَ الأحْيان، يَتَمَاهَى، على نَحْوٍ لافِتٍ، ما ينطفِئُ في الخارج معَ ما يَنْطفئُ في الدَّاخل. ولكنّ غامونيدا حَريصٌ في سياقاتٍ عديدة أيْضاً على تَصْوير هذا الانطفاءِ بوَصْفهِ ضَوْءاً. كثيراً ما تَمَاهَى الموْتُ، والذاكِرَة أيْضاً، معَ الضَّوْءِ في كتابتِه. غيْرَ أنّ هذا التّماهي لا يَحْتَكِمُ إلى أيّ خَيْطٍ غيْبي. إنَّهُ، على العَكْس، مُتَحَرِّرٌ تَمَاماً مِنْ كلِّ مُعْتَقدٍ أو نزُوعٍ غيْبيّ. تَمَاهٍ تَحْكُمُهُ لا مُبالاةٌ وُجوديّة ويَسْنُدُهُ نِسْيانٌ كبير. يَقولُ غامونيدا عَنْ ضَوْءِ المَوْت:
أحِسُّ الشَّفقَ في يَدي. يأتي عبْرَ الغُبَار
البَليل. أنا لا أوَدُّ أنْ أفكِّرَ ولا أنْ أكونَ مَحْبُوباً
ولا أنْ أكونَ سعيداً ولا أنْ أتذكَّر.
أريدُ فقط أنْ أحسَّ هذا الضّوْءَ في يَدي
وأنْ أجْهَلَ كُلَّ الوُجُوهِ وأنْ تكفَّ الأغنيات
عَنْ إثقالِ قلبي
وأنْ تَعْبُر العصافير أمَاَم عيني وألاّ أنتَبهَ
أنَّها مَضَتْ.
إنَّهُ تَخَلٍّ تامّ. زُهْدٌ عَمِيقٌ، مُتَحَرِّرٌ مِنْ كُلِّ تَعالٍ أو خَلاص. هُوَ صَفاءٌ مُتَحَصِّلٌ مِنْ عُمْرٍ أفْضَى إلى نِسْيانٍ خاصّ، وقادَ إلى لامُبالاةٍ حَكيمَة.
لا تظفر القراءة بتطويق كل تجليات الموت في كتابة غامونيدا. ليس فقط لأن هذه التجليات تحضر من خارج دال الموت، ولكن أيضا لأن الوشائج التي تتولد بين القضايا الوجودية، وفق المرآة الأثيرة عند الشاعر، لا حد لها، مما يمكن الموت من اتساع دلالي، ويخول للمقاربة التوسل به في التأويل.
ومن ثم فإن الاتساع الدلالي، الذي يقترن بالموت في أعمال غامونيدا، يعد واحدا من المداخل القرائية التي تسمح بمقاربة الوشائج التي تصل الموت عنده بالصمت، والغياب، والذاكرة، والنسيان. وهي وشائج عديدة، تتجاوز ممكن هذا التقديم الذي يتوسل بالتمثيل.
في مستهل ديوان "وصف الأكذوبة"، مثلا، يحضر الموت متماهيا مع الصمت من زاويتين، من غير أن يتضاءل احتمال دلالي آخر. ففي بداية الديوان، يقول غامونيدا: مثل مركب محترق في بلاد انسحب منها البحر/ استمعت إلى استسلام عظامي وهي تترسب في القرار/ استمعت إلى فرار الحشرات وانصراف الظل عند/ التحاقه بما تبقى مني،/ استمعت حتى كفت الحقيقة عن الوجود في المكان وفي/ روحي،/ ولم أستطع أن أقاوم اكتمال الصمت.
شريعة التأويل تسمح، متى استحضرت فترة الصمت الشعري التي أفضت إلى هذا القول، أن تجتذب الصورة فيه نحو دلالة تجعل من الصمت وجها من وجوه الموت. والشريعة ذاتها تتيح أن نقرأ الصورة بوصفها كتابة تراهن على المستحيل، ولا سيما إذا أدمجنا سطرا تقدم القول السابق، جاء فيه: "ولم أقبل قيمة أخرى سوى الاستحالة". أن يكون المستحيل القيمة الوحيدة التي يرتضيها الشاعر، معناه أنه يريد أن يكتب تجربة متمنعة التحقق، أي تجربة الموت. فالصورة الشعرية القائمة على احتراق مركب في بلاد انسحب منها البحر، هي الموجهة للمعنى الذي يستدعي تحلل الجسد وخفوت الروح في صمت القبر. ومن ثم، ليست هذه التجربة هي وحدها المستحيلة، بل حتى كتابتها تظل إقامة على تخوم المستحيل. إلى جانب هذا الاحتمال في بناء التأويل، يمكن الانتباه إلى أن تصدير الكتلة اللغوية الأولى، في "وصف الأكذوبة"، بهذه الصورة المبنية على الموت رهان صامت من الشاعر على بناء المعنى وفق ما يتجلى في مرآة الموت باحتمالاته المفتوحة.
لم يكن هذا الموقع الذي عول عليه الشاعر في بناء المعنى منطويا على اليأس أو التذمر، بل كان، من جهة، صوغا لتصور عميق عن الزمن، على نحو ما يتكشف من التشابك الغامض بين الذاكرة والنسيان في شعر غامونيدا. وكان، من جهة أخرى، كوة شعرية للاقتراب من غموض الحياة، والنفاذ إلى أسئلتها العويصة وإلى أسئلة الذات المنفلتة دوما. في مرآة هذا الموقع، كان الوعي بالغامض يتقوى، لا لاستجلائه بل لمصاحبة هذا الغموض وتغذيته عبر تركيب شعري يروم الاقتصاد في القول.
وقد ظل هذا الموقع متحررا، كما سبقت الإشارة، من أي تعال غيبي، على نحو مكن غامونيدا من النفاذ إلى غور الأشياء، والنزول إلى أعماق الذات، وتهييء لقائه بالمستحيل، الذي كان البديل من كل معتقد كما يلمح هو ذاته في إحدى القصائد. هذا التحرر هو ما قاد، أيضا، إلى تمجيد النسيان، الذي اعتبره غامونيدا، في نهاية "يشتعل الخسران"، الحكمة الوحيدة.
تبقى العلاقة بين الذاكرة والنسيان، في السياق ذاته، من أهم القضايا التي يمكن أن نصاحب عبرها التجربة الشعرية لغامونيدا. فالذاكرة لا تكف عن الاشتغال في كتابته. تحضر في دوال الزمن، أو عبر وجوه مبهمة. كما تحضر عبر صورة الأم التي لا تنفك تعود، وعبر الصرخات المخترقة للزمن، والضوء الذي ينفتح في الأشياء ويجعل زمنا سحيقا يطل منها. وفي المقابل، ثمة تقريظ لافت للنسيان. وهو ما يقتضي مصاحبة الدلالة الشعرية لجدل الذاكرة والنسيان، عند غامونيدا، من خارج مفهوم التقابل. ذلك أن كل نسيان هو أساسا بناء، بصورة ما، للذاكرة.
رهان وجودي بهذه الحدة لا يمكن أن يستقيم شعريا إلا بلغة كثيفة، تحتفظ في كل قول على ظلال وبياضات يتجاوب فيها الوجودي مع الشعري، وفق رؤية لا تفرط في الغموض، بما هو تفاعل بين اللغة وأسرار الحياة والموت.
في ضوء ما تقدم، يتبدى ما ينطوي عليه شعر غامونيدا من وعود للتفاعل مع العربية. وهكذا فإن ترجمة أعمال هذا الشاعر إلى العربية، بعد أن عرف العديد منها طريقه إلى لغات أخرى وفي مقدمتها اللغة الفرنسية، تعد حوارا خصيبا، يسهم في العبور بالصوت المتفرد لغامونيدا نحو أفق التأويل والضيافة الشعرية واللغوية، بما تقتضيه هذه الضيافة من تفاعل بناء. وقد انطلق التفكير في ما يحقق هذا التفاعل اعتمادا على تهييء وجهه الأول الذي تنهض به الترجمة. فبعد "كتاب البرد"، الذي ترجمه المهدي أخريف عام 2005، يقدم خالد الريسوني لقراء العربية ترجمة لعملين أساسين في تجربة غامونيدا، هما: "وصف الأكذوبة" و"يشتعل الخسران"، بما يغطي مرحلة هامة من المسار الكتابي لهذا الشاعر. وهو ما يدعو، في الآن ذاته، إلى التفكير في ترجمة الأعمال الشعرية الأخرى.
*******************
(*) التقديم الذي أعدَّهُ الباحث لترجمة ديوانيْ غامونيدا "وصف الأكذوبة" و"يشتعل الخسران"، التي أنجزها خالد الريسوني. 






التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads