الرئيسية » , » مَوتى يَجرون السَماء | موسى حوامدة | العدد الثانى والعشرون | كتاب الشعر

مَوتى يَجرون السَماء | موسى حوامدة | العدد الثانى والعشرون | كتاب الشعر

Written By غير معرف on الجمعة، 29 مارس 2013 | مارس 29, 2013



مَوتى يَجرون السَماء | موسى حوامدة | العدد الثانى والعشرون | كتاب الشعر

موسى حوامدة


مَوتى يَجرون السَماء
           






                   شعر















































لنهتف للوردة:
سلاماً أيتها الحمراء كلون الدم الفلسطيني

لم نستطع وقف المجزرة،
لم نستطع لجم العدوان،
لم نستطع تغييرَ العالم،
حسناً..
لنفعل أشياء أفضل؛
لنهتف للوردة:
سلاماً أيتها الحمراء كلون الدم الفلسطيني،
سلاما أيتها الزكية،
سلاماً ـ وأنت تصُدّين جنازير الدباباتِ ـ
بأغصانك الواهية،
بلحمك العاري،
بسحرك البسيط وأوراقك الطرية
صرتِ وجهاً جديداً لاحتفالات العشاق.

لم نستطع أن نشعل النارَ
في حطب المستحيل،
لم نُخربْ هلامية الفيزياءِ
وانحياز الشرّ في عفن الأسطورة،
لم نرفع أيدينا لنمسك الغربان.
حسناً،
لنمسح الغبارَ عن وجه الأشجارِ
لتظلَّ سماءُ غزةَ صافيةً،
فربما نحتاجها
لنغرز إصبعاً في عين الشمس
ونفتك بخيوط الذهب الصفراء.

لم نُخرس قواربَ الشؤم من جهة البحرِ
حسناً،
ليظل بحرها أزرق،
فربما نحتاجه قريباً
لنقول للموج كلاماً قاسياً
عن عزة النفسِ
ومسقط الرأس
ومعنى الوطن.

حسناً،
سنستعير من الجهاتِ غروبَها
لنقنع الجريمة بجدوى الغروبِ،
مضى وقت طويلٌ
وهي تَصرع أرواحنا
و(عناة)* لاهيةٌ عنا،
مضى وقت ثقيلٌ 
والطبيعة صامتة تمارس التحديق في جراحنا.

شهداؤنا كثيرون
لكنّ حياتنا قادمة،
موتانا جميلون
لكن جيناتِنا قادرة،
رياحنا هيّنة
لكن إعصارَنا مريضٌ،
ربما نَكشف له علاجاً في رماد الأجساد المحترقة.

لم نقلعْ مستوطنات الشرّ،
لم نفقأ عين الدمار..
حسناً،
لنفعلْ شيئاً لترويض الحكمة.
ليست الآفات شراً مطلقاً،
سينمو البرتقال هناك،
سيكبر الناجون من المذبحة،
سيكبر جرحُنا سنةً جديدةً،
لكننا لن نهرب من الأمل؛
لن نَقلع شجر الحنين لجبل الكرمل،
لبحر عكا وسماء يافا،
لتراب الرملة البيضاءِ،
لن نُقلع عن رؤيا النجوم وفيةً لعشاقها،
حانيةً على بيوتِها الأرضية وأبنائها الطيبين.

حسناً،
ستبقى الطيور لنا؛
الطيور التي ظلَّت تطير بعد خيانة السماء؛
الطيور التي لم ترتجف من لعبة الموت؛
الطيور التي لم تُخِفْها الصواريخ
ولم تكسر أجنحتها الطائرات.
حسناً،
لدينا متسعٌ من الوقت لتقطيب الجراحِ،
متسعٌ من الوقت لتشذيب التفاصيل،
ستبدأ الحكاية من أوّلها:
نرفع سقفَ البيت قليلاً،
نقرص خدَّ العاصفة،
فيرتجف الكون من جديد.

2\2\2009 عمان

*عناة أو عناتا: الإلهة الكنعانية.




حينَ يأتي الموت

*إلى محمد طمليه
حينَ يأتي الموتُ
سأبصقُ في وجهِ الحياةِ؛
أقنعُ نفسي أنَّ الدُنيا بائسةٌ،
والناسَ، كلَّ الناسِ، ديدانٌ صفراء.

حين يأتي الموت
سأزرع الغروب في حديقة الوداع؛
أعلنُ هزيمةَ الإنسان
وألقي فلسطين،َ
في دفتر الغياب.

حين يأتي الموت
سأرمي زهرةَ الخلود
في وجه جلجامش
وأهزأُ
من نصائح الطبيب.

حين يأتي الموت
لن أساومَه
لِيُحرِّضَ المُقرَّبين
على حفلات النواح؛
كُلَّما كان عددُ المشيعين أقلّ
كان ضميري أكثرَ بياضاً،
وكلَّما كانت الدموع أقلّ
كانت أخطائي أجمل.

لينصرفِ المُعَزّون
قبل تدشين البياض..
لينصرفوا؛
ليست لي حاجةٌ إلى مديح ناقص،
ليستْ حسناتي مشجباً للنفاق،
لينصرفِ الأوغادُ؛
ما نفعُ الزَفَرات لأطباق السماء؟

لينصرفِ المحسنونَ
            طيبو القلب،
            مخلصو النوايا.
ماضيَّ
حاضري
وغدي مات
ولستُ حريصاً على فرصةٍ للنجاة.

حين يأتي الموت
لن أعتذر للريح التي تَنفستُها
ولا للخيطان التي لامَسَتْ جسدي،
لن أعتذر للماء الذي شَربتُ
ولا للوهم الذي تلبسني
أو توهمت،
ولا للبلاد التي ظلت عالقةً في حلقي كالسلحفاة..

لن أعتذر لأحدٍ
أو بلد.
ربما أُحرِّرُ روحي من فساد الكون،
أسرد لِذاتي طِيبَتي الكاملةَ
وأناقةَ الربيع في كتاب الصيف؛
ربما ألمسُ وجهَ أمي بيدين نظيفتين،
أسمع سعالَ أبي
أشمُّ رائحةَ صدره بلا معجزات.

حين يأتي الموت
سأقطعُ المسافةَ بين الحياة والموتِ
برجفةٍ شبقيةٍ عابرةْ،
تماماً، كما حدثت تلك الشهقةُ المدوية،
في المرة الأولى،
على رَِدْفَيِ الأرضِ العذراءْ.

جبالٌ لا تلهيها صلاةٌ
ولا أدعيةٌ عن مُناداتي
تموتُ معي؛
تمشي في جنازتي،
بكامل العنفوان تُحيي حفلَ الختام.

حين يأتي الموت
سأهربُ إلى حضن أمي
ووجهها الناعم؛
إلى يديها الرقيقتين
ونظرتها الغريبة،
سأحملُ لها سريرَتي الكاملةَ،
أعترفُ لها بهفواتي العديدة؛
بعجزي عن تحرير رقبتي من دنسِ الشهوات؛
بغفلتي السابقة عن مصادفةِ الحكمة؛
بطيبة التين والزيتون؛
باضطراب الذاكرة؛
بموت الناس، جميعاً،
عند انحسار النعمة.

لن أصرخَ نادماً
على مسقط رأسي،
لن أموتَ حزيناً
لأني لن أدفن في طين بلادي،
لديّ من الخيال
ما يجعلني أضمُّ ترابَ العالم بين يديّ.

في كلِّ ذرة من الكون
جسدي هناك،
لن أموتَ غريباً في أي مكان،
لدي في كلِّ مربعٍ جثةٌ كاملة.

أسمعُ دبيبَ الخوف
يسري في أوصال الكائنات،
لن أصرخَ مرتعداً،
لستُ شجاعاً أكثرَ مني
ولستُ جباناً لأهرول خلف قطار الفرصة الضائعة،
لا أملكُ طاقةً على الهروب من اللُعبة.

أضحكُ بملء شدقيَّ،
أضحك -إن أسعفني فكّايَ-
على الذين يبكون من الموت
يحسبونه عدوهم الوحيدَ،
بينما تناسَوا أنَّ الزوال
لغةٌ فيزيائية قديمة؛
تناسَوا أنَّ الموت لم يأتهم من الغيب
ولا من ربَّات الجحيم،
بل من تعلقهم بالحياة،
ومن أجسادهم المعطوبة.

اكتملتْ رحلة الأسى،
انكسرتُ بكلِّ بطولتي،
بكاملِ شجاعتي،
بملءِ إرادتي،
وفي كل معاركي الوجودية والحياتية انهزمتُ،
وتلكَ كانت فضيلتي.
كلَّما كان عدد المشيعين أقلَّ
كانت حريتي كاملة.
إيماني بالله حَمَلني بخفةِ الملائكة،
لست في حاجة إلى الملقن والمقرئ؛
لست في حاجة إلى المراثي والنواح،
فلستُ ذاهباً إلى حفلة خداع هناك؛
إنني
      عائدٌ
            مني
                  للأزل.


14\10\2008
ليست ميتةً هذه القصيدة

ليست ميتةً هذه القصيدة؛
إنها ترفو جواربَ السماء
بخيط من نور،
تَحبك وجهَ الشرق بعباءةٍ فضية،
تمسح جبينَ الغروب
بيدٍ من ذهب.

ليست ميتة هذه القصيدة؛
إنها حلمُ بحارٍ أرعن،
كسر الليل بطرطقة خاتمِهِ على دفة السفينة،
خانَ البحرَ بغناءٍ شجيٍّ
عن طفلة يتيمةٍ
كانت تحتضن الترابَ خوفاً من الذبول.

ليست مصيدةً للدود،
ليست نبتاً شيطانياً
في يد الحاوي،
الحاوي الذي مدَّ يده في جحر الزمان،
أقلع عن عادة اللهو مع فرائسه.

ليست مريضة هذه المئذنة؛
إنها شجرةُ خروبٍ في كرمِ حزنٍ جاثمٍ
في كلِّ ركنٍ من المسجد..
بخورٌ يعبقُ بحفلة نُواحٍ على إثم بعيد.

يتدلَّى من برج السماء
قمر أزرق
يتمطّى في ثيابٍ بنية اللون،
يغرق الأسى في أجراس عيد الميلاد؛
كلُّ دقةٍ تَرفع جثة المسيح قليلاً
كلُّ دقةٍ تبني حجراً في جدار الخزان،
تبكي الدموعُ،
عيون الملائكة ترحل.

ليست ميتة هذه القصيدة.
ربما يكون القارئُ دائخاً في تعداد موبقات العدم،
ربما يكون الشاعر ذاهلاً في تسريح القصائد في برية الملكوتْ،
ربما يكون العَالَمُ نائماً في نهاية التأريخ،
مُقبلاً على تلويث الدم بحبر الأرق.

عجباً من تكية على رأس الطريق
تخفي زوَّارها ولا تخفي تراتيلها العطرة،
ليست خمراً هذه الأناشيد
إنها حباب الكحول في قلوب المريدين.

دُلَّهم يا معجباً بنشيد القرنفل،
دُلَّهمْ على صحة زعم الكناري؛
الكناري الميت؛
الكناري، الذي حطَّم زجاج السكوتِ،
خربشَ على سقف السرابِ
قصيدةَ حُبٍ لعصفورةٍ شريدة.

عصفورة طريدة
عطرها نافذ،
ديدنها الترنمُ على ميقات الفصول،
تدنو من أعشاش النعمة،
تحفرُ بريشها بؤسَ العالَمِ،
ترفع لائحةَ اعتراض في وجه الطبيعة،
تسدُّ وجه الشمس بأمنيةٍ يتيمة لا يعرفها ملاك الضوء.

غطِّي أحلامي بشرشف الخوف،
دثِّريني بلحاف الزهد،
أريحي عنائي فوق وسادة الظنون،
قلِّدي صنيع الفرسان المهزومين،
اعجني نقائصي في طحين العصيان،
عَلِّلي سبب الافتراء؛
ملايين الطيور تحجُّ إلى بيت العقرب..

ليست ميتة هذه القصيدة؛
إنه الحبُّ يعبر شريان العالم،
إنه الرمز الخفيُّ في شِفرة الحلاج،
الرمز المقدس في ترهات ليوناردو دافنشي.

لي حصةٌ في انتباهة الثعلب،
لي حصة في زهو الساقيةْ،
لي ولعٌ بسرير اللعنة،
لم يبق لي سوى عطب الشهوة.

كسكيرٍ ذاهل
ينجو الغرير بجهالة الحكماءْ،
الصباحُ متورمُ العينين،
الضحى مكسور الرأس،
لا ترتجِي يوماً ميْتاً كفأر ميت؛
احتكم لمخبأ الخُلد
تجولْ في صمت الناي المجروح.

مطرٌ بلا أصابع يعبر فوق رؤوس الأشجار،
حصتُنا من العطش لا تروي غيمةً
ولا تحفظ لنا حنطة الشتاء.
اذهَبْ إلى التلَّة المواربة للجبل،
اذهَبْ إلى آلام المسيح مفتوحة الطرقات،
لا ترسل للقلعة نهاراً واضحاً،
أطعْ حكماءكَ
وانتظر (مسادا)* جديدة.

ليست ميتةً هذه القصيدة.
إنه الزمان المتورم في معطف الدركي؛
إنه الحنين المؤجل إلى جنةٍ لم تُوصد أبوابها؛
إنه النوم المفرط من تناول عقاقير النسيان،
الوهم جميل لعذراء الخرابْ،
الوهم طائرٌ ملعون
يدفع الحزن إلى هاوية الجبل،
ادفعوا الحزن إلى هاوية الجبل،
يا ........يا
يا هاويةَ الجبل!

لم يَعد للقصيدة حملةٌ لنعشها،
لم يعد للقبور ملائكةٌ عاطلون عن الموت.
اسكبوا حبر الأموات في دم السفلة،
السفلة الذين يرفعون شعار الله ويقتلونه بلا سببٍ.
أيها السفلة المدججون بالخِسَّة،
استريحوا هنا تحت ظلال القصيدة؛
القصيدة التي لم تمت إلا فوق سحنكم الهرمة
الراعفة بعنجهية الدمار المزعوم؛
بسخرية القدر المنوط بمسيرة الخراب.

ملاكُ الموت ليس شبحاً يطلُّ من عالم الخرافة،
إنه الزائر الغريب
يسكب ماء المهزلة في كؤوس العتمة.

2009-12-24 عمان

*مسادا أو مسعدة اسم جبل غرب البحر الميت، قريب من النقب، انتحر في قلعته التي بناها هيرودس أكثر من سبعين يهوديا بعد حصارهم من الجيش الروماني، وكان آخر المواقع التي استولت عليها الجيوش الرومانية عام70 للميلاد. هذا حسب رواية يوسيفيوس المؤرخ اليهودي.


الشبيهةُ

الشبيهةُ بأيامي الخالية،
الخاليةِ من روتين النايات؛
الشبيهةُ بالمعاني الشعرية
المتحررةِ من بلاغة السلفيين..
أيامي التي صارت حليباً للفئران،
للجرذان طعاماً،
للدود ينبشُ لحمَ الأب الحيِّ في قبر الحياةْ،
للحياةِ المطليةِ بدهان البيلسان،
للحياة المفقودة
للقتلة المباركينَ،
المفتونين بنعمة الغيومْ؛
بأَجْرِهم المجزي يوم النشور.
هم يُشْبهون شظايا الفخار المطمورة منذ عهد الإسكندر.
الفيلةُ التي يركبها جنود كسرى وصلت إلى الحيرة،
مغنية الراب حرقت قميصها الشفافَ 
على مسرح الدمى.

الشبيهة بخيانة بيلاطوس،
بخيانة سُراق العناوين الشعرية؛
سُرّاق القصائد؛
سراق الكلمات وهم يلهثون خلف فتات المعاني
الساقطةِ من أحذية الغبار
يدبجون المديح للزهرة الذابلة،
يحجبون الظلَّ عن كأس البياض.
شعثُ الحروبِ،
فشل القمح بين أيديهم،
شعورهم مقصوصة، حسب القوافي،
أظافرهم مسودةٌ من نبش الفحم الأفريقي،
مشتغلين بحفاوة الدواب الهرمة،
متشبثين بزهو الزرافات مكسورة الرقاب.

الشبيهة بالمحرقة،
تلك التي لم يعترفْ بها الوشاة؛
تلك التي اندلعت في ورق المحرر الجبان
حين انتهى الموسيقيُّ من عدِّ درجات المَطهر.
حطَّ غرابٌ أشيب عند نافذة المودةْ،
المقبرةُ القديمة لم تكترثْ لمرور الجنازات،
السور المتآكل لم يأبه لعبور الطيور.

الشبيهةُ بتلك الرسالة كانت أيامي التاليةْ.
ضحكت عليَّ الداية،
وهي تقطع حبل المشيمةِ؛
مِن هذا الشريط الرفيع جئتَ للفلسفة،
من هذا الحبل الطري شربت حليبَ الإغاثة.
دون فراش دافئٍ،
دون تَبتُّلاتٍ كثيرة،
هزمتَ طنينَ القطط الملهوفة،
هربتَ كجلدِ الماعز الرقيق من فوهات الطبول.

منْ تخلت عنه القدرةُ الربانية؛
من تخلَّى عنه آلهة الأولمب،
لن يسكنَ أرضاً تنعم بالرضا،
فاخترْ طريقك الوثنيةَ،
أو عدْ إلى بلادك المنتقاة بلا ضمير،
المشتراة، بلا مزادٍ، من جحيم السوق.

يا أبي
لمَ لمْ تشترِ لي وطناً من عهن منفوشٍ  
أركله بقدميَّ،
يقفز فوق سور الدار،
يركله ابنُ الجيران نحوي،
نلعب به كما تلعب الشمس بخيوطها الصفراء،
بأعشابها النديةِ،
بعبادها الطائعين.

سامحك الله يا أبت،
لمْ تحرك ساكناً،
لم تغدر بالطمأنينة،
لم تطعمْ فرسَ الخيانة سكَّراً؛
التزمتَ الحيادَ،
بقيتَ تحلم بالفراشات تهطل بالرزق والأرض ناشفةٌ..
الأرض التي حملتها بين يديك لم تتشبثْ بنا،
لم تُحررْنا من الجوع،
ولم تفسر لنا معنى الفقدان.

الشبيهة بأيّامك، يا أبي،
لم تنعطفْ لتحرِّرَ الساقيةَ من غموض البئر،
لم تنتبه لبكاء الدوالي
وأنت تسكبُ دموعَ الزيتون في معصرة النار،
                                  في خابية العمر البعيد،
البعيدُ أنتَ، اليومَ،
البعيدُ، هناكَ،
هنا...
هُنااااااااك،
في باطن النسيانْ.

الشبيهة بالنعامة أياميَ،
أيامُك لم تسفرْ عن نتيجة لصالح الياسمينَ،
ظَلّ الحطبُ الناشف وسيلةَ النجاة لديك؛
دربَكَ للوصول إلى دفء الكلماتِ،
ظلّ الدخانُ يأكلُ صدرَك حتى ورثتَ سوادَ الليالي،
قعقعةَ الصخور المنهارةِ في روزنا الحصاد.

 الشبيهة بالطحالب أياميَ
        تتنامى، عند حوافِ الكسل.
بالميتين من أهلي،
بالحريصين على دحر الذاكرة لتعشوشب الفضيلةُ
بالداعين إلى ابتعاد الأذى عن (زينة السنوات)،
بالمقتصرين باللمعانِ،
بالساكتين على جرح الإهمالِ،
بالذين يؤْثرون القليلََ،
يسكنون منازل الرحيلِ
لا يتشبثون بشيءٍ من حرص المُورِثينَ،
لم يتدخلوا في شؤون الله،
إلا بما يليق بصلاة الطيور،
تنازلوا عن حفنة الهواءِ
لصالح البساتين المقهورة،
حملوا ذكرياتهم
ومضَوْا..
مضوْا إلى كفن السكينةِ.
أولئك، الذين كتبوا وصاياهم على ماء الغيابِ،
لم يطلبوا ثمن الأبوة،
حملوا ديدانهم الطيبة وغابوا..
آه غابوا في التلاشي؛
غابوا في سكون الريحِ.
آه!
غابوا،
تركوا كلّ الأماني وراء ظهورهم،
وما نزعوا ملابس الصلاة.

الشبيهةُ بماء الخيانةِ،
برحيق التماهي،
تقطع فلاة اللهِ؛
تقطع صحراء الوجودِ،
ترسم فوق الفراغ،
حكمةَ الأمواتِ،
تصرخ بأعلى نداء!

الشبيهة بكما أياميَ
تلهو بعيداً عن حقل النسيان،
تنمو في غفلة من النجوم،
تصرخ يا سماء،
يا.....
سماء،
ياااااااااا سماء  
تريَّثي بهم قليلاً ..
احمليهم بخفة الملائكة.

1\5\2008















شجرة الموتى

قليلةٌ هي الكلماتُ التي تناطح الأشجار
المئذنةُ الوحيدة تشقُّ بطنَ الفضاءْ،
عينُ الصقر تقطع نصل الصيادْ،
شبحُ الموت يتأرجح مثل نهار ميتْ.

بطريقةٍ ليست حضارية
رانَ صمتٌ على المقبرة،
هلا ندمتَ على فراق الجبل؟

هادمٌ للمودةِ،
مشهدُ الموت الحريريِّ،
مشهدُ الترابِ المنهارِ فوق جثة العندليب.

تكلمْ بلسانك يا سهلَ الوشل؛
أيها المحكوم بسخرية القدرْ،
قُل: موتاً أموت،
حياةً لا أحيا،
سلسبيلا أهطلُ من يد الغيمة
كفناً أخضرَ ألبسُ ساعة الخلاص.



آمون يصلي خلسةً عن عيون الكهنة،
يستدير ليرى قرص الشمس يلامسُ نوافذ السَدنةِ،
يتمتم بكلماتٍ نابهةٍ،
يتعلم الحلم في فراش الغواني،
يحرس الكتابة من عيون السحرة.

أيها النوبي،
تُراكَ تعلمتَ الكلام في مدرسة الطينِ،
نثرتَ القصائد فوق وسادة النيلِ،
أم تعلمتَ الفطام تحت عذوق الحَيرة؟

لم تكن عروس النهر مرتجفةً؛
كانت بنتَ صحراءَ فتيةً،
تتمشى في خفرها الوطنيِّ،
تتزيّا بزيّ الحريق الربانيِّ،
تطهو براءتها على نار الخطيئة.

لستُ من يعدِّد أخطاءَ الماضي،
لي غرضٌ في تصحيح القافيةْ،
لي نسبٌ في شَجْرة الفراغِ،
ولي معدن يغار منه الجواهريُّ.

لست شعبا من كثيرين؛
أنا يتيم الأسطورة،
حاملُ مِشعل الخرابْ.

لست معنياً بترويض الفضيلة،
إنني صاحب المومياء.

يا لبراءة الحليب المنسكب من ضروع الغواية!
أيَّتُها الجاهلة بمغزى الصلواتِ
تمتعي بلُعاب الصدى
يهصر رأس الجبل بين قعقعة الرعود.

لستُ جندياً في صفوف الهكسوس؛
إنني أتسلّى بمرور القوافل على طريق الشام،
أدلق كؤوس العُمر في حساء التحنيط،
لا أملكُ قصراً بديلاً عن هرمي الصغير.

مثل نبع مريضٍ
يسيل المغزى.
بلا عربات أو خيول
يخدشون عذرية الهضبة.

قمة لا تصلها المعجزاتِ
قمةٌ مجروحةٌ؛
قمةُ الفَرار من عنجهية الموتى،
من مراثي القدر:
لا فائدة من ظلال الماضي.

كلماتٌ راجفة عند أقدام الربِّ الخائف،
الخوف يحشر نفسه في هلع الملكوت،
كلُّ شيء معدٌ للفتنة.

شجرة الموتى تنبت من جديد.

عمان 21/12/2009


















موتى يَجرُّون السماء

موتى يجرون قبورَهم نحوَ السماء.
أرملةٌ تقرص خدَّ النهار.
كمثرى جافة.
حديدٌ طري.

أشجارُ سروٍ تهبط على سطح الخوفِ،
تنزُّ دماً عند الفجرِ،
تبكى جنودَها الأسرى.

أغادر منزلتي الأخيرةَ،
أجلس تحت سور الصباحِ،
أرقب سوط الضابطِ
يجلد فأراً ميتاً
ليرهب الكلابَ الضالة؛
ليقتل الأفكار الحرة.

أخون النار
ترجفُ فوق حطب العمر.

أشعَلوها حريقاً في ورق الدروزِ،
جَرحوا مئذنة الصوفيِّ،
قتلوا مِعزاة غاندي،
كسروا صليب التلحميِّ،
فَجَّروا بئر الكتمانِ،
تباهوا بارتكاب مجازرَ جماعيةٍ في حق الزهور.

لم يبق للريح
سوى تقديم استقالتها
من عاصفة الجنونْ.

السماء سرير الضعيفِ،
الأرضُ بستان الجريمة.

غبارٌ أسودُ
يغطي عباءةَ الليل
بهمهمة الغجر.

حكاية الحصانِ؛
شارداً في إسطبل الكلمات
مرَّ سائس الكلام،
علَّق خنجره في كتف المساءْ.

تقربتُ من مبخرة الكاهن،
راقني وجه المسيح؛
صبيٌ بلا دراجة ناريةٍ
يخطف أجمل الآباء.

حلمت بالنهوند؛
حلمت بالنجوم
تسكب النورَ من فم السماءِ؛
حلمت بالمسيحِ
يهبط من درج الناصرة،
يبحث عن مسواك الإمامِ،
وشمعدان الحاخام.

حلمتُ بالعذراء
تطحن الدموع،
تجفف التين،
تجلس القرفصاءَ  
عندَ باب المخيم.

أمي،
في قبرها، جفَّتْ؛
صارت تراباً..
من يرى الغيمةَ
تنمو بين أصابعها؟

أجلس مثل حكيمٍ،
بينا فؤادي قطيعُ غزلان هاربة.

يحزنني الكمأُ
مسودَّ الوجهِ واقفاً بين يدي الحصى،
أنفه مرفوع،
ضميره ناشف.

بلبْسِ نظارات ليل،
أرتاحُ من غشاوة العمى.

منديلٌ أحمر
لوَّح به العريسُ
عند تشييع البكارة.

ليلٌ مريضٌ
يجر قطيعَ الموتى
بحثاً عن غيمة زرقاء.

الحليب تَشهى
أن يذوق موتَ الشفاه.

صحبةٌ قديمةٌ
أرجعت القلب إلى سرير الكسل.
عند الظهيرة
صاح الديك،
رفس الخفاشُ بياضَ الأفق.

على غصن الهديل
وقفت بومة الفرح.

رَكَلَ الجيرة
بجبل من ندم،
ندمٌ،
ندمٌ،
ندمٌ
كما حصل يوم دُفنتْ هذه الكلمات
في مقبرة الوضوح.

13- 8- 2007






... وللندم الذي يخلفه الموتى


لانجذاب السفينة الجانحة إلى قاع القصيدةْ؛
لانجذاب الشراع الممزق نحو العاصفةْ؛
لانجذاب سرب القطا الهارب من نعمة الثلجِ؛
لانجذاب الحفل المجنون نحو نهاية درامية للمشهدِ؛
لانجذاب القلاع البعيدة إلى محاربيها الأشدّاء؛
لانجذاب الحرية في صناديق الجن الأزرق..
                 في قمقم الملك سليمانَ،
أنجذب نحو وجه الطفلة زائغة العينين
                  تبحث عن ملاذٍ بعد زلزال هييتي،
أنجذب للجندب القتيل بين حطام الأغاني،
أنجذب إلى كيس الدواء المعلق في يد الممرضة،
أنجذب لكمامتي الأوكسجين الضاغطتين
على وجهيْ رضيعتيْ "مهدي التمامي" في المستشفى الإسلامي،
أنجذب للحريق الذي يرسل رسائله المباشرة للفراغ،
أنجذب للأمل المقلوع من الجذورْ،
أنجذب لصراخ الجسد ونفور الحلماتْ،
أنجذب للمومس المتقاعدة في كازبلانكا،
للعصفور المريض في سيريلانكا..
للشغالة الفلبينية المغتَصبة في حي (البركة) بعمان،
أنجذب إلى سر الكون الذي يفضح نفسه كلَّ معجزة..
أنجذب للمرأة المضطهدة،
للبنت المراهقة تخبئ دفتر أحلامها،
تفتش شاشة الموبايل بحثاً عن رسالة حب طائشة.

أنجذب للغيوم التي تركض من فزع الشمس،
أنجذب إلى رؤوس الجبال
تخبئ نفسها من سياط الآلهة.

أنجذب لله يمنحني حزنه المعتق منذ الأزل؛
إنه شلالُ الرعب يطوقُ العالمِ؛
شلال الموت يحطم الكرة الأفعوانية.
يموت الناس بلا حروبٍ،
وبلا ذنوبٍ يتوارون عن أعين الكهنة،
ثم يعودون إلى التمائم السرية،
للساحرات الذاهلات عن مصيرهنَّ،
للحكماء يمتدحون مكاسب النذالةِ،
للذبول البشري في حديث الأجداد.

أنجذب للنوم في شرفة النسيان،
للحنين إلى مشهد البؤس على وجوه اللاجئين،
إلى صور القتلى في دير ياسين،
في صبرا وشاتيلا،
للبزات العسكرية المحترقة في طلعة مدرسة السَموع.

أغرس نَصلاً حادّاً في (قلب الظلامْ)،
أقطع رأسَ العداوات بسكين مثلوم.

أنجذب للأمير المهزوم يُعلي شأنَ ضبطِ الأعصاب،
للحكيم البوذي يقصُّ جدائله قرباناً للصيف،
للزاهد الصوفي يستعير فقر العالم.

أنجذب للأمل الشارد،
للغراب المنبوذ،
لطوفان نوحٍ الجديد،
لمرأى الجواري بين يدَي الإيقاع،
لحُسنِ وجه الحكاية،
لبيارة البرتقال المنهوب.

أنجذب للحياة قبل آدم،
للسراب البالغ العطشِ،
للمجراتِ البعيدة،
لبدء القصيدة،
لحالة الشطح قبل كتابتها،
للسفينة الجانحة،
للشراع الممزق،
للحفل المجنون،
للسماوات البعيدة،
  
وللندم الذي يخلفه الموتى.
22/1/2010



حكايات قاطع طريق.. 


كمنْ يقصُّ أَثَرَ غيمةٍ في السماءِ
كان يحرثُ الريحَ،
بمحراثٍ من يأس.
الطريقُ استمدتْ عزمَها من سعة البرق،
القاطع مرَّ بقريةٍ صغيرة؛
مرَّ بحفنة حصادين يغمرون الأرضَ بالحركة.
القاطعُ توقفَ يبحثُ عن سبب لإكمال المسير.
القمح نادى قاطع الطريق.
أصحابُ البيادر رَمَوا أغمارهم فوق الغيمة..
قاطع الطريق صار سنبلة.
*
تلك السيدة مشغولة بنسج شالٍ مطرز بالصمت،
لفّت خيوطها على شعر البناتِ،
تجلّى الليل بقمر وَضيءٍ،
تلعثم الحزنُ
قرب أيقونة العذراء؛
مَنْ مِنكُنَّ يا بنات وصلت للكمال؟
مَنْ مِنكُنَّ يا بنات حاكت شَرشفَ الموت بيدها؟
مَنْ مِنكُنَّ يا بنات..  
كانت تلك السيدةَ المشغولة بنسج خيالٍ مطرز بالنجومْ؟
*
كثيرةٌ أشجار الكلام الجارح،
كثيرة حِكَم العجوز الطيبِ،
كثيرة تأويلات القصيدة،
والشاعرُ إذ يعبر حاجزَ الخَطابةِ
يرى روحَه مغمورةً بأشجار كثيرة،
وحطابين مذهولين
عن سماع روايات التقهقر.
*
أرغب كما يرغب الجريحُ  
بضُمَّادٍ وإبرة بنجٍ؛
أرغب كما يرغب طائرٌ،
بقبضةِ ريحٍ يحملُها بين جناحيه؛
أرغبُ كما يرغب الجبلُ  
بزحزحة الشمس قليلاً،
ومبادلة السماء
بوظيفة التسكع مع صديقاتِه النجمات.
*
ليس شرطاً أن تهطلَ الأمطار حين تعطش البقراتُ.
الكاتب المغروس في دفتر المذكرات
لم يجدْ علةً لخروج آدم من الجنة
مباشرةً بعد مأدبة الغداء.

فكر الكاتب المنهمك في كتابة التأريخ:
 (كيف انقضت المسافة الزمنية بين الجريمة والولادة
كيف انخلع قلب اليقين،
وانزلقت الجنة، ببساطةٍ، من بين يديْ حواء
كيف كان شكل البرق والرعد هناك
كيف كانت تهطل الأمطارُ
وحامض الكبريتِ، كيف كان يتطبب به المجذومون
وتلك الأدوية المكدسة في صيدليات السماء،
من نهبها قبل أن يُحقَنَ آدم بحقنة الدوخانِ،
ويُرمى بين الصخور).

لعلَّ الكاتبَ لم يشأ أن يكمل النبش في أرض المعصية،
يُرمى بالخيانة،
يهدر دمه
أو تطلق عليه النيران!
فكَّرَ الكاتب، لحظةً،
ألقى بالقلم جانباً،
نظر للأوراق المكتوبة،
همَّ بتمزيقها،
لكنَّ صوتاً خافتاً جاءه من سماء بعيدة:
لا تَرمِ الأوراقَ؛
لن يقرأها أحد،
أكملْ مسيرتك الذاتية في تعريف السجين بحقِّهِ في طلب الإعدام.
*
قاطع الطريق لم يجد طريقاً يقطعُه،
توقَّفَ قليلاً،
تساءل: أين ذهبت خطواتي؟
أين آثار أقدامي؟
أين اختفت الطريق؟

كان قاطع الطريق نائماً،
كان الحلم لا يسير في طريق معلوم،
قاطع الطريق واصل إكمالَ طريقِه السرية
في تنظيف الغيوم من قُطَّاع السماوات.

عمان 3\11\2007




















كمَا ليلي يطرقُ بابَ الفجر

كما أنَّ البحرَ يبكي قتلاه بدموعٍ لا تراها الشواطئ؛
كما أنَّ الصحراء تُخفي خوفها من الكثبان؛
كما ليلي يطرق باب الفجرِ
مُستأنِساً بوحشة الصباح،
آمِلاً أن تنهضَ عصافير النهار،
يمشي، خفيةً، ظلي على الأرض،
خفيةً، يزورُ مدينةً ساحلية،
يقتفي أثرَ وعولٍ جافلة،
يدخل باراً قديماً في حي من أحياء القاهرة،
يمرُّ على مقبرة المماليك،
يداعبُ قطةً سمينةً عند موقف سفريات (ألمازة)،
يرى نفسه شهاباً في مجرةٍ نائية،
يبني قصراً عامراً من كلمات،
يعيدُ ترتيب النوتات الموسيقية،
يسهرُ مع صوت الأنين الطالع من مراكز السرطان،
يمضي إلى حكمة ناجزة لفيلسوف مسموم،

يفتَحُ ملحمةً إغريقيةً،
يداعبُ رمحاً صَدِئاً،
يلبسُ عمامة مملوكية،
يناغم أسطوانة كلاسيكية،
يغمز عاهرةً في ملهى رديء.

كما أنَّ الألم ينفر من لون البياض؛
كما أنَّ طريقَ دير قرنطل* صعبةُ الوصول،
طريقَ السماء صعبةُ الوصول،
طريقَ النور صعبة الوصول،
طريقَ الحكاية تتبع آثارَ السندباد،
كذلك تغير الأمم سحنات أبنائها،
تنفر العزلة من ثوب الكهنوت.

كما أنَّ الموسيقى تأكل وتشرب مثل خلق الله؛
كما ينزُّ الندى من أصابع الصباحِ
تذهبُ وحدَها الحياةُ؛
تقامرُ بما لديها من صلوات؛
تجرع كأسَها على الجوع؛
ترفع رأسَها خشية الألم.

كما السماء تعطي زرقتَها لماء المحيطات،
امنحيني يقينَ الأزرق؛
عَلِّقي جسدي في نافذة الموت،
مَلِّحي الحِرزَ بكافور الهذيان.

كمَّا ربة الفجر تحطُّ أناملَهَا الورديةَ في رحلة أوديسيوس
ترجعُ بي الآلام إلى صيدليةٍ مهجورة في القدس العتيقةِ؛
ترجعُ إلى مودةٍ غامضة يبديها طبيب العيادة؛
ترجع إلى سبع سنين عجافٍ لا تعرف عنها الحقول
تذكرةً للغبطة،
هناءً يطيلُ كسلَ العقول،
عمرَ التلاشي.

ترجع إلى رحيل الغجر،
حيث أهزوجةُ السفر
تمنح الحيَّ جوازاً للنسيان.

كما يكبر شجر الزيتونِ
تكبر الحرية في صدري،
تضيق التربة عن الجذورِ،
تكبر الأشجارُ
يكثر الحطابون،
شذاذ الآفاق،
المنبوذون؛
تنفر التراتيل،
تضجُّ في أذن الليلِ
همهمةُ النايات الخرساء،
أنينُ البغال المقهورة،
يهبط المحرومون، المفجوعون، الموتى
تكثر الجرذان المسمومة في أقبية الوجومِ،
يستظلُّ النوم في غرف الجحيم.

أنِّبيني أيَّتها الرداءة،
اقطعي لسانَ الحق بسيف الورم،
علِّلي سبب الخرابِ؛
عللي سبب الوشايات؛
عللي سبب الجلوس طويلاً،
تحت حُرّاسِ الشتيمة.

كما الهزيمةُ تلاحق مرضاها؛
كما اللعنةُ تقتفي طريق الشهوة؛
كما الفضيلة تندلق من دِلاء السلف البعيد،
تنزع الحرائقُ فتنةَ النارِ.

مجدٌ قديم من عسل؛
مجدٌ رديءٌ من حقارات؛
مجد كريه من كبرياء،
كبرياءٌ مريض،
طواويسُ مَيْتة،
طواويس تنحدر من سلالات رديئة،
طواويس توزع ريش الخواءِ،
زهوَ العثرات.

*دير قرنطل: جبل قريب من مدينة أريحا يتم الوصول إليه بصعوبة بالغة بسبب وعورة الطريق المؤدية إليه. يسمى جبل "التجربة"، لأنّ المسيح قضى فيه أربعين يوماً وليلة صائما،ً خلال الفترة التي تسمى إغواء الشيطان، وتم بناء دير في الموقع في القرن السادس ميلادي، فوق الكهف.


كسيرةِ النائمِ في السكون

أغرزُ الحروفَ في لحم الورقْ
أكتبُ مأخوذاً بصورة النقوش الفرعونية
عتيقاً مثلَ فسيفساء مادبا
متأهباً كما جيشِ كسرى..
كسرى
......كافٌ وسين
 أعمى يرى
  في خَرس العتمة
قمراً مخفوقاً بالطين
راء وسين
ويدٌ تعبث بالأفلاك،
بقرى الصعيد
  بتاريخ الأسى
  وتاريخ العبيد.

  ياءٌ وسين
  غادَرني الحلمُ فتىً
  وغادرني اليقين.

 سيفٌ وصلاةْ
كلما شبَّت الحرب
 تذكرت ألا إله إلا الله
  أوشك الرمل أن يطمر حصاني
  وأن أنسى الصلاة؛
  صليتُ وحدي
  وحدتي نجاة.

خيلُ الروم حفرتْ على طريق القلب خطى الناسك العجوز 
  بين رحلة الشرق
  وغواية الغرب
  حدجتني (كونتيسةٌ) إسبانية
  بنظرة صليبية
  لم يرتجفْ وثني
ولم يلتقطني السيارة.
*
أصبغُ ريشَ الهواء
أصف جثامين الطيور
أعدُّ خطى القتلى
المدينةُ نتاج الضغينة.
*
اليافعُ في خضرته
شجرٌ مكسورُ الخاطر
مصلوبُ السبب.
*
كسيرةٌ يدُ الذكرى
كسيرةٍ ظلَّلها الجحود
كسيرةٌ بلا عرج
متاهة المشَّاء
كسيرةِ النائمِ في السكون
الذاهبِ في الوجوم
الساكنِ في العدم.

كسيحةٌ بلادي
لها حشرجة الناي المذبوح
رنينُ الهوية
عميقةُ الأثر
لا تحتاجُها العقيدة
يحتاجها الحطاب.
*
  أمضي حراً من أساي
 حراً من شفاهيتي
 حراً مني
  ومن كلماتي.


  عِلَّتي آسرةْ
  قلبي عليلٌ
  والرؤى حاسرةْ
  بَللٌ أصاب الكون
  سالَ قلب القاهرةْ
آخيتُ المسيح
مسَّني جنون الناصرةْ
  ما كنتُ مشغولاً
  كانت جروحي نافرة
  خبأتُ في كهف السماء منازلي
  ومضيتُ أبحث عن آخِرة!
الليلُ مصباح العمى
والمؤمنون قياصرة.

 كسيرةٌ حكمة المهزوم
  تمشي على مَهَلِ...
  سيحدثنا الرمل عن سيرة الرمل
  سيحدثنا العنكبوت عن قوة النسيج
  وحكمة الهوان.

ملكٌ على تاج الأبد
هذا جنوني بلاد
وضيائي مُصابٌ بالرمدْ
  صادني النوم وأنا أحلم بالكمان
  بإلهة إغريقية
  تحملني بعيداً عن إعصار إيجة
  تردُّ لغايتي الصبابة
  ولأمتي الرشدْ.

  من علَّم الأرضَ الغزل
من أَلْبسَ التاريخَ طاقيةَ الإخفاء؟

  مبهوتاً بالأزل
  أكتب سيرةَ المفجوع
  في أرضٍ لم تزل
تمنح القلبَ دواء الضغينة
ولا تعطي العدو مداد الخجل.

  من علَّم الأرض الغزل
  لأقي بساتيني العفونة
 وأقي جراحي العطب
  شَفَّني البوح
  ونام كرمي عارياً
  يا بلادي
  لست موسى الفرعونيَّ
  ولستُ شُعيب
  إنني أنثى الرجاء
  ضيَّعتني أمي في سوق الصرافين
 وحين عدت للشام
  كانت سيناءُ محبوسةً في قبضة الهكسوس.
  
رجاءً لا توقظيني
  من هلوساتي
  لا تُدخليني
  دوار الأبجدية
  ما قتلتُ أخناتون
ولا خنتُ كليوباترة
  ما بعت المسجد الأمويَّ
  ولا زوَّرْتُ تاريخ بترا
  أنقى من البياض كنتُ
  وكانت صروحي عامرة
  قلبي اشتغال الكلمات
بتأثيث الحاضرة
 عمَّرت خرابَ الكون
  وما بعتُ رفاقي
ولا غازلتُ عاهرة
  لكن المغول أفسدوا الناس حولي
  وما عاد ينفعني اليقين
  ولا سورة التحرير،
  أطوي البلادَ طياً
  وأعود من نقطةٍ خاسرة.


24\2\2009


 







 

 

 

 

 




حيثُ علَّتي شيطاني يزهو


أعطيتُ عنقي لمشرط الحليب 
سيَّجتُ يدي بسلاسل الدحنون
دلقتُ عنفوان النشوة
حبستُ عاصفة الخيانة.

لكي تستَقيم الغواية
لكي تموت الفتنة
تنبت شجيراتُ الأسى
تسقطُ في كهف الجمود بهجتي.

رخوةٌ مشنقتي
طريةٌ مثل تين الندى كراهيتي.
*
عسل الشرِّ فاض على جنبات الخيبة.
*
سمائي مكتنزة بالشتيمة
عاطفةُ النهر ترشح بالسواد
تغطُّ في حثالة النهار.
*
أشتم الإعوجاج
كفُّ الشمس تُلوِّحُ لصبي المصطبة
حلكةُ الضياء تغرق اليباب.
*
سهواً عن ذبول الورد
أسلمتُ كتابَ الخطيئة
لحاجب "مارس"
أعطيتُ عصا الطيش لساقية الزهد
سعيتُ بحطبِ الكمان لحريق النشيد.
*
أطلعُ مني
إلى قمتي
أجوسُ دياريَ البكر
ألاقي روحي هناك
وحدها في برية التيه؛
يا للمحروسة بالهزيمة
ترفَّقي بثرى الجهل
تعربشي بغصن الصهيل
لطِّخي وجه العصيان بحبر الذنوب
احتفلي بعناء الكرمة
شطط الزيتون
فجيعة الياسمين.

حيث علّتي شيطاني يزهو
حيث كمثرى الخراب عفن الدليل
منزلتي تدنَّتْ بين قطعان النجوم
أبراجي تلاشت في مرصد الفلكي.
من خاصرة الجحيم
تنهض زوبعتي.
*
بأسنان الصباح
أقرضُ خيطان الفكرة
أجثم في حقل التباريح
ألقط مأساة الزمرد
أعبُّ ينابيع الحسرة.
*
واهيةً تسطع حكمتي
لا تقتربْ من بذرة العاصفة
لا تصنعْ لعنقك سيفاً
لرأسك سرطاناً
لبيتك زلزالاً
لشعبك جلجلة.
*
بلائي جنة دانية
قطوفها شوك صبار
خاوية كف المغني
مجروحة أصابع الناي.
*
أفيض من نقصي
أغتني بفقر الخاتمة.
*
هيِّئْ جنازك للفرح
رقصَك للدوخان
معاصيك للشفقة
حريقَ صدرك لعار الصقيع
كمالَك لمحو العاطفة
بابَ نضوبك لزبد الرعود
نرجسَ كرمك للرماد.
*
 كمن يعشق دناءته
يرتجّ صوتي
ترتدُّ كلماتي.
*
عَزمتُ اليقين
اكتفيت بالثناء.






مقام الدهشة

إلى غرة السماء أيدينا
نُعمِّر مقام الدهشة
نبني حائط الندم
أساسُه ضياع الأزل
حجارتُه صوانُ الخسارة.

مُْشرَعٌ إلى جهة الروح
نافرٌ من عتمة النور
بابُه صدري
مفتاحُه في إصبعِك الصغرى
نؤثثه بندى الموسيقى
بتقاويم السلاطين العثمانيين
نغطي حيطانه بحسرة شباط
وأسى تشرين
نزرع أرضه بشجر الغار
نفتح حديقته على بساتين الرأفة
نرويه بماء الشغف
بحنان الزمان المنهمر في كوب الصفاء.
*
باركْ أرواح العوسج والمُرَّار
اسفحْ نهر جنونك في خابية الجنوح
دلَّ بوصلة القلب على تيه المعنى.
لتحرس نجومك من قُطَّاع السماوات
لصوص النشوة
محترفي القطيعة والحسد
علقْ طوق الرضا في صدر الحيرة
زيِّنْ جِيد اللحظة بعقد الزيزفون
ابتعد عن خطى الرقيب
سرْ إلى منتهاك
إلى صفو كمالك
إلى وحدانية عزلتك
الى نرجس الخاتمة.
*
الورد عصارة عاشقين
الماء فيوض حبٍ مجوسي
البدء شهقة طين.

أخذتني الصيحة
لم أفزع
لكن صوتي طار بي
إلى قمة الحكمة
نفور القتلى
زفة الموتى.

جسدي لا يحتمل فكرتين
لكنَّهُ يسعُ موكب العابرة
يخرج مني ليلقاني بين يديك
بين عينيها وحقل النسيان
بين أصابعها وحسرة اليرغول.

أسير الى حتف السنابل
لا بيادري تنقص
لا ينابيعي تجفّ..
خضرتي دائمة.

أسوةً بحليب الأم ندمي
أسوة بجرار الكرمة نداهتي
أسوة بمن أحب
أشْعِلني نهاراً يضيء جبين الكون.

أسوةً بي كن مريدي
ضمَّ جنايتي
لا تأبه لحماسة أبي تمام
وجدِّ المتنبي
ولزوميات المعري
باشر غناءك الخفي
صلاتك السرية
صُنْ روحَك من عطب النشوة
يا معلمي
لم تعلمني باليقين ما نلتُه بالدهشة
لم يفدْني التراتُبُ كما حرّرني العشق
لم توصلْني بالخشونة ما ذقته بالفتنة
أدين لكَ بابتعادي عنك
تجبرتَ بي حتى خسرتُ مقام الهوى
تحكمتَ بشريان العذوبة
تغنيتَ بمجدي القديم.
دلَّني المغيب
إلى مطلع السؤال.

تلك شرفتي العالية!













أَجيءُ محمولاً بأوزارِه

لم أجد شيئاً يغضب اللهَ
في تساؤلاتي؛
وجدت الجداولَ ملأى بدم الحمام.

واحدةً، واحدةً،
تمر النساء المعتقداتُ بالألوهة.
الله لم يطلب عبيداً.
ربما تمنى زواجاً عرفياً،
لكن الكثيرات تورطن في شهوة الحلال.


ألعنُ الساعةَ التي جمعتني بعبير
هذه المرأة الذاهبة في الكمال حدّ الجريمة،
تصطادني
في ذنوبي،
أصطادها في عشقها،
أمطر عليها هزائمي
تمنحني الكونشرتو.

لستُ خائفاً من ظلام الضمير؛
أسعى لتحرير السواد
من شفة النور.

أيها الملاح،
لا تتوقف عند خمود العاصفة،
واصلْ غناءك السكرانَ
حتى تخوم المقبرة.
أكتوي بناري،
لستُ جباناً
لأتوضأ
من أباريق الآخرين.


أعرفُ كلَّ ما أعرف،
لستُ حريصاً على نُبل الفلسفة،
أو رسالة الأدب،
كلُّ ما يعنيني تطويق الخيانةِ
بيدٍ من صدأ.

رغم أني لم أضَعْ حجراً واحداً في سور القدس العتيقة،
لكن تنتابني نوازعُ كثيرةٌ
لكي أعرف لمن تُركت كلَّ تلك البيوت
بلا حراسة.

وحدَها الطرقات تعرف اللصوص ورجالَ الشُّرَطة؛
وحدها الطرقات تعرف المومساتِ ورجالَ الدين؛
تعرف المُرابيَ والحانوتيَّ..
من منكم لم يسلكها، ذات جريمةٍ؟
من منا بريءٌ من شهوة الحصان،
من رمي جمرات السؤالِ
في عقول الصبية؟

الحكمةُ ليست في الفناء؛
الحكمة في نزع قلب الحقيقة من أتون الحياة.

واحدٌ، ابن فلاحَيْنِ،
صنع للنهر معصرةً
ظاناً أنَّ النبيذ يسيل كالماء.

الخمرة لا تحتاج إلى آيات
تحتاج لمن يتقن شربها.

أبي وأبوك
شجرتان:
واحدةٌ زيتونةٌ،
والثانية سنديانةٌ لا تريد الإنحناء.

أَقْبِلْ كما تُقبلُ الشمسُ
هانئةً ولكن حادة.

تراجعْ عن دور الملقِّن،
أيها الكاتب الموهوب،
دع الشخصيات تنام عارية في سرير القارئْ.

أبكيك يا مصطفى،
أبكيك يا من ذهبتَ إلى صيد النجوم
وعدتَ في كفن عسكري.

أبكيك يا وجعي القديمَ،
يا من جرحتَ كنوزي،
وطردتَ بهجتي.

أبكيكَ،
وأسامح اللعنة؛
تلك التي اختطفتكَ شاباً
لم تنحَنِ له الشمس، كما فعلت لكل الأنبياء.

جربتَ المودةَ،
جربتَ الحَيْطةَ،
الغفرانَ، السجونَ.
لِمَ تعتقد
أنَّ الله لن يسامحنا؛
لأنا كنا شيوعيين بسطاء؟

أيتها المقبرةُ،
كم زجاجة من النبيذ يحتاج العبد ليسهَر في أرجائكِ؟
وكم حسنةً لا بدَّ أن يفعلها الزائر الجديدُ
ليكون محطّ إعجاب الموتى؟

12\12/2008


 

 

 

 

 

 

 


 

 


هناك عند حافة الأغاني


أَشردُ مفكراً في الموسيقى،
أبني منزلي، هناك،
هناك؛
عندَ نعال الريح.

قديماً، قالت لي الأرضُ:
ازرعْ نشيدَك بالزهور.

قديماً، لم تقل لي العرَّافة:
ازرعْ زهورَك بالشذى،
افتحْ نبيذَك للغريب.

في شُرفةِ الليل
يتنزه الغرابُ،
في شرفةِ الغيمِ
يتجوُّل المطرُ،
في شرفة النومِ
يلتقي العاشقان،
تغفو النميمةُ
في جبّة الظلام.

فكرة صائبة
أن نُعلِّق الكلماتِ
على حيطان العدم.

فكرة قاتلة
أن نُزيِّن القبورَ
لنقتل الملل.

فكرة فاشلة
أن نمنح العدوَّ
عذاب الضمير،
أو متعة الألم.

أُسرُّ للندى
بحكاية المنفى،
أبوحُ للنهر
بفساد العاطفة،
أشتري الغواية
بخاتم العفة،
أمنحُ جُبَّتي
لسارقي النهار.
لعابري السبيل
أدلقُ غيمتي.

حريتي بستان
أشجارها جفّت
ولمّا يأتِ الشتاء.

حريتي كلمات،
كلمات من خشب،
خشب مقطوعٍ
من غابة النسيان.

زمن بطيءٌ
يُثقل الخطى،
الخُطى صخورٌ
صنعتها الصُوَر.

عصفورةٌ وحيدة
تشرب الندى،
خسرانها كبير،
قلبها طري.

جنازة الشاعرِ
متاحة الوصولِ،
خضرة الوطن
عشبها نشيد.

أزهرَ اللوزُ في حديقة الكتاب،
زنزانة الضميرِ
مكتومة النفس.









هناك في حقول النار

حصدتُ الكثيرَ من القمحِ،
هناك،
في حقولِ النار.
رأيتُ أعدائي يسرقون الكرزَ،
هناك،
في حقول النار.

جمعتُ أسلحتي لأقتل الخنزيرَ،
هناك،
في حقول النار.

ما دلَّني السنونو على قبر أدونيسَ،
احترقت الغلةُ والمذراةُ،
هناك،
في حقول النار.

أمضي إلى (بودروم)،
أمضي إلى خفة التراب،
إلى ملمس الكبريتِ
إلى ساحل الريح.

ليس لي مدينة أشرح عنها للسائحين
مدينتي غرقت في دفاتر النسيان،
حملتها الزواحف نحو قبر الوجود.

يدي، بلا فكرة،
تستعدُّ للكتابة.
ريشتي ناشفةٌ،
وشعلتي باردة.

تغشاني رجفةُ المنجل،
أرتدُّ للجبل.

سريري ترابٌ،
حصاني جريحٌ
في لجامه يمور.

جنازة الضمير في تابوتها تنام،
تنهض في كسلٍ،
يلفُّ نعشَها الوجوم.

عين الصَّيادِ
سكنتها قشَّةٌ حادةٌ..
أطلقوا عليها النار.
ارتبك الطريقُ
لاعناً ضميرَ السهوب.

يا لدهاء القتيلِ
اختفى في الحكاية،
بدَّل المعنى!

صحبة الندى،
صائغة النجوم،
تكيد للسحب.

بفأسٍ مثلومة
عزقت الغيومَ،
عَشَّبتُ وجه الشمس من حلكة الليل،
حفرت باطن الصخورِ
بإصبعي المبتورة.

14\8\2007





هناك في أعالي الجنة

تلمستُ خطايَ على رمل المعجزاتِ، 
تراجعتُ، قليلاً، للأمام لأكشفَ زيفَ المَدَّاحين،
كَذبَ النائحات.
تلبسني شيطانُ الأرض ومدَّ لي جسراً إلى بوابةِ السماء،
هناك ـ في أعالي الجنةِ ـ
وجدتُ الدلفينَ يُراقص الغراب؛
الحمامةَ تأكلُ عينَ الأسد؛
النعامةَ تلدغ الأفعى؛
السعدانَ يمطّ رجليه في وجه الحصان؛
الجبالَ تتهادى بين يدي الهدهد؛
الهضابَ تمطُّ إليتَيْها قرب ذقن الجبلِ؛
الصحراءَ خضراءَ مكسوةً بالشجر؛
الواحاتِ قفراً ترشحُ بالسراب؛
الساحاتِ ملأى بالسكارى؛ 
المصلّين، أكداساً، ينامون على باب الحانوت الربانيِّ؛
حَمَلةَ الشمعدانات يطرقون أبواب الملاهي.

لا أحدَ يعيرُ اهتماماً للآخرة:
الكنائس فارغة من قرع الأجراسِ،
الشهداء يقرون باعترافاتهم للخواء
البوذيون يأكلون اللحوم،
الصوفيون يلبسون الحرير،
المطاعم تبيع الدجاج المكسيكي،
النجوم لا تبدو منيرةً في مرصد الفلكي.

كلُّ شيء هنا مُعدٌّ للكسل،
مُعدٌّ للخلود،
مُعدٌّ للرخاء،
للشواء،
للنيران الباردة.
لا ألوان لتمييز الفضيلة:
المقتولون يرقصون حول جثة الماضي،
اللصوص يحرسون الحواري،
الحُرَّاس يبيعون مفاتيح الذكريات بكؤوس من عسل البلادة.
لا شيءَ هنا يثير العجبَ،
لا شيءَ يجبرُ الطيور على الهبوط في أطباق الغداء،
لا شيء يمسح وجه اليتامى،
وحدَها النوارس تحلّق ضاحكةً من كل شيء؛
من الماء والهواء،
من الطين والنار،
من الموهومين،
والمحرومين،
من عناتا وبَعْل،
من عبد مناف،
من أبي سفيان
ومن أبي جهل.

كلّما ارتفع الدخان من شجر أبيض
هوت نجمةٌ تبكي بين يدي الحريق،
لا شيءَ يثير العجب،
لا شيء يطلق دهشة الوديانِ،
فزعَ الحقول الذابلة
حُبابَ الكؤوس الصفراءِ.
كلُّ شيءٍ هنا لا يشبه شيئا:
الطيور لا تشبه الطيورَ،
الجبال لا تشبه الجبال
الشوارع ليست صالحة للمشي
البيوتُ لا تشبه المنازل
القلاعُ خاويةٌ بلا أبواب
البَرَاكينُ تندلق
من فوهة الحيطان بلا سبب
وبلا سَبَبٍ ثلجٌ يحترق
الهواء لا يحمل العصافير
لا بحرَ يرفع سفناً أو خشبا
كلُّ شيءٍ لا يشبه شيئاً
لا نهرَ يتلوى أو يسيل
لا ماء ينفع العطاش
لا دودَ يأكل الموتى.
غاباتٌ بلا أشجار
سهولٌ بلا طين
ترابٌ بلا أجساد
لا زمانَ
لا فراغَ يسندُ ذراعَ الوقت
لا وقتَ يدخلُ تفاصيل النهار
الغيومُ تشبه شيئاً ولا تشبه شيئاً
السماءُ خضراء أحياناً
بيضاءُ ثانيةً
صفراء في كل حين.
 
لا شيءَ يشبهُ شيئا
لا كلمات تقال لتفصح عن "منطوق الطير"
أو موعد القيامة
لا حديثَ ولا نظرات
كلُّ شيء هنا فريد
رصاصٌ مصهورٌ من مَعْدَنٍ غريب
عباراتٌ صامتة
صراخٌ لا عويلَ فيه
ليلٌ بلا سكون
نهارٌ بلا ضياء
كواكب لا تقول شيئا
ولا تلمع وسط العتمة.

19\8\2008









 كأسٌ وحيدة

شيمتي الخراب
لا يجادلني العبث.
*
حكمتي أنتِ
رأسي لا يصلح مستودعاً للنصائح
خذي كلماتِك الرزينة
خذي سريرَك الحجري
سأقطع حبلَ الغسيل
أحتفظُ بذكرى ما عليه.
*
شرطُ النصيحة
بياضُ القلب
شرطي الوحيد
تأبينُ الفضيلة.
*
مجنونة حبلتْ بغيمة
أنارَ صدرَها البرقُ
عقد قرانَها المطر.
*
عاقلٌ أخلد لليقين
أدركته التجاعيد.
*
امرأةٌ من عسل البرتقال
ملأت صدري بمنحلة كاملة.
*
ليس برقاً في العيون
كلمة قيلت في إناء الليل.
*
كأسي تتناقص
يخامرني نوم عليل
نومٌ خفيفٌ
قرب عين الموسيقى
يداهمني بوحٌ حزينٌ
بوح قليل
من فم الساقية.
*
كأسي وحيدة
تنتظر التثنية
كلُّ شكٍ كفر،
لا شكّ
كلّ إنكار فرج،
لا فرج
كل معصية رحمة.
*
كأسي الثلجية 
تذوب في مزاعمي....
...هنا غزوتُ قارةً
..هنا فتحتُ مدينة
هنا قتلتُ جنودَ الملك سليمان
في الجبهة البعيدة أرسلتُ جيوشي
في المساء وزعتُ الولاة
في بقية الكأس
متسعٌ
لإعادة
ترتيب
الخلق.

عمان 12-1-2004


 

 




 
 
ما يمرُّ ليل
 
ما يجعلُ الليلَ خفاشا
ما يجعل الحقيقةَ أنثى
ما يجعل العمر سرابا 
ما يجعلني سحابة.
*
من جبالٍ بعيدة
من غابات حجرية
من عنبٍ مسروق 
جاءت كلماتي.
*
مطلعُ النشيد
مغرب الترويدة 
ضحى الكلمات
عتمة الخجل
نخلةٌ عجفاء.
*
مصبُّ النار
خشية النهر
فاتني الرومان
فاتني الفرس
لم أخلدْ في العصور.
*
سكين القاتل
سكين المقتول
سيفُ البرابرة
يجرحُ الشمس.
*
الريح معفرة
دم البرتقالة جدول
البرتقالة تخطفها الشمس
الغابة تبكي.
*
ثم إليكَ
تنتهي من قراءة المعوذات
ثم إليك
ترحل إلى الغيمة
ألحق بكما
تهبطان إلى بطنِ الحوت
تموتان
تغويان الموتَ فيحيا.
*
اتركني يا إلهي
قليلٌ من الدماء يبلُّ الصليب.
*
يسحرني علوُ الجبل
يسحرني انخفاض البشر
لا يعجبني طلاء العدم.
*
من سَرَّه يكون
من ساءه يمضي
خفةٌ مِنْ حيلة
قلةٌ مِنْ جنون.

*
أديان وأنبياء
رسلٌ ومعابد
كراهية تدبُّ في التعاليم
قتلى يجوبون الأعراس
جنائز تهبط العالمَ السفلي
تمضي في نهر الجحيم.
*
مراراً
وتكراراً
أرسلني الله
إلى نفسي.
*
ما يمر ليل
ما تمضي سحب
ما يَعنُّ نأيٌ
أو ناي
تنتابني حسرة.
عمان 2004


















أخشى المساحة التي تلي العَتمة


لن أسامح الضجر
سأُلقي به في سلة المهملات
وأعودُ سريعاً إلى حانة الخريف.
يمشي بنا الوقت
تمشي بنا الأكاذيب
نعلق حبل النهار على سطح الأمل
نرمي الضحية تلو الضحية
نستبد بجيران الأسى
نكتب شعرا في مديح الخسة
نسكب شاطئ النار في جبة العصيان
يتولى العمى بناء المعجزة.

آه من شجر منزوع الأغصان
أه من شعراء نكرات
آه من حكام عجزة
يرمون الشعب بالجهالة
وآه من أمم تنافق للذباب
كي لا يتعكر طعم الهوان.

أخشى المساحة التي تلي العتمة،
في ضوء الفجر النازف من يد النجمة
قالت لي البنت الصغرى
ضمني إلى مجرتك
أخشى الليل يقايض العتمة بشهوة النار.

مستوى الأرض
أعلى قليلا من حذاء الغيم
هنا تتساوى الرؤوس والجذور
الكائنات سعيدة بالانقلاب الطبقي
قشرة الأرض تحك وجه القمر
كفن السماء جريح.

بيتي مدينة للعقارب
بيادري زائفة
أجمع الحصى من طحين الخابية.

ليتني عصرت الشفق
بيدين من كحول.

للبيت حارس ليلي
يقي السكون من عسس الوشاية
يقي الروح من عناء التشرد
ليتني شارد وحيد في غابة الذهول.

نمتُ طويلا في سرير التأويل
لم يكن معي سواي
نمت مئات السنين
في باطن الحوت
لم أصح بعد من غيبوية الحكاية.


سأظل كما غصن زيتون
أخضرَ مثمرا
ومائلا للطين
أحني أوراقي للشمس
أحك جذعي كلما مر طائر
أتشبث بيد الجبل
كي لا تكسرني العاصفة
أحمي ساقي من فؤوس القتلة
ولا أقي رأسي من نعيق الغربان.

ذكور النحل تزن فوق رأس الوردة
تعتدي على هناء الوردة
تمتص رحيق الوردة
تلسع الهواء إن مسّ حدودها
تحلم بمطاردة الملكة
تبيت على جوعها وفي عفتها
إلى أن يحين موعد الغرام
تكسر كل صبرها وتنسى دم الوردة.
2009-6-25




لن أحطَّ من قيمة الصفصاف


جبرتُ خاطرَ الكمان
بيدي هاتين
كسرتُ نظرة الفريسة
بحقها في الجوار.
أيّ فراق يسبر غور الخطيئة
أي نجاة من حريق غرناطة
ومن عار المغزى.
لم يتسن للشقي لملمة الياسيمن
سفينة المدى هادئة
وبعيدٌ بعيد صوتك يا بحر.
لأدور في حديقة الجنون
أكتوي بنار الكراهية
أحمل حجر العناء
بعيداً عن طنين الذباب.
ملكني الحنان
وضعت زهوي في كف التراخي
رميت عقلي في مجرة الحيرة
لم يعترف بالمسافة بين الخيانة والكسل
بين الحكمة والنوم
بين الرجاء وشرفة الرجاء.
استوى البياض والأمل
ترفق الصدى بجريمة الناي
أغوتني البدايات
ألهبتْ حماسي البروق
ضيعتْ مهادي العاصفة
تمزق فستان الكبرياء
تفرقت النزوات
تبدى السهل محروقا
والجبل جافلا.
بعيدا عن مساقط الشهب
تهادى وحش الرقة.
ليس بين الصيف والجناية
سوى خيط قبح خفيف.

البيت مليء بالنفور
والقبلة لم تعد تغري.

ما كنت مليئا بالحكمة
كانت مياه النهر دافقة
ما كنت خاويا مني
كانت يداي تتشبثان بعرف البحر
وهروب المعنى.

اللعنة ضاقت بحارس التابوت
حَلَّقت بي قريباً من جنازة النهر.

جدلٌ يفضي لمقبرة الزهور
خشية الفقد بدّدتُ كرامة الحقول.

لعابر السهوب
سكبت لبن الضغينة.

لأجدد التحية لوجه الغرور
أكسر عصا الطغيان
أفك عصمة الخزف.

تهشيم رأس الوشاية
ليس ضرورة شعرية.
2009-07-21

هامش:

ليكن ما كان
ليكن ما سوف يكون
ولكن ...
لن أصفع الشمسَ بيد المساء
لن أحبس الغيم في حدقة الخوف
ولن أحطَّ من قيمة الصفصاف؟

لا تتوقف الرذيلة عن استحضار زينتها
لا تتدفق الحقيقة من فم الجدول
تسرع الخطى لتُكتب آثار الأمير المهزوم.


















 صدر للشاعر
    1- شغب – عمان-1988م.
2- تزدادين سماءً وبساتين، دار الفارس - عمان1998.
3- شجري أعلى ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1999
4- أسفار موسى العهد الأخير، المؤسسة العربية، بيروت عام 2002
5- من جهة البحر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2004
6- سلالتي الريح عنواني المطر – دار الشروق رام الله 2007
7- كما يليق بطير طائش، دار اليازوري عَمان 2008 .
8- سلالتي الريح عنواني المطر وقصائد أخرى، مختارات شعرية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة- القاهرة 2010

















التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads