الرئيسية » , , » صلاح ستيتية.. كمن يتحسّس في الظلمة | عيسى مخلوف

صلاح ستيتية.. كمن يتحسّس في الظلمة | عيسى مخلوف

Written By هشام الصباحي on الجمعة، 21 يونيو 2019 | يونيو 21, 2019


 

في ديوانه "L'Uraeus" (الثعبان الذي يرى)، الصادر حديثاً عن دار "فاتا مورغانا" الباريسية، كما في مجمل كتاباته الشعرية الأخيرة، يقف صلاح ستيتية في البرهة الفاصلة بين الحياة والموت. يرفع رأسه قليلاً وينظر إلى الأمام، ثمّ يلتفت إلى الوراء، ولا يرى شيئاً. ما عسى العين أن ترى في هذه النقطة بالذات، في هذا الموقع المتقدِّم وقد وصله بسرعة تفوق الوصف؟ أين الطفل الذي كانه في بيروت؟ أين الطالب الجامعي الذي سار في شوارع باريس وجالَ في مكتباتها؟ أين هي تلك الأيام والسنوات التي ظنّ خطأً أنّها أيامه وسنواته، ثمّ أدرك لاحقاً أنّ الحياة ليست شيئاً نملكه بل هي الشيء الذي يعبر؟

حيال هذه التساؤلات، ما الذي يمكن إنقاذه بعد الآن وما باستطاعة الكتابة أن تفعل؟ ما باستطاعة الكلام أن يقول غير ما قاله يوماً عمر الخيام: "ما عالمنا وما الحياة؟/ حلم، وَهم، سراب، خطوة ناقصة...".

يكتب صلاح ستيتية كمن يتحسّس في الظلمة نبضَه الغريب ويتفقّد جريان الدم في العروق. يتحرّك داخل نسيج من الأحاجي والألغاز. و"اللغز" هي الكلمة التي اختارها عنواناً لإحدى قصائد هذا الديوان، وفيها يتحدث عن عصفور يطير داخل غرفة مقفلة، يتلعثم في طيرانه، ثمّ لا يلبث أن يرتطم في الجدار ويختفي. جاء في القصيدة: "يطيرُ الطفلُ، يطيرُ الطفلُ/ صرختُ في الغرفة/ طارَ الطفلُ في الغرفة/ وامّحى في الجدار".

في صباح أحد الأيام من شهر نيسان الماضي، عندما قرأ لي صلاح ستيتية هذه القصيدة، للمرّة الأولى، أخبرني أنها الحلم الذي "رأيته أمس في نومي". إنها الكتابة من جهة الخوف من الموت، والشاعر، هنا، هو المتكلم الأول عن موته. يستشعره قبل حدوثه، يجوس الخبيء مصغياً في نفسه إلى الريح الطالعة من العدم.

"طار الطفلُ في الغرفة وامّحى في الجدار". كأنّ الذي يموت فينا، حين نموت، هو الطفل. أسأل صلاح: كيف تُحسَب المسافة، في القصيدة، بين الطفولة والشيخوخة؟ هل تُحسَب بالسنوات والخلايا والأنسجة العضويّة، أم بالأحاسيس والحدس والأفكار؟ ما الفرق بين هذه وتلك؟ ولماذا لا يبدأ 
الكائن حياته مسنّاً ثمّ يرتقي إلى الطفولة؟

رواية الحلم هي، بهذا المعنى، التأكيد على التباس الإقامة بين الحضور والغياب. تلك الإقامة التي لم يعد دونها إلاّ الجدار، وبعده اللاشيء، ما يجعل الكائن، في لحظة محدّدة من حياته، هو المدّ الذي يمتدّ إلى ما لانهاية أو الجزر الذي ينحسر مرّة واحدة وأخيرة، صورةً لاختلال العلاقة داخل العناصر المكوّنة للثنائيات. قطرات مطر تتحرّك في المسافة الفاصلة بين السماء والأرض، وهي مسافتها الوحيدة وحدود وجودها القصير العابر. لا قبل ولا بعد. أسيرة قدرها المحسوب بدقّة أشدّ شراسة من الجنون.

يعرف الشاعر أنّ هذه المعركة لا تنفع معها المقاومة، وهي مفروضة عليه فرضاً، مثلما فُرضَت على سواه منذ البداية. وأنها المعركة الأخيرة التي تكشف عن فداحة مصير الإنسان، هذا الذي يخوض الحروب ويبني الحضارات، كأنما يشيح النظر عن ذاك المصير الفرديّ، المحتوم والغامض.

"فارغٌ هو العالم/ العالمُ فارغ/ فارغةٌ هي الأرض/ الأرضُ فارغة/ فارغةٌ هي السماء/ السماءُ فارغة/ فارغةٌ هي الريح/ الريحُ فارغة/ القلبُ أيضاً/ الحبُّ أيضاً/ الأملُ أيضاً...".

هكذا يستهلّ صلاح ستيتية ديوانه الأخير، كأنه يكتب كلمة الختام. وهو، هنا، لا يكتب الشعر بل ينازع الخَواء، مدركاً أنه لا يُعطَى للنظرة الصاحية الوقت الكافي لكي تتأمّل، بِعُمق، شجرة واحدة. حبّة رمل واحدة. لا يعطى للجسد الوقت الكافي لكي يعيش. وحين يعثر على الأحرف الأولى من أبجدية وجوده على الأرض، يكون قد تأخّر على الحياة، ولم يقل بعدُ تلك الكلمة التي ظنّ أنه سيقولها، ومن أجلها انتظر كلّ هذا الانتظار، من أجلها كتبَ كلّ تلك الكتب.

المصدر العربي الجديد في 22 أغسطس 2014


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads