الرئيسية » , , , » خيال الضرورة.. ومرجعياته في شعر العامية | محمود الحلواني

خيال الضرورة.. ومرجعياته في شعر العامية | محمود الحلواني

Written By هشام الصباحي on الجمعة، 19 أكتوبر 2018 | أكتوبر 19, 2018

خيال الضرورة.. ومرجعياته
في شعر العامية
محمود الحلواني

«كأني في يد المُزارع حبوب 
على أرض مصر ومن الصباح وبدرني 
كلامي زي الخير يروح المضارب 
كلامي يتقدم 
كلامي يحارب 
وف مره تانيه نغوص في معنى الحياه 
وف مره تانيه حنفرش ورد ع المسرح 
للي عاوز ورد 
أما النهارده الواجب 
أما النهارده الفرض» 
فؤاد حداد
***
« من يوم نطقت لقيتني ميدان 
لكل أحزان الإنسان»
سمير عبد الباقي
على بلد المحبوب وديني..
 زاد وجدي والبعد كاوينى"

لم يكن أحمد رامي يعلم - أو لعله كان يعلم، من يدرى؟ - أن هذا السطر الشعري، المسرف في بساطته وتلقائيته، والذي كتبه لتغنيه أم كلثوم عام1935، يصلح – بامتياز-لأن يشكّل مجازا شعريا، يحيلنا إلى زاوية أوسع، ننظر خلالها إلى تلك الرحلة التي تتشوف ذواتنا دوما إلى القيام بها، متنقلة من الشقاء إلى السعادة، من عذاب الوحدة في المنافي إلى الوطن؛ إلى بلد المحبوب الذي تلتئم فيه أرواحنا وتستقر، كاشفا - سطر رامي- عن مساحة ليست هينة من شوق الإنسان ورجائه الحار تلَمُّس الطريق إلى حلمه و السعي باتجاه تحقيقه، على اختلاف ماهية هذا الحلم، وعلى اختلاف طرق السعي والوصول إليه؟ 
وربما جاز لنا أيضا أن نغامر بالقول إن هذا السطر يكاد يختزل، في كلمات قليلة، إجابة الإبداع الأدبي والفني وسؤاله معا، على اختلاف صياغات ذلك الإبداع وعلى اختلاف أنواعه، فما كدح الكتّاب وصنّاع الفن، فيما يتمثلونه في إبداعاتهم من صراعات يخوضونها و مخاطر وعقبات يسعون للتغلب عليها، وأسرار ورموز يحاولون فك شفراتها وفهمها، عبر مادتهم وتشكيلاتهم، ما ذلك كله - في تقديري- سوى محاولات للوصول إلى بلد المحبوب، الذي هو دائما بعيد، لا يشبه الواقع الذي يحيونه، إنما يشبه الحلم الذي يخايلهم بملامحه الغامضة المراوغة، والذي هو - على الرغم من ذلك - أكثر صدقا وواقعية- بالنسبة إليهم- من الواقع ذاته. 
جملة رامي" يمكن قراءتها – إذًا- بوصفها تمثيلا لكل إبداع مؤرق بحلم، يدفعه الوجد وألم البعد والانفصال إلى تلمس الطريق إلى الاتصال، إلى هناءة بلد المحبوب.
إذا اتفقنا على ذلك، فلن نختلف – فيما أظن- على أن الجملة تصبح أكثر تعبيرا عن حال شعر العامية المصرية وأكثر اتساقا مع مسيرته وتأرقه الطويل والأصيل بالهم الاجتماعي، وسعيه القديم والمتجدد لتمثل أحوال الشعب، والتعبير عن آلامه وآماله، بوصف ذلك "ضرورة" أخلاقيه ألزم بها نفسه، فألزم خطابه و خياله – من ثم – بالاقتران بكل ما يمثل "ضرورة" لا غنى عنها لحياة هذا الشعب، حتى يتجاوز حاجاته المادية والروحية، فربما وصل يوما إلى بلد المحبوب.
يمكن القول إن شعر العامية المصرية بوصفه خطابا أدبيا صَاحَبَ نشأته تأكيدٌ على الالتزام بقضايا الشعب، والانتماء لطبقاته الأكدح و الأوسع، وتصميم حقيقي على الوصول إليها بلغتها- بلغاتها- كان الأكثر جاهزية، واستعدادا لاحتضان وتمثل المخيال الاجتماعي المصري، بما يضمه هذا المخيال من تصورات ومعايير وقيم ومعتقدات، صنعت عبر تاريخ طويل، واستقرت عميقا في تصورات الجماعة عن ذاتها، وعن العالم، مع عدم إغفال كونه - أي شعر العامية - منتجا فرديا يتفاعل مع هذا المخيال الاجتماعي العريض ويتجادل معه، مفرزا ما يمكن النظر إليه بوصفه خيالا خاصا به، يميزه ويشكل إضافة تخصه، داخل المخيال الاجتماعي العريض.
وكما يتشكل المخيال الاجتماعي من جملة المعتقدات والعادات والتقاليد والقيم والصور التي راكمها المجتمع عبر تاريخه، وهو ما يمكن وصفه بالعنصر الغاطس في هذا المخيال، فإنه ينفعل أيضا بالواقع المعيش للمجتمع، وبالموقع الذي يحتله إنسانه على سلم احتياجاته الأساسية؛ ما الذي أشبعه منها، وما الذي لم يشبعه؟ الأمر الذي – أحسبه – أسهم في إعادة تشكيل هذا المخيال وفقا للمتغير الاجتماعي، واستجابة لدواع "الضرورة"، وهو المجال الذي تميز فيه شعر العامية، وأنتج داخله ذلك الخيال الخاص الذي تقترح هذه القراءة تسميته بـ "خيال الضرورة".      
 في قياسه للدوافع التي تشغل الإنسان وتدفعه للفعل صمَّم عالم النفس الأمريكي "إبراهام ماسلو" ما عرف بـاسم "هرم الاحتياجات" ضمن نظريته في "التسلسل الهرمي للاحتياجات الإنسانية" و رتب خلاله الاحتياجات الأساسية التي تشكل هذه الدوافع، من أدنى إلى أعلى، ومن الأهم فالمهم، بادئا بالحاجات الفسيولوجية الملحة التي لا يمكن الاستغناء عنها للمحافظة على الحياة، كالحاجة إلى الطعام والشراب، والتنفس، والجنس وغيرها، فاحتياجات الأمان التي تشمل الأمان الجسدي والوظيفي و النفسي، والأمن الصحي، وكذلك أمن الممتلكات الشخصية، يلي ذلك الاحتياجات الاجتماعية التي تشمل العلاقات العاطفية، والحاجة إلى الانتماء وتكوين الصداقات، وأخيرا الحاجة إلى التقدير و تحقيق المكانة الاجتماعية المتميزة و الشعور بالثقة والقوة. 
وعلى الرغم مما وجه لنظرية "ماسلو" من نقد، فإنها لاتزال قادرة – من وجهة نظري – على وصف وتفسير وقياس طبيعة وحجم الموضوعات التي يمكن أن تشغل خيال الجماعات الإنسانية على اختلافها، بل والتنبؤ بها أيضا، فما يشغل خيال الفقير ومن لا يجد قوت يومه، بالتأكيد ليس هو ما يشغل الغني، وما يشغل الحُر و المطمئن، ليس هو ما يشغل السجين و المهدد. 
تنبني فرضية هذه القراءة على أن مجتمعنا- في قاعدته الشعبية الأعرض- لم يُتَح له إشباع الكثير من احتياجاته الضرورية، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، كما على مستوى احتياجات الأمان والحريات- ليس من شأن هذا الكتاب مناقشة الأسباب- الأمر الذي استدعى هذا السؤال:   
ما الذي يمكن أن يتشكل منه خيال مجتمع كهذا؟
توصّل شعبنا- بخبراته العميقة- إلى تقديم إجابة رائعة ومهمة تصلح لأن نقرأ على ضوئها ما يمكن أن يكون قد تشكل منه خيال مجتمعنا، بل وخيال الكثير من المجتمعات التي لم تزل أسيرة احتياجاتها الضرورية، عند سفح الهرم أو في أدنى السلم. 
يقول المثل الشعبي: "الجعان يحلم بسوق العيش". 
نعم هو هكذا بالضبط: "الجعان يحلم بسوق العيش". أي إن ما يشغل ذهن "الجعان" وما تدور حوله انشغالاته وتولد منه تصوراته، ويشكل مساحة خياله وأحلامه هو ما ينقصه ويحتاج إليه بالفعل، وعلى سبيل "الضرورة". ومن هنا جاءت تسمية هذا المقال بـ (خيال الضرورة) الذي أزعم أن شعر العامية قد ألزم نفسه به كموقف اجتماعي، ثم أعاد إنتاجه جماليا.
إن النظرة الشعبية للجائع وحلمه – كما يعبر المثل– تجعلنا نطل على فضائين متجاورين و متجادلين يشكلان خيال "الجائع"؛ الأول: هو فضاء جوعه واحتياجه - بمستوياته المتعددة – كواقع يعيشه وكشعور بما يصاحب هذا الواقع من ألم، وهو الفضاء الخاص بذاكرته وما تختزنه من صور وأحاسيس، والثاني: هو كل ما يتصل بحلمه من صور وتمثيلات ورؤى تتجاوز الإحساس بالجوع وتحمل حلولا للمستقبل، تأخذ صورة "سوق العيش". 
يقول فؤاد حداد في حكاية"البلبل الصداح":
"قال ياللي بتغنّي على قد شقاك واتمنّى".
ويقول أيضا في "أيام العجب والموت": 
"غنوني شكل اللي ضاع مني"
وفق الاقتراح الذي تقدمه هذه القراءة فإن "الجعان" وحلمه بـ"سوق العيش"، يمثل استعارة، يمكن أن تكون كاشفة لما شغل مساحة اهتمام وشكَّل خيال شعر العامية المصرية، منذ ظهوره مع بدايات القرن الماضي، أو قبلها بسنوات قليلة، لاسيما وقد قدم نفسه بصفته المعبر عن الشعب، ملتزما بأن يكون لسان حال مجتمعه والمعبر عن آلامه وآماله؛ عن حاجاته من ناحية، وعما يلبيها ويسد جوعها ويشبعها من الناحية الأخرى.
اختارت العامية أن تلعب ذلك الدور منذ البداية، فيما يمكن أن يسجل لها، بحسبانه التزاما أخلاقيا واعيا ومنظما، ينطلق من إدراك للشعر بوصفه "ضرورة" من شأنها احتضان هموم الشعب وعمل ما يلزم من أجل تنويره، والتعبير به و عنه، وهو ما عبّرت عنه الكثير من أشعار رواد العامية الكبار وكتاباتهم منذ أزجال عبد الله النديم، مرورا بأشعار بيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين وغيرهم. 
نلاحظ - مما سبق - وجود (ضرورتين) إليهما يرجع إطلاق تسمية "خيال الضرورة" على ما أتصور أنه الفضاء الخيالي الذي أنجزه شعر العامية - وهو ما تفترضه هذه القراءة - الضرورة الأولى تتصل بالاحتياجات الضرورية بالنسبة للمجتمع، أما الضرورة الثانية فهي التي تتصل بإدراك شعر العامية لدوره بوصفه "ضرورة" يقتضيها التزامه بالتعبير عن هذه الاحتياجات وفق الأولويات التي ربما يشير إليها المثل الشعبي المذكور.    
يقول فؤاد حداد في قصيدة "مبدأ الكلام" في ديوانه كلمة مصر، مجسدا اعتقاده فيما يجب أن يكون دور الكلمة، والأولويات التي يرتبها لها: 
" كأني في يد المزارع حبوب/ على أرض مصر ومن الصباح وبدرني 
(...) كلامي زي الخير يروح المضارب/ كلامي يتقدم/ كلامي يحارب" 
ثم يأتي بعد ذلك ف الأولوية:     
    " ومره تانيه نغوص في معنى الحياه
وف مره تانيه حنفرش ورد ع المسرح للي عاوز ورد
 أما النهارده الواجب
 أما النهارده الفرض"
وينظر سيد حجاب إلى نفسه بوصفه مكلفًا بلعب هذا الدور من قِبَلِ الناس، فيتخيل أنهم الذين يحرضونه على أدائه:
" يا شاعر املا شعرنا بعمرنا/ داحنا هنا.. إحنا هنا.. هنا هنا" 
فيقول في قصيدة " تلات أغنيات للشعب": 
" ملعون أنا لو احلب الكلمه/ من ضحكة النجمه/ وانسى أغنى لضحكة الإنسان"
فالشعر لديه فعل مادي وضروري لتحقيق إنجاز على الأرض:   
"الشعر غنوه للباب المصدى قفله لَجل ينفتح
 و لَجل ان في يوم نقطف زهور الحب والحديد"
وتكثر إعلانات الانتماء للشعب، وتقديم شعراء العامية لأنفسهم بوصفهم صوته وكلمته:  
يقول احمد فؤاد نجم: 
"الشارع بيتنا وغنوتنا/ والشارع أعظمها مغني
 من لحم الشارع كلمتنا/ على لحن الشارع بنغني 
وان جعنا شبعنا بتتقضى/ ما نبعش الكلمه بميت فضه
 والصوت الشايل غنوتنا/ بتراب الشارع متحني/هو احنا كده..." 
شعر العامية لم يحكمه أو يحركه الهوى، ولم يذهب خلف كل خيال يلوح هنا أو هناك دون رابط، إنما ألزم نفسه منذ البدء بالغناء للفقراء، والتعبير عن مشكلاتهم، يؤجل الغوص في معني الحياة، و تقديم الزهور لمن يريدها، مقدما على ذلك الفرض والواجب، فيما يعد نفسه ملعونا إن هو راح " يحلب الكلمة من ضحكة النجمة" ونسي الغناء للإنسان.
ذلك ما دفعنا لأن نصل انشغالات شعر العامية بمفهوم "الضرورة"، واقترح تسمية ما أنجزه من صور وتمثيلات لهذه الانشغالات بـ "خيال الضرورة"، أي الخيال الذي تمتد صوره وتمثيلاته ما بين الحاجات الضرورية غير المشبَعة للإنسان/ المجتمع / الشعب/ الوطن، وبين صور إشباعها التي ترتبط بها ارتباط البذرة بالثمرة، وهو الخيال الذي- أعتقد أنه - هيمن كثيرا على انشغالات شعر العامية، وحدد فضاءه، ورتّب أولوياته، واختار له مرجعياته من عناصر تراثية شعبية، ومن موضوعات وأحداث وميادين صراع، داخلية وخارجية، وأسهم في تشكيل رؤيته للعالم.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads