الرئيسية » » كيف يكون لطفل فلسطيني واحد عشر امهات؟ | زياد خداش

كيف يكون لطفل فلسطيني واحد عشر امهات؟ | زياد خداش

Written By هشام الصباحي on الخميس، 4 مايو 2017 | مايو 04, 2017


كيف يكون لطفل فلسطيني واحد عشر امهات؟
ما زلت أذكرهن، أمهات بأثواب فلسطينية، في مساءات وصباحات قديمة محفوظة في ذاكرة الجلد والدم والروح، كن يتجولن فرادى أو زرافات، في الشوارع الـملتهبة، والأزقة الثائرة ضد ظلـمة الاحتلال، في زمن الانتفاضة الأولى، كن دائماً جاهزات دون توجيه أو تنسيق مع أحد، شيء يشبه الاستجابة الغريزية إلى نداء يصدره الوطن كله بما فيه حجارته وغيمه وشجره، ليهجمن على كائنات العتمة الوقحة، أولئك الجنود الحمقى أو الـمساكين، الذين كانوا يعتقدون أنه بالإمكان وقف تسرب الضوء من الشمس إلى الشجر والنباتات والحدائق، أمهاتنا الرائعات اللواتي لا نعرف أسماءهن حتى الآن، ولا نعرف أين هن الآن، كن يهجمن على الجنود، بقوة وغضب الأمهات الحقيقيات، بسواعدهن وعيونهن وصيحاتهن، يحاولن تخليصنا نحن الصغار الـمجانين، راشقي الحب والأمل والحجارة، عشرات الأمهات الـمتجولات، بأثواب فلسطينية تماماً، يشددن ثيابنا، الجنود يشدون أيادينا، الـمعركة الغريبة متواصلة، أجسادنا النحيلة والصغيرة هي ساحة الـمعركة، الجنود غاضبون، حائرون، كيف يكون لطفل واحد عشر أمهات؟ الأمهات يصرخن: ابني ابني، فلت ابني يا حيوان، ابني هذا ابني، يضجر الجنود أو يخافون أو يستسلـمون، تنتصر أمهاتنا الـمجهولات، تتحرر أجسادنا، نهرب نحن الـمجانين الصغار بقمصاننا الـممزقة، وضحكاتنا الـمجنونة، إلى شارع آخر، لأمهات أخريات ينتظرن على الـمفارق بأثواب فلسطينية جداً، لجنود آخرين، حجارة أخرى.
 يا أمهاتنا الـمجهولات الـمختفيات الجميلات أين أنتن الآن؟ كم افتقدتكن! أفتقد قميصي الـممزق، والجني الذي كان يسكن جسدي وعيني، ماذا تفعلن؟ أهدتكنّ هموم الحياة؟ أم خذلكنّ الوطن، وغزتكن الأمراض،؟ أنت يا أمي، يا محررتي، أيتها السبعينية، يا بائعة العنب على مدخل سوق الخضار، ألست واحدة من أمهاتي؟ ما بك تنظرين بتوجس إليّ هكذا وكأنني لص يريد سرقة عنبك؟ أنا أحد أبنائك من ذوي القمصان الـممزقة، ألا تذكريني؟ أين زميلاتك الرائعات: أم محمد أم صابر أم جمعة... أنا لا أعرفهن، لكني أعطيهن أسماء من وعيي الوهمي الـمعذب حتى أرتاح وأراهن، أريد أن أشكرهن، إذ إننا لـم نشكرهن حتى الآن، فقد كنا صغاراً مشغولين ومسرعين، لـم تكن كلـمة الشكر واردةً بيننا، هل سمعتم ولداً يقول لأمه شكراً لأنها تحكم غطاءه في السرير؟. أنا كبرت الآن يا أمهاتي، صرت في الخمسين، لـم يعد هناك جنود أرشقهم بحجارة، تكالب الأعداء الـمحليون على روحي من كل صوب، مرضى وتافهون وضيقون، سدت طرق كثيرة أمامي، لـم أعد أقوى على حمل الحجارة ورشقها، صرت أحمل كتباً ومدناً وأقلاماً وصور أصحابي الـميتين، وجثتي (والذين سيموتون) وأحلاماً، هي حرب أخرى على جبهة أخرى، كم أنا بحاجة الآن إليكن، يا أمهاتي الـمجهولات لتشددن ثيابي، تمزقنها، وتصرخن على أحلامي وكتبي وأعدائي الـمحليين: فلتوه، هذا ابننا، ابننا، ابننا، فلتوه، فلتوه.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads