الرئيسية » , , , » حكاية “بره الصندوق” | جمال الجمل

حكاية “بره الصندوق” | جمال الجمل

Written By هشام الصباحي on الأحد، 5 فبراير 2017 | فبراير 05, 2017

(1)
مثل كل بيت، لدينا جماعة “منفضين دماغهم”، وفريق مشاكس من “أهل الشر”، ولدينا أيضا “قلب كبير” من أصحاب “النية الحسنة”، وصاحب النية الحسنة في بيتنا، هو الزعيم السابق، الأب الذي كان في شبابه معاديا لعبد الناصر، بحجة أنه ديكتاتور، يتعامل مع خصومه بالشدة والقسوة، لكن حكمة الأيام ووطأة الشيخوخة استأنسته حتى تحول الصقر المتعالي إلى حمامة وديعة مسالمة.

(2)
“الزعيم الأب” هو الوحيد في العائلة كلها الذي انتخب السيسي، وظل يدافع عنه، مُهونا من أي سلبيات، حتى التي يعترف ببعضها في أي نقاش بيننا، لكنه كان يقول دائماً: إنها شيء لزوم الشيء، فالسلبيات نتاج مرحلة سابقة، وتركة ثقيلة من الأخطاء القديمة، التي لا يجب أن نرميها على كاهل السيسي وحده، وظل أبي يختتم أي نقاش بموال المرحلة.. “موال الصبر”، مؤكداً أننا لابد أن نتحمل، وننتظر، لنرى النتائج الجيدة، فليس من العدل تقييم الأداء قبل ذلك.

(3)
كنت قد نشرت مقالاً للتعليق على فشل الحكومة في إدارة عملية “تغيير ماسورة المياه بالجيزة” والتي أدت إلى انقطاع المياه عن سكان 22 منطقة لمدة زادت عن 50 ساعة، وكانت شركة المياه قد أصدرت بيانا رسميا قالت فيه أنها ستقطع المياه من الساعة 10 صباح الأربعاء إلى الساعة 10 صباح الخميس، وأرسل لي أبي صورة البيان، ونبهني لتخزين احتياجاتي من الماء، أما هو فقد استقر على أن أفضل وقت لتخزين الماء بالنسبة له، بعد صلاة الفجر والإفطار، لكنه فوجيء بانقطاع الماء في السادسة صباحا وليس في العاشرة، ولما قرأ أبي المقال الذي ذكرت فيه ذلك، اتصل بي وقال ضاحكا: أنت بتشهر بيا على العلن؟.. فيها إيه إني صدقت البيان الرسمي لشركة مياه الشرب؟ وكانت النتيجة إني ما لحقتش أخزن ميه؟، أظن الطبيعي إن المواطن (والإنسان عموما) يتعامل بنية حسنة، ويفترض الصحيح، ويستبشر بالخير.. عشان الدنيا تمشي، وإلا هنفضل خايفين وبنزرع الشوك والشك بيننا جميعاً، ونتحول في النهاية لمتربصين ببعضنا البعض، وربما لخصوم وأعداء.. لو ما صدقتش كلام الناس، والمسؤولين تحديدا.. يبقى هعيش ازاي؟!

(4)
قلت: أنت تناقشني دائما من منطلق معرفتك بأنني عارضت فكرة ترشح السيسي قبل أن يعلن ذلك رسمياً، لكنك تنسى أنني كنت مثلك صدقته حتى وضعنا أمام سؤال إجباري فرض “الضرورة” على الجميع كإجابة وحيدة ، فكتبت أسباب تحفظي على الترشح، وحذرت من النتائج السلبية لذلك، وأظن أن معظمها تحقق في الواقع الذي نعيشه ونعاني منه، ولعلك تذكر أنني حذرت أيضا من تآكل شعبية السيسي نفسه، مرددا المقولة الرائجة على لسان الجميع منذ 11 فبراير قبل 5 سنوات” “الشيلة تقيلة.. وماحدش يقدر عليها لوحده”، وأوكد لك يا أبي أن الخلاف السياسي لم يكن في ذهني وأنا أناقش مهزلة “تغيير الماسورة”، كنت أناقش “العقلية الإدارية” التي تقف وراء ذلك كله، وأهم ما توقفت عنه، ليس انقطاع المياه “كضرورة” يتطلبها واقع الإنشاء والتطوير، لكنني توقفت أمام مجموعة من السمات والأخطاء القبيحة التي يجب علاجها والتخلص منها، إذا كنا نستهدف بجدية أي تنمية وتقدم، وأبرز هذه السمات:
1- الكذب
2- الخداع
3- فشل التقديرات
4- غياب الشفافية
5- التهرب من المسؤولية والمحاسبة

(5)
كان أبي قد صدق بيانا رسميا، أكد انقطاع المياه في العاشرة صباحاً، ثم استيقظ في الصباح على اكتشاف الكذب والخداع لما وجد المياه مقطوعة في السادسة صباحا، ولما أوضحت له هذه النقطة بالتحديد، صمت لفترة طويلة، حتى تصورت أنه ترك سماعة التليفون، ولما كررت ندائي بقلق، قال: سامعك، أنا بس كنت بفكر في الحكاية دي، واضح ان الشيخوخة بتخلينا محتاجين نصدق أي وعود طيبة، حتى لو كانت أكاذيب.. أنا مش طمعان أعيش لحد ما كل الوعود الجميلة تتحقق، ويمكن ده اللي بيخليني أحب الكلمة الحلوة حتى لو كذب، لكن دلوقتي حسيت إن الطريقة دي ممكن تريحني وتتعب أولادي وأحفادي، لأن تصديقي للخداع والكذب، مش مجرد مخدر بيريحني وخلاص، ده هيورثكم مشاكل تبهدل حياتكم، ودي أخطر حاجة ممكن تزعجني، وتخرجني من راحة البال، لحالة القلق والغضب.

(6)
استفاض الرجل الطيب في الحديث عن الوعود التي صدقها.. الرجل الذي لن يفكر في السلطة، ولن يسمح أن يقال أن المؤسسة العريقة تحركت لغرض الحكم، البلد اللي هتبقى “أد الدنيا”، قناة السويس الجديدة التي ستجلب الرخاء، تحرير سعر الصرف الذي سيجعل تجار الدولار يهرولون نحو البنوك لتغييره بالجنيه المصري الصاعد بقوة، تصريحات خفض الأسعار خلال شهرين مر عليهما شهور طويلة ولم يحدث إلا مزيد من السوء، التصريحات التي هللت لنتائج القروض الدولية في تنشيط الاقتصاد.. توقف أبي لحظة عن الاسترسال، ثم سألني بهدوء سؤالا يبدو أنه تحرج أن يطرحه عليّ من قبل تجنبا للدخول في خلافات سياسية لم يعد يحتمل الخوض فيها: انت اطلعت على النص الأصلي لتصريحات كريس جارفيس رئيس بعثة صندوق النقد الدولي عندنا؟..

(7)
لما عرف أبي أن التصريحات صحيحة، وأنها ليست تهويلا من قنوات ومواقع الإخوان والمعارضة، وأن المسؤول الدولي اعترف بخطأ في التقديرات، يوحي بأن الحكومة قدمت بيانات من نوع بيان شركة المياه الخادع، قال منهياً المكالمة: اقفل يا ابني.. اقفل.. هقوم أصلي وأسيبك لشغلك.

(8)
بعد أن أغلقت الخط، شعرت بالقلق أن يكون في كلامي ما أغضب الوالد، فاتصلت به للاطمئنان: أنا زعلتك في حاجة يا حاج؟
قال بصوت منطفيء لم أعهده منه: مش انت.. أنا زعلان إني بعد العمر ده كله.. ولسه بتخدع… الله يجازيهم بقى.

جمال الجمل
tamahi@hotmail.com


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads