الرئيسية » , , , , , , » شاعر عاش على حافة الجنون فرأى ما لا نراه بالعين المجردة | هاشم صالح

شاعر عاش على حافة الجنون فرأى ما لا نراه بالعين المجردة | هاشم صالح

Written By تروس on السبت، 19 مارس 2016 | مارس 19, 2016


شاعر عاش على حافة الجنون فرأى ما لا نراه بالعين المجردة

صدور الأعمال الكاملة للشاعر الألماني هولدرلين تحت إشراف شاعر فرنسي


هاشم صالح 
الشاعر الالماني فريدريك هولدرلين عاش ثلاثة وسبعين عاما (1770 ـ 1843)، نصفها في الصحو، ونصفها الآخر في ليل الجنون. لكن جنونه لم يكن من النوع الكامل او المطبق كليا. ولم يكن عدوانيا على الآخرين، وانما كان يعني الهزيمة امام العالم والانسحاب منه، ان لم نقل القرف منه. وعلى عكس نيتشه الذي لم يكتب حرفا واحدا طيلة سنوات الجنون العشر الاخيرة من حياته، فإن هولدرلين دبَّج مئات الصفحات بعضها «خربشة» غير مفهومة، وبعضها الآخر ولَّد قصائد عبقرية لا تضاهى. وهي التي كتبت بين عامي 1807 ـ 1843، بل وكتب بعضها قبل بضعة اسابيع او ربما بضعة ايام من موته، وكان قد مر على جنونه حوالي الاربعين سنة. هذه القصائد هي التي جمعها الشاعر الفرنسي بيير جان جوف ثم ترجمها الى الفرنسية بالتعاون مع الفيلسوف بيير كلوزوفسكي، صديق ميشيل فوكو ومترجم نيتشه ايضا، ثم اعيد طبعها عن دار «غاليمار» اكثر من مرة تحت عنوان: «قصائد الجنون الهولدرليني».
كان هيدغر قد القى محاضرة عصماء بعنوان: «هولدرلين وجوهر الشعر»، وطرح منذ البداية هذا التساؤل: لماذا نبحث عن جوهر الشعر عند هولدرلين وليس عند اي شاعر آخر في المانيا او غير المانيا؟ لماذا لا نبحث عنه لدى غوته او شكسبير، او فيرجيل، او حتى هوميروس؟ ما الشيء الذي يميز هولدرلين عن كل شعراء الارض ويجعل منه التجسيد الاعلى لجوهر الشعر؟

انه الصدق المطلق مع الذات، فهو الصدق الذي وصل به الى حافة الجنون. لم يشأ هولدرلين ان يتورط مع الواقع او ان يساوم على حقيقته الداخلية. وفضل ان يفشل في الحياة على ان ينجح بشكل رخيص. بل ان جنون هولدرلين خلع على شعره هالة من السحر والجاذبية، والاسرار العميقة واللانهائية. فلأنه اصبح مجنونا، لأنه عاش على حافة الجنون حتى قبل ان يجن فعلا، فإنه استطاع ان يرى ما لا يرى بالعين المجردة: استطاع ان يلمح من ثقب الباب ذلك العالم الآخر الذي يستعصي علينا ونحن في حالة العقل والمنطق، استطاع ان يعانق عالم الحلم اللازوردي، عالم الصفاء والنقاء، عالم الشفافية والاثير الذي طالما تغنى به.

على الحزّ الفاصل بين العقل والجنون، في تلك المتاهات القصية التي لا يغامر فيها الا الكبار، استطاع هولدرلين ان يقطف قبسا من نور السماء. لقد غامر هولدرلين اكثر مما يجب ودخل في مناطق خطرة ممنوعة على البشر فأصاب «ابولون» بالضربة القاضية كما يقول هو حرفيا وارداه صريع الجنون. لقد دفع ثمن التطاول على شيء لا ينبغي على مخلوق ان يتطاول عليه: سرّ الكينونة ومعنى الوجود.

ولهذا السبب اعجب به هيدغر ورأى فيه «شاعر الشعر»، اي الشاعر المحض، الشاعر الذي لا تشوب شعره شائبة. لقد سكن هولدرلين العالم شعريا قبل جنونه وبعد جنونه. وجنونه ليس الا اندفاعا من الشعر اصلا، ليس الا خاتمة طبيعية لتلك المغامرة التي اوصلت هولدرلين الى تلك المتاهات القصية. والواقع ان هيدغر يعتبر نفسه «مفكر الفكر»، على غرار هولدرلين فيما يخص الشعر، وبالتالي فهو اذ يتحدث عنه ويرفعه الى اعلى مقام يتحدث عن نفسه ايضا ويصفي حساباته مع عصره ومعاصريه. ومن خلال شعره المضيء كان يريد ان يستبصر مستقبل المانيا ومصيرها.

يعتمد هيدغر في تفسيره لشعر هولدرلين على عبارة قالها هذا الاخير: «بشكل عام فإن الشعراء يظهرون اما في بداية عصر العالم او نهايته. فعن طريق الاغاني تنزل الشعوب في سماء طفولتها لكي تدخل في الحياة العملية في بلاد الثقافة. وعن طريق الاغاني تعود الشعوب الى الحياة البدائية او الاصلية».

كيف نفهم هذه العبارة التي لا تقل اهمية عن الشعر؟ يمكن القول بأن العالم يبتديء شعرا وينتهي شعرا، وبين البداية والنهاية لا توجد الا الحياة النثرية الجافة، والحياة الثقافية والتكنولوجية والحضارية. هل من قبيل الصدفة ان يكون الشعر قد انقرض او كاد من ساحة الحضارة الاوروبية الصناعية؟ أليست التكنولوجيا الباردة هي العدو اللدود للشعر؟

ولكن يمكن القول ايضا بأنه عندما تدمَّر هذه الحضارة بفعل شيء ما فإنه ستعود الى حضن الشعر كما ابتدأت منذ اقدم العصور. وبالتالي فالشعر يقف في بداية الحضارات ونهاياتها: في بداياتها لكي ينفخ فيها الروح، وفي نهاياتها لكي يرثيها، لكي يبكي عليها.

لماذا يلجأ هيدغر الى هولدرلين لحل مشكلته؟ لأن كلام الشاعر هو وحده القادر على ان يفتح ما استغلق علينا، على ان يخرجنا من رتابة الحياة اليومية التي نعيشها، فاللغة المنطقية والعقلانية او الفلسفية لها حدود لا تستطيع ان تتعداها. وحيث تقف هذه الحدود تبتديء لغة الشعر. الشعر «رادار» يكشف ما استغلق من مجاهيل وعتمات. وقد احترق هولدرلين لكي يضيء لالمانيا مجاهيلها.

الشاعر شخص مغامر، متهور انه مجنون بالمعنى الحرفي للكلمة. لماذا؟ لأنه يجبر اللغة على ان تقول ما لا تستطيع قوله في الحالة العادية الا انه ينتهك الحدود المعنوية المعتادة.

الكلام الشعري والكلام النبوئي الاستشرافي سيّان. طيلة حياته كلها ما اعتقد هولدرلين ان الشعر يمكن ان يكون مفصولا عن المقدس.

هناك شخص آخر ينبغي ان نستمع اليه وربما كان الوحيد الذي يستطيع ان ينافس هولدرلين على قمة الشعر الالماني: انه ريلكه بالطبع.

ريلكه يعرف من هو هولدرلين لأنه غامر ايضا في تلك «المناطق البيضاء» تلك «المناطق العمياء»، التي لا يعرفها الناس العاديون، ولأنه حاذى الجنون اكثر من مرة، بل واوشك على السقوط في هاويته. يقول في قصيدة مهداة الى هولدرلين حيث يدعوه بسيّدي، او معلمي:

«آه! ما يحلم به الكبار الكبار، انت، بدون اي ترجٍ، تحققه، ترسخه حجرة بعد حجرة وتشيده بنيانا وطيدا، وحتى الانقاض لم تستطع ان تقضي عليك».

بمعنى ان الجنون لم يستطع ان يهدم بنيانك الشامخ، ان يقضي على عظمتك. وكل الشعراء الآخرين ليسوا امامك الا تلامذة صغاراً.

* قصائد من شعر

* صعوبة الاستمرار في الحياة..

حلاوة هذا العالم ذقتها كلها الشباب لم يعد: نهراً على الافق نيسان وايار اصبحا بعيدين، الصيف نفسه اصبح بعيدا، وأنا لم اعد شيئا، لم تعد عندي رغبة في الحياة

* خطوط العمر

* خطوط الحياة متشعبة كدروب الحياة وحدودها ما نحن عليه هنا، وحده الله يستطيع ان يكمل بالتناغم والجزاء الأبدي والخلود

* ربيع النهار الجديد ينزل من الاعالي البعيدة والصباح، من عتمات الغسق، يستيقظ انه يضحك للبشرية، بشكل فرح ومبهج

*** الحياة الجديدة مخبوءة في المستقبل نكاد نتوهم ان الوادي الكبير وكل الارض امتلأت بالازهار، علامة على الايام السعيدة، بالمقابل لا مجال للشكوى في فصل الربيع ربيع آه لسطوع الشمس وازهارها الارياف! الايام تجيء غنية بالازهار، الايام وديعة المساء ايضا له ازهاره، ونهارات صاحية تنزل من السماء، من هناك حيث تولد الايام

*** ها هي السنة مع فصولها كالمجد او كالاعياد تنتشر، الانسان يستعيد اعماله وينشغل بأشياء أخرى، وكما الاشارات الالهية في هذا العالم

* وفرة المعجزات

* كان «ستيفان زفايغ» الذي خصص صفحات مهمة لهولدرلين يعتقد بأن الشاعر عاد الى الطفولة في هذه القصائد. وربما كان ذلك صحيحا. نقول ذلك وبخاصة ان الكثير منها مخصص للفصول: ربيع، خريف، صيف، شتاء.. فمن غرفته الصغيرة المطلة على نهر «نيكار» كان هولدرلين يستطيع ان يرى واحدا من اجمل المناظر الطبيعية في المانيا. ولكن الطبيعة كانت حاضرة جدا في اشعاره حتى قبل الجنون. وبالتالي فلم يتغير شيء من هذه الناحية في نظري. فقط مهجة الانكسار والذل اصبحت اكثر وضوحا.. وكذلك البساطة والسذاجة الرائعة. ربما كان الشيء الوحيد الذي تغير هو الطابع الاستسلامي للقصائد. فهولدرلين وصل الى مصّبه عندما جُنّ، لقد وصل الى غايته النهائية كما قال هيدغر. لقد استراح بعد عراك طويل مع التناقض الداخلي، مع الوسواس الجهنمي.

بعد الآن لم يعد لديه اي شيء لكي يفعله او يصارعه. وفي هذه القصائد ذات الرضا العميق والحزن الهادئ نلمح شخصية هولدرلين الطيبة والمنهزمة امام الحياة. هذا الشيء واضح جدا في القصيدة الاولى التي ليست بحاجة الى شرح.

ولكننا نلمح شيئا آخر ايضا: الاستكانة للمقدور والرغبة في الاتحاد بعناصر الطبيعة. من هذه الناحية يبدو هولدرلين وفيا لاستاذه الاكبر، جان جاك روسو.

فالطبيعة هي أمنا الحنون، منها خرجنا واليها نعود، وفي الطبيعة تتجلى الاشارات الالهية وبديع صنع الله في الخلق. وعندما كان هولدرلين يتجول في حقول الكرمة ووديان المانيا وهضابها كان يتحد كليا بمظاهر الطبيعة. ولم يكن يعتبر نفسه شيئا، والزهرة، والحجرة، والعصفور شيئا آخر، انه جزء من هذا الكل الذي يغمر الكون.




التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads