الرئيسية » , , , , , , , , » روي بيتر كلارك: كتابة التفاصيل ومخاطبة الحواس | ترجمة: د. صديق الحكيم | مراجعة: بثينة العيسى

روي بيتر كلارك: كتابة التفاصيل ومخاطبة الحواس | ترجمة: د. صديق الحكيم | مراجعة: بثينة العيسى

Written By تروس on الخميس، 18 فبراير 2016 | فبراير 18, 2016

روي بيتر كلارك: كتابة التفاصيل ومخاطبة الحواس
ترجمة: د. صديق الحكيم
مراجعة: بثينة العيسى

ابحث عن تفاصيل ملموسة ومحدّدة، تخاطب الحواس

 

إن الروائي جوزيف كونراد قد وصف عمله بهذه الطريقة: “أن أجعلك تسمع، أن أجعلك تشعر، وقبل كلّ شيء، أن أجعلك ترى، بقوّة الكلمة المكتوبة”.

وعندما كان جين روبرتس – وهو من أعظم محرري الصحف الأمريكية وقد فاز بجائزة بوليتزر 17 مرة – يشب كمحرر مبتدئ في ولاية كارولينا الشمالية، اعتاد أن يقرأ قصصه بصوتٍ مرتفع على محرر أعمى، ولكن المحرر عنف الشاب روبرتس لأن قصصه لم تجعله – كأعمى – يرى.

عندما تُخاطب التفاصيل الحواس (تفاصيل الشخصية، والمكان) تخلق خبرة لدى القارئ تجعله يفهم. فنحن عندما نقول “أنا أرى” فنحن غالبًا ما نعني أننا نفهم. الكتّاب قليلو الخبرة قد يختارون التّفصيل الأوضح، مثل: الرجل ينفث دخان السجائر والمرأة تقضم ما تبقى من أظافرها. هذه التفاصيل تفشل في أن تخبرك بشيءٍ، ما لم يكن الرجل قد مات بسرطان الرئة، والمرأة تعاني من فقدان الشهية العُصابي.

في صحيفة سان بطرسبرج تايمز كان المحررون وكبار الكتاب يحذرون المراسلين من الرجوع لمكاتبهم دون الحصول على اسم للكلب. هذه المهمة التقريرية لا تعني أن يستخدم الكاتب هذا التفصيل في القصة، لكنها تذكّره بأن يبقي عينه وأذنه مفتوحة على الدوام.

عندما كتبت كيللي بنهام قصة الديك الشرس الذي هاجم طفلاً، لم تكتب فقط اسم الديك (روكادودل الثاني)، بل كتبت اسمي أبويه: روكادودل، وهيني بيني ذات الساق الواحدة. (لا أستطيع شرح لماذا كان من المهم أن تكتب اسم أمه ذات الساق الواحدة، لكنها فعلت!)

قبل إعدام القاتل المتسلسل، ذهب المراسل كريستوفر سكانلان إلى ولاية أوتاوا لزيارة عائلة إحدى ضحايا القتل. قبل ذلك بأحد عشر عاماً، خرجت امرأة شابة من بيتها ولم تعد. لقد وجد سكانلان التفصيلة التي تحكي قصة الحزن الدائم للأسرة، فقد لاحظ وجود شريط لاصق على مفتاح الضوء بجانب الباب الأمامي.

استطراد: أوتاوا 

كانت السيدة بلفا كينت دائمًا ما تترك ضوء الشرفة الأمامية مشتعلًا عندما يخرج أطفالها ليلًا. وكان آخر من يأتي يتولى إطفاء النور، حتى ذلك اليوم من عام 1974، عندما أخبرت السيدة كينت عائلتها “سوف أترك الضوء مفتوحًا حتى تعود ديب إلى البيت وتتولى إطفاءه”. 

ضوء الشرفة الأمامية للسيدة كينت لا زال يشتعل، ليلاً ونهارًا.
عبر الباب الأمامي، وضع شريط لاصق على مفتاح الضوء. 
ديب لم تعد إلى البيت قط.

هذا هو بيت القصيد: لقد رأى سكانلان الشريط اللاصق الذي يغطي زر الإضاءة وسأل عن ذلك. إن فضوله وحده وليس خياله، هو ما جعله يقتنص هذه التفصيلة الرائعة.

إن السّعي وراء تفاصيل كهذه يحدث منذ قرون، كما تكشف التقارير عبر التاريخ. ولقد ذكر العالم البريطاني جون كيري أمثلة على ذلك في مجموعته “شاهد عيان على التاريخ”:

هذا الكتاب.. مليء بالصور الغريبة، أو الوقحة، أو العابرة، التي تطبع نفسها بقوّة في عين العقل: السفير يطلّ أسفل مقدمة فستان الملكة إليزابيث الأولى ويشير إلى التجاعيد، الفائز في خريف كوالالمبور يقلب صندوقًا مليئًا بكرات التنس الثلجية من ماركة سلازنجر. بليني تشاهد الناس يغطون رؤوسهم بالوسائد لحماية أنفسهم من رماد البركان. ماري، ملكة اسكوتلندا، شاخت فجأة في موتها، وكلبها الأليف يرتعد بين تنانيرها، ورأسها معلق بقطعة غضروفية عنيدة. الأيرلنديون الجياع بأفواههم الخضراء من فرطِ أكل العشب.

لم أجد أية سجلات باقية تشير إلى اسم كلب ماري، الملكة الأسكتلندية، لكني تعلمت أنه كان كلبًا للصيد من سلالة اسكتلندية مشهورة بالولاء والشجاعة. وفيما بعد، أرسلت لي القارئة العزيزة أنيتا تايلور رسالة من نيوزيلاندا تخبرني فيها أن اسم الكلب هو “جيدون”. كانت هذه تفصيلة تذكرتها القارئة حينما كانت تساعد ابنتها لإنجاز ورقة عمل دراسية.

الكاتب الجيّد يستخدم التفاصيل، ليس فقط للإخبار، وإنما للإقناع. في عام 1963 كتب جين باترسون عاموده الصباحيّ عن قتلة الفتيات الأربعة في تفجير كنيسة في بيرمنغهام، ألاباما.

ناحت امرأة زنجية صباح الأحد، في الشارع أمام الكنيسة الباباوية في بيرمنغهام. كانت تمسك بيدها حذاءً؛ حذاءً واحدًا فقط، من قدمِ طفلتها الميتة. نحنُ نمسكُ بذلك الحذاء معها.

لن يسمح باترسون للجنوبيين البيض بأن يتنصلوا من مسئولية قتل هؤلاء الأطفال. لقد ثبّت أعينهم وآذانهم، أجبرهم على سماع نواح الأم الثكلى، وعلى مشاهدة الحذاء الصغير الوحيد.

الكاتب يجعلنا نتعاطف ونحزن ونفهم. إنه يجعلنا نرى.

إن التفاصيل التي تترك علامة، هي تلك التفاصيل التي تحفز الحواس. ولك أن ترى: كيف بدأ كورماك مكارثي روايته “كل الخيول الجميلة”:

كان لهب الشمعة، وصورة لهب الشمعة، يظهران على صفحة مرآة الحائط المائلة يمينًا عندما دخل الصالة، ومرة ثانية أغلق الباب. خلع قبّعته وتقدّم ببطءٍ إلى الأمام. كانت ألواح الأرضية تصرُّ تحت حذائيه. وقف بمعطفه الأسود أمام الزجاج المظلم حيث الزنابق الشاحبة تنحني على حوافّ المزهرية. وعلى طول الممر البارد خلفه، عُلّقت صور لأسلافه الذين بالكادِ يعرفهم، وقد وضعت في براويز وغطيت بالزجاج، وعلقت إضاءة خافتة فوق إطارها الخشبي الهزيل. نظر إلى كعب الشمعة الذائب. ضغط بإبهامه على الشمع الدافئ المتكتّل في القاعدة الخشبية. وأخيرًا نظر إلى الوجه المتعب المستلّ من طيّات من ثياب الجنازة؛ الشارب المصفرّ، الجفون الرقيقة كالورق؛ لم يكن هذا نومًا، لم يكن هذا نومًا.

نثرٌ من هذا النوع يتطلب نفس الاهتمام الذي نوليه للشعر. ابتداءً بتلك الأسماء اللامعة (لهب الشمعة، صفحة المرآة، إناء بلوري، كعب الشمعة، بصمة الإبهام”. الأهم من ذلك مخاطبة مكارثي للحواس، فهو لم يعطِنا لونًا فقط (أسود وأصفر)، بل أعطانا هدايا لحواسنا الأخرى؛ رائحة الشمع المحترق، صوت صرير ألواح الأرضية، والإحساس بالشمع وملمس الخشب.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads