ظلّ الكاتب | تيم باركس | ترجمة أماني لازار

Written By هشام الصباحي on الأربعاء، 13 يناير 2016 | يناير 13, 2016

ولد تيم باركس في مانشستر في العام 1954، نشأ في لندن ودرس في كل من جامعتي كامبريدج وهارفارد. ألّف باركس العديد من الأعمال الأدبية وغير الأدبية، منها «أوربا» المدرجة في القائمة القصيرة لجائزة البوكر في العام 1997. فازت روايته الأولى «ألسنة اللهب» بجائزة بيتي تراسك في العام 1986. عمل مدرسا ومترجماً، درس الترجمة الأدبية والتقنية في الجامعة المستقلة للغات المعاصرة بالقرب من مدينة ميلانو. من بين ترجماته أعمال لألبرتو مورافيا، أنطونيو تابوكي، إيتالو كالفينو، وروبيرتو كالاسو.
أجد أن وعيي بالكاتب ينمو متميزاً تميزاً تاماً عن رد فعلي إزاء عمله من خلال قراءة كتابه/ها، وأتساءل كيف تسنى لي ذلك بالرغم من جهلي التام بحياة الروائي؟ قد استمتع بكتاب فيما أشعر بنفور لا ريب فيه، بل بعداوة تجاه من أحسبه مؤلفه، أو قد أكون ميالاً لكلٍ من العمل ومؤلفه على حد سواء لكن بسبل متباينة. روايات فيليب روث مستفزة إلى حد التحريض، المواجهة مثيرة. في نفس الوقت، أجد الكاتب الذي يضطر لهذا الفعل مصمماً على الإفلات بفعلته، محبباً لنفسي ويبدو لي عجزه جذاباً.
لا يغير من حدسي تجاه الكاتب احتمالية خطئه. يبدو مستحيلاً ـ أقله بالنسبة لي ـ تقريباً قراءة أي شيء من دون أن أبصر الشخص الذي يقف خلفه، ومن دون أن أربط ذلك الشخص بما كتبه/ها، وبقرّاء الكتاب في واقع الحال، إلى حد أن أتساءل أحياناً ـ خلافاً لما قيل دوماً لنا عبر التراث النقدي الأدبي عن عدم وجود علاقة بين شخص الكاتب مع أي تقييم للعمل ـ إذا لم يكن هذا التبصر بأحجية الشخص الذي ابتكره واحداً من المباهج الأدبية على وجه التحديد. نعرف النذر اليسير عن حياة شكسبير على أننا نكوِّن بقراءتنا لسونيتاته أو مشاهدة مسرحياته، فكرة عنه، ونعي ديمومة «الشخص» خلف الكتابة. نتصور أنه لو لقي أحدهم قصة حياته الكاملة قد نتعرف من فورنا على الشخص الذي في أذهاننا.
طلب خدمات
يتعذر تحديد نقطة بدء هذا الوعي بالكاتب وكيفية تشكله. مثلما يحدث كثيراً عندما نقرأ، إن له وجوداً مبهماً مراوغاً. بأية حال، وجدت منذ سنة أو اثنتين أنه يتجلى من خلال ممارسة هذه اللعبة: أحاول تحديد محادثة ما، لقاء، أو إجراء في رواية تبدو مميِزة لشخصية مؤلفها، أمر متكرر الحدوث، أحاول ـ بعد أن أؤسس ذلك ـ التفكير بعلاقة القارئ مع الكاتب على نحو مماثل.
أولاً، اللقاء المتكرر الحدوث أو المتبادل. قد تكون مسألة القروض في رواية عوليس مثالاً مناسباً. يدور جانب هائل من الكتاب حول شخصيات تتبادل طلبات القروض، أو الجمائل، الخدمات، وأعمالاً روتينية، وكل طلب هو لعبة صغيرة مؤثرة. يقدم الناس المطالب ـ ستيفن من بوك موليجان، بوك من ستيفان، الإنكليزي هيني منهما وبالعكس، ويعرف الآخرون أنفسهم على النحو الذي يستجيبون به.
كثيراً ما تتكرر عند ديكنز شخصيات شديدة البأس تصادق شخصيات أضعف منها، أو تتعامل بود معها، بتقديم المساعدة، ودعوتهم ليكونوا جزءً من جماعة قد تكون مرحبة أو خيرة أو لا تكون. على نفس المنوال، قد يكون الشخص المصادَق جديراً أو مخلصاً أو لا يكون. قد يقبل ـ مثل يوريا هيب ـ حماية الآخر رغبة بخداعه وسرقته.
لدى قراءتي أعمال أنطونيو تابوكي مؤخراً لحظت أن قدراً كبيراً منها ينطوي على جدال تخاطبي بين أغراب، تسعى شخصية في هذا الجدال للحصول على معلومات والأخرى تتلاعب. وكلتاهما تمنحان أو ترفضان تقديم ما هو مطلوب. غالباً ما تتبادلان الخداع وتتطلعان دوماً إلى التناقض الظاهري بدلاً من الوضوح.
«ماذا كنت تفعلين في كلكتا؟»
«أصور البؤساء،» أجابت كريستين..
«ولماذا تفعلين ذلك؟»
«إنه عملي... هل سبق أن سافرت إلى كلكتا؟»
أهز رأسي.» لا تفعلي،» قالت كريستين،» لا ترتكبي أبداً هذا الخطأ... إذن ماذا تفعلين؟..»
«حسناً، لنقل إني أؤلف كتاباً على سبيل المثال.»
«أي نوع من الكتب؟»
«كتاب.»
«رواية؟» سألت كريستين بنظرة ماكرة.
«شيء من هذا القبيل.»
«إذن أنت روائية،» قالت بنبرة واثقة.
«أوه لا،» قلت،» إنها مجرد تجربة، عملي شيء آخر، أنا أبحث عن فأر ميت.»
«ماذا؟»
«كنت أمزح،» قلت». أبحث في الأرشيفات القديمة.. وأسميها فأراً ميتاً».
ولمعظم الروائيين تقنيات مفضلة ينشئون من خلالها علاقات تربط الشخصيات بعضها إلى بعض. يوجد في أعمال مورييل سبارك دجال دوماً، أو إقناع مشتبه به. في كتابات كويتزي يدان شخص في محاولته أن يحيا الحياة بطولها وعرضها، لكنه يرفض معايير الآخرين في الحكم عليه. لم تخلُ روايات نتاليا جينزبورج الرائعة يوماً من شخصية تبتز الآخرين بعجزها، تكاد تجبرهم على تقديم المساندة، وبالمقابل شخصية ترفض أي مساعدة حتى عندما تكون في أشد الحاجة لها. في روايات سيمنون، سواء قصص ميجريت أو كتابه الأكثر جدية «روايات صعبة»، هناك دوماً نزاع طويل بين شخصيتين مركزيتين، ينتهي بانتصار واحدة منهما دوماً (كانتصار ميجريت الدائم)، محتملة كل أنواع الإهانة والاستفزاز والمراوغة في سبيل أن تنتصر أو تموت في ضربٍ من هزيمة جليلة في الكتب الأكثر تجهماً.
بالنسبة للجزء الثاني من اللعبة. هل يمكنني أن أفكر بأن رد فعلي تجاه الكتاب، والعواطف التي تلعب دوراً بواسطة قصته وأسلوبه، يتشابه على نحو ما مع ذلك الإجراء المتكرر؟ هل يبدأ الكاتب بتكوين علاقة معي من النوع الذي يتكرر حدوثه في رواياته؟
جويس كاتب سهل من هذه الناحية، برغم النظر إليه عادة بخلاف ذلك. ولو أن الجميع يقدمون المطالب إلا إن جويس يغالي في طلب منحه أقساطاً مبالغ بها من الوقت لحل شيفرات إشكاليات عمله. وقد قال قولته الشهيرة عن أن كل تلك الأحاجي والمعضلات سوف «تشغل أساتذة الجامعات على مدى قرون،» كما لو أن هدف الكتابة يتجلى باختزال القارئ إلى مساعد منشغل. عند جويس، فعل الإغواء الأدبي فرض جسيم على القارئ أيضاً ويظهر على الفور، وذلك بفضل نباهة الأسلوب الثابتة وسعة اطلاعه، وهو هام وبارع في هذه العلاقة. يخر البعض ساجدين ويقاوم البعض الآخر. اشتكى يونغ من أن جويس جعله يشعر بالحماقة. اعتبر هـ . ج ويلز طلبه جزءً كبيراً من وقتنا فضيحة. إذن يمكن للفجوة أن تتسع بين اعترافنا بعبقرية العمل وغضبنا إزاء أسلوب فرض هذه العبقرية علينا. بعد قراءة عدة صفحات من «يقظة فينيغان» سيكف معظم القراء عن متابعة القراءة.
يصادقنا ديكنز من ناحية أخرى وهذا يتضح على الفور لأنه يمد يده الأبوية ويكتب مقدمات مغوية، متحدثاً عن الشخصيات والقرّاء كمن يتحدث عن أفراد عائلته. نثره المغري رائع لكن لكنه ليس شديد الصعوبة أبداً، بارع لكنه ليس بعميق أبداً وحميم دوماً. نشعر بجاذبية للرجل الذي يعزز تقييمنا للكتابة أو ربما يتجاوزه. ونرغب بأن نكون جزءً من عالمه وناديه. أحب ديكنز النوادي ولا غرو أن أحداث روايته الأولى تدور حول نادي بيكويك. حتى يومنا هذا لا تزال نوادي ديكنز متوزعة في بلاد العالم جمعاء. يحب القراء التجمع حول الرجل. ونلحظ أن السعادة عند ديكنز هي سعادة مع جمع من الناس، مجتمع صغير، بشكل دائم تقريباً، وليس مع ثنائيات عاشقة.
برغم ذلك تشجعنا حبكات ديكنز على التيقظ إزاء الصداقات التي تبدو جذابة وسهلة. أخطأ ديفيد كوبرفيلد عندما سمح لستير فورث الأكبر والأكثر جاذبية أن يتولى قياده. كل من يصادق أمثال ميكابر سيخيب أمله. ولعل هذا القلق - الذي قد يحسبه المرء في غير محله عندما يصادق الآخرين - يشرح هذه الهفوات المفاجئة الغريبة في أعمال ديكنز، فبدلاً من أن يعزز انتباه قراءه يبدو فجأة مصمماً على تخليصنا بأسرع ما يمكن وإنهاء قصته والابتعاد. إن نهاية رواية «دومبي وابنه» هي نهاية رمزية. لكن أيضاً «ديفيد كوبرفيلد» تنتهي على نحو متسرع وغير مقنع، كما لو أن ديكنز شعر بخطأ مصادقته لنا ربما كما نشعر بالإحباط من العلاقة التي أسرعنا إليها لكونها لم تكن مجزية كما أملنا، أو أن العلاقة عموماً لا يمكنها أن تحافظ طويلاً على تلك الاحتفالية الديكنزية قط؟
ربما هذا ليس ثابتاً، لكن ما أحاول أن ألمح إليه هو الإبداعية الأدبية، بعيداً عن كونها الأمر الموضوعي الذي تحدث عنه كل من إليوت وجويس، قد تتضمن على نحو واسع إيجاد الشكل، القصص، الأسلوب، الذي سيسمح للقراء بدخول الهالة التي يتحرك فيها الكاتب عادة لتجربة نوع العلاقات التي يميل إلى تكوينها. تكتب موريل سبارك عن فنانين مخادعين، دجالين، نصابين وفي الوقت نفسه أسلوبها باهر مثل سطح لماع، لعوب ومستبعد يجبر القراء على التساؤل عما إذا لم يكونوا هم بأنفسهم ضحايا لنوع من الشعوذة الأدبية. هل كل هذا قابل للتصديق؟ هل غرر بي؟
المساعدة
تستعمل نتاليا جينزبورج أسلوباً بسيطاً وساذجاً إلى حد أننا نشعر بضرورة تقديم المساعدة لها. تحتاج لمساعدتنا كحال الكثير من أبطالها الحمقى ممن هم في حاجة للمساعدة. في غضون ذلك، نسمع بشكل مفاجئ تماماً عن موت شخص مستقل لا نلاحظه إلا لماماً، يرفض المساعدة برغم وقوعه في مأزق، وحيداً من دون عون مستلباً في شارع فرعي قذر، أو أن مرضاً قضى عليه في شقة رثة. إحساسنا بالكاتب عندما نقرأ جينزبورج هو إحساسنا بشخص يعرض علاقة، من خلال رواياتها، وهذا قد يكون مريحاً لكلينا، لكنه ليس ملائماً أبداً لمساعدة الآخرين ممن يغامرون بعيداً عن هذه الألفة. نتصادق لنبكيهم.
يكتب ج.م كويتزي في ثلاثيته - أيام الصبا، الشباب، والصيف - عن جون كويتزي، وقبل كل شيء عن جنحه، طموحاته الشاهقة، ادعاءاته بالصلوح. الأسلوب هزيل والوقائع مروية بوضوح وببساطة أيضاً. سيتبدى أن القارئ مدعو لإطلاق حكم على الرجل مع معرفتنا بأن الكتب هي محض قصص، وأن الروايات ليست سيراً ذاتية، بأية حال يرفض جون كويتزي الآراء التي يطلقها الآخرين عليه. هي أحجية مغوية كعادة الأحاجي. لكن كويتزي لا يقدم لها أي حل. مع استمتاعنا بالكتاب نشعر إحساساً قوياً بتمزق الكاتب وبأنه محاصر بين رغبته بالكشف الذاتي من جهة وتفضيل الاحتشام أو التحفظ الدفاعي من جهة أخرى. أو ربما هذا الإحساس بالكاتب هو بحد ذاته جانب من استمتاعنا بالكتاب.
أتذكر لقائي بكويتزي بعد قراءتي لكتبه على مدى سنوات وذهولي إزاء مشاعر التقدير، والجو الذي جرت خلاله المحادثة، الوعي الغريب بكل من الصرامة والدفء من جانبه، الانكفاء والانفتاح، هي نفس المشاعر التي تخالج من قرأ الروايات. وفي حقيقة الأمر، أول ما خطر لي بعد ذلك اللقاء أن النبوغ الأدبي هو قدرتك على جذب القراء إلى عالم 


مشاعرك بكل فوارقه الدقيقة وتعقيداته وإرغامهم على اتخاذ موقف منك.

ترجمة أماني لازار
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads