الرئيسية » , , » سيرة يفغيني يفتوشينكو: العيش في عالم من الأوهام | عاطف محمد عبد المجيد

سيرة يفغيني يفتوشينكو: العيش في عالم من الأوهام | عاطف محمد عبد المجيد

Written By تروس on الثلاثاء، 26 يناير 2016 | يناير 26, 2016


سيرة يفغيني يفتوشينكو:

العيش في عالم من الأوهام

 
عاطف محمد عبد المجيد

ربما كانت كتابات السيرة الذاتية نوعًا من الكتابة السردية، يجذب القاريء إليه، وربما بحث عنه القاريء الذي يريد أن يفيد من تجارب الآخرين، سواء أكانوا أدباء أم فنانين، أم سياسيين أم غيرهم.إذ هناك من يكتب سيرته الذاتية بحثًا عن شهرة وذيوع صيت لما قد تتضمنه سيرته من أحداث ومشاهد مسكوت عنها ويقوم هو بتعريتها للجميع، وهناك من يكتبها ولا هدف له سوي أن يبوح بما في جعبته ليتخلص مما قد يجثم علي صدره جراء كتمانها، وهناك من يكتبها لينقل تجربته الشخصية، إنسانية كانت أم إبداعية، ليفيد منها الآخرون.
شاعر متفرد ومتمرد
في مقدمته للسيرة الذاتية للشاعر الروسي يفغيني يفتوشينكو، والتي صدرت عن دار رؤية للنشر والتوزيع تحت عنوان (العمق الرمادي..سيرة ذاتية مبكرة)، يقول المترجم إدريس الملياني إن يفغيني يفتوشينكو ليس غريبًا عن المشهد العربي، فهو معروف لدي القاريء العربي ، ولو سماعًا، كأحد أهم شعراء روسيا الكبار، وألمع شعراء العالم المعاصرين.لقد تُرجمت أشعاره إلي لغات كثيرة، واستمعتْ إليه جماهير غفيرة أثناء تجواله في خارطة العالم والشعر، وتناقلت آراءه وكالات الأنباء باعتباره شاعرًا كبيرًا، وذا جرأة علي الجهر بما كان مسكوتًا عنه في مجتمعه الاشتراكي، إلي حد أنه قُدم في الغرب بصورة مخالفة لوجهه الحقيقي، أنكرها هو نفسه حين قال: يريدون أن يجعلوا مني شخصية مستقلة منفصلة فيما يبدو كبقعة مضيئة عن العمق الرمادي للمجتمع السوفيتي.
الملياني يضيف كذلك أن يفغيني يفتوشينكو استطاع فعلاً  كشاعر متفرد ومتمرد أن يحافظ علي شخصية خاصة  وأن يعبر في الوقت ذاته عما هو مشترك بين جميع الناس  وأن ينقل في قصائده أنفاس الآخرين  ولكن دون أن ينفي أناهز في الحياة كما في الكتابة.الملياني يري أن يفغيني يفتوشينكو قد أحيا في ذاكرة الناس صورة سلفه ماياكوفسكي بقامته الشعرية المديدة والعملاقة ونظرته الثورية الحادة والشزراء، وقدرته الفنية المذهلة علي تحدي الذوق العام المتخم بالبالي من التقاليد التي تكبح جماح القصيدة العنيدة عن الانطلاق في سهوب الإبداع الخلّاق التي ليس لها تخوم.لم يكتفِ يفغيني يفتوشينكو بهذا، بل له جولات وصولات في السجال النقدي والصحافي والنزال الثقافي والنضال السياسي، كثيرًا ما كانت تثير زوبعة من الجدال الذي لا يهدأ له أوار.أيضًا دخل يفغيني يفتوشينكو إلي أضواء الشاشة الكبيرة كنجم سينمائي، وكان علي وشك أن يصير نجمًا رياضيًّا في كرة القدم كحارس مرمي.
غربة الشعراء
كان يفغيني يفتوشينكو يُعد، مثلما يذكر الملياني، في وقت من الأوقات الصوت الجديد والعنيد في عموم الاتحاد السوفيتي والعالم، ولو قيل عنه إنه ملأ الدنيا وشغل الناس، ما كان في هذا مجازفة أو تهويل.هذا ويأسف الملياني أن تصل شهرة يفغيني يفتوشينكو إلي الوطن العربي منذ سنوات طويلة ولا تُترجم أشعاره إلي العربية إلا في العام 1970.كذلك يعبّر الملياني عن حزنه العميق، إذ زار يفغيني يفتوشينكو هذا الشاعر الكبير المغرب، غير أن قليلين هم من حضروا أمسيته في ضيافة لا تليق بمقام شاعر كبير مثله، إنها غربة الشعراء تحت كل سماء، كما يقول الملياني. والسبب هو أن الشعر، وإن كان قرين الغناء، لا يحظي في الوطن العربي بالحفلات الباذخة التي تُنظم في أفخم الفنادق وأكبر الملاعب الرياضية علي شرف أهل الطرب السائحين الأقارب والأجانب والمطربات السائحات، لأن الشعر لا يدر، علي قائله وقارئه، غير الحزن والخيبة والغربة والمرارة.الملياني يصف سيرة يفغيني يفتوشينكو بأنها سيرتنا نحن، إذ تجيب عن كثير من قضايانا الثقافية ذ السياسية التي يحبل بها ماضي أيامنا الآتية ومستقبل أحلامنا الماضية.أما يفغيني يفتوشينكو فيقول في سيرته إن سيرة الشاعر الذاتية هي قصائده، أما ما عدا ذلك فليس سوي تعليق.ومن واجب الشاعر أن يقدم لقرائه مشاعره وأعماله وأفكاره علي راحة اليد، وعليه، كي يحظي بإمكانية التعبير عن حقيقة الآخرين، أن يدفع الثمن: بالكشف عن حقيقته دونما رحمة أو شفقة.كما يري يفغيني يفتوشينكو أن الشاعر لا يحق له أن يخادع، ومهما حاول أن يزاوج في شخصيته بين الإنسان الحقيقي والإنسان الذي يعبّر عنه فلابد أن ينتهي إلي العقم. يفغيني يفتوشينكو يتساءل: لماذا وافقتُ علي كتابة هذه التجربة عن سيرتي الذاتية؟..ويجيب:لأن القصائد تُترجم بشكل رديء ولأنه، في الغرب، بدلا من معرفة إنتاجي، تُعرف بعض المقالات التي تعطي عني صورة مخالفة كثيرًا للواقع.إلي جانب هذا يعتقد أنه ينبغي أن تكون للشاعر شخصية خاصة، محددة جدا، لكي يتمكن من التعبير في إنتاجه عما هو مشترك بين كثير من الناس، وطموحه كشاعر لا يتعدي هذا.
الغراب الأبيض
يفغيني يفتوشينكو يذكر في سيرته أنه ولد في الثامن عشر من يوليو من العام 1933 بمحطة سيبيرية صغيرة ونائية تسمي زيما قرب بحيرة بايكال، فيما تنحدر عائلته من أصل أوكراني وكانت الثورة هي دينها وديدنها.كان يفغيني يفتوشينكو يذهب مع أبيه وأمه إلي التظاهرات العُمّالية في الساحة الحمراء، وكان يطلب من أبيه أن يرفعه عاليًا ليتمكن من رؤية ستالين، كان يُلوّح برايته الحمراء الصغيرة فوق الجمهور الغفير وهو يتخيل أن ستالين يرد عليه وينظر إليه شخصيًّا.يذكر أيضًا في سيرته أنه في رحلة البيريجيبز عاش أبناء المثقفين مثل أبيه حياة قاسية، كانوا بمثابة الغراب الأبيض وسط رفاقهم البروليتاريين مُراقَبين ومحروسين. فيما يصف أباه بأنه كان يمتاز بذاكرة قوية، يحفظ عن ظهر قلب العديد من القصائد ويجيد قراءتها وإلقاءها، وكان يحب كثيرًا ليرمونتوف وجوته وإدجار آلان بو وكيبلنج. لقد تعلّم يفغيني يفتوشينكو بفضل أبيه القراءة والقراءة في سن السادسة، وكان يقرأ وهو في الثامنة كُتب دوماس، فلوبير، شيللر، بلزاك، دانتي، موباسان، تولستوي، بوكاش، شكسبير وغيرهم. لقد عاش، مثلما يقول، في عالم من الأوهام لا يري شيئًا أو أحدًا من حوله، بل ولم ينتبه حتي إلي أن أباه وأمه قد افترقا من قبل وأنهما يخفيان عنه ذلك. يذكر يفغيني يفتوشينكو أنه بدأ الكتابة في البداية نثرًا، وكان وقتها الحصول علي الورق صعبًا، حتي وصل به الحال إلي أن يختلس من جدته مجلدين من أعمال ماركس وإنجلز ليكتب في فراغهما رواية، وحين اكتشفت جدته ذلك قالت له مداعبة إياه: الآن..ستظل طوال حياتك ماركسيًّا مقتنعًا، ويبدو له أن جدته لم تخطيء.
عداء الألمان
يفغيني يفتوشينكو يعترف في سيرته التي بين أيدينا الآن رغم أنه كان يبكي من أجل الحيوانات، إلا أنه كان يفرح بسماعه أخبار عن قتل الجيش الأحمر للألمان، إذ لم يكن يتخيل أن الألمان كالبشر، بل كانوا شيئًا آخر: كانوا أعداء. كذلك يعترف أن الشارع كان مدرسته الوحيدة، علّمه أن يجدّف، يدخن، يبصق من بين أسنانه ببراعة، وأن يجعل قبضتا يديه في حالة استنفار دائم. وهذه العادة الأخيرة ظلت تلازمه مدي الحياة.لقد علمه الشارع أن الأساس في الحياة هو أن يقهر بداخله الخوف من الأقوياء.يحكي يفغيني يفتوشينكو موقفًا حدث له مع شخص يُدعي الأزعر ضربه ذات يوم واستعد هو جيدًا ليضربه، فيقول: ومنذ تجربتي مع الأزعر وأنا أعرف أنه لكي يكون المرء شاعرًا لا يكفي أن يكتب قصائد، بل ينبغي له أن يكون قادرًا علي الدفاع عنها. هذا ولا يتبقي إلا أن أقول إن هذه السيرة هي كتابة ممتعة بحق بما تحتويه علي تفاصيل حياتية عامة وخاصة، فهي لا تجعل القاريء يعيش تجربة شاعر كبير وحسب، بل تضعه في قلب تجربة مجتمع بأكمله، لم يكن الشاعر سوي مرآة له، وكانت قصائده صدًي لما يحدث علي أراضيه.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads