الرئيسية » , , , » يوسا: العملية الإبداعية هي أن تتغذى على نفسك. | ترجمة: صالح علماني

يوسا: العملية الإبداعية هي أن تتغذى على نفسك. | ترجمة: صالح علماني

Written By تروس on الأربعاء، 6 يناير 2016 | يناير 06, 2016


يوسا: العملية الإبداعية هي أن تتغذى على نفسك.
ترجمة: صالح علماني

الأدب هو أجمل ما تم اختراعه من أجل الوقاية من التعاسة.

قراءة : هاني عفيفي

تحرير: شيخة البهاويد




في كتاب يوسا : “رسائل إلى روائي شاب” يبدو أن البحث عن إجابات للأسئلة الملحة هو عادة كل شاب إلا أن يوسا يوضح لنا هنا في رسالته الثانية أن هذا السؤال تحديدًا يظل يؤرق كل من استطاع أن يقرأ أو يمسك بالقلم ليكتب. فالأدب كما يقول يوسا هو “أجمل ما تم اختراعه من أجل الوقاية من التعاسة”. إلا أننا جميعا قد لا نجد جوابًا لحالة الكتابة نفسها فالميل الأدبي يجب أن يزجي بشيء ما ليتطور إلى عملية الكتابة ذاتها أو بمعنى أصح أن يكون لما يخرج على الأوراق أساس ما .

يقول يوسا في رسالته “أصل كل القصص ينبع من تجربة من يبتكرها، والحياة المعيشة هي الينبوع الذي يسقي القصص المتخيلة، وهذا لا يعني بكل تأكيد أن تكون الرواية على الدوام سيرة حياتية مستترة لمؤلفها، بل يعني بصورة أدق أنه يمكن العثور في كل قصة حتى في أكثر قصص التخيل تحررًا وانطلاقًا على نقطة انطلاق، على بذرة حميمة، مرتبطة أحشائيًّا بجملة من التجارب الحياتية لمن صاغها، وأتجرأ على التأكيد أن ليس هناك استثناءات على هذه القاعدة.”

يرى  يوسا أن كل هذه الروايات والقصص هي من نبع حياة الأديب ذاته فالقص هو عملية هندسية حرفية للأشخاص والمواقف التي عايش الأديب جزءًا منها أو سمعها مختزنًا جزءًا منها ليخرج على الأوراق وفقا لما يراه، ليس معنى ذلك أن العملية عبارة عن كتابة سيرة ذاتية خالصة ولكنك في كل قصة تجد موضع أكثر حميميّة، وبذرة مرتبطة بالكاتب، فالعملية التصنيعية التي تقوم بها عقلية الأديب لإظهار المنتج النهائي في صورة قصة أو رواية يتم بناؤها على الحالة التي يرى الأديب  نفسه فيها،  فالأديب الأصيل هو من يجد الخيط يدله لا من يلوي عنق الحياة ليكتب،  فالموضوع هو من يختار الكاتب لا العكس، وعملية الكتابة كما يقول يوسا في إحدى محاضراته عملية كرقصة تعرٍمعكوسة، فأنت تغطي ذاتك بغطاء شديد الكثافة وأنت في طريقك لإحكام الحبكة الروائية، إن ستر ذلك العري هو جوهر العملية التصنيعية التي تقوم بها على جزء من ذاتك التي اختارتك لتكتبها.

أما فيما يخص الموضوعات فيقول يوسا “أعتقد بأن الروائي يتغذى على نفسه مثل الكاتوبليباس، ذلك الحيوان الخرافي الذي يظهر للقديس أنطوان في رواية فلوبير (إغواء القديس أنطوان) والذي أعاد إبداعه بورخيس فيما بعد في مؤلفه (المرجع في مملكة الحيوان المتخيلة)، والكاتوبليباس هو مخلوق مستحيل، يلتهم نفسه بنفسه، بادئا بقدميه، وبمعنى أقل مادية بكل تأكيد، يقوم الروائي كذلك، بالنبش في تجربته الحياتية الخاصة بحثاً عن دعائم ومرتكزات لكي يبتكر قصصًا”

ومن ذلك نخلص بأن حرية الكاتب هي حرية مزعومة، حرية شكلية، فالحياة بمفهومها الحقيقي هي من تفرض عليه ما يكتب و ما يترك،  و كل الشهادات التي تخرج من الروائيين في هذا الصدد تقول (قد ألحت علي تلك القصة أو غيرها قد تسلطت على عقلي، كمطلب أتى من أعمق ما هو حميم وشخصي وكان علي أن أكتبها لأتحرر منها)،  وهنا نجد أن اسم بروست هو أول اسم يبزغ في سماء الأدب كنموذج لكاتب كاتوبليباس فقد أحسن النبش في  ذاته في بناء الصرح الروائي العملاق (البحث عن الزمن المفقود )، هذا العمل يعتبر رصدًا لتحولاته الحيوية ولأسرته وأصدقائه وعلاقاته فقد تمكن  كتاب السيرلا من تنظيم قوائم جرد مطولة لأمور عاشها وما إلى ذلك، فهذه الأمور تم نقدها من خلال النبش في الذات.


كل رواية هي كذبة تحاول أن تتظاهر بأنها حقيقة.

ويذكر يوسا أن “المادة الأولية المستقاة من السيرة الذاتية تتعرض في هذه العملية الوسيطة أي سكب الموضوع في جسد من الكلمات وفي نسق سردي تتعرض إلى تحولات كثيرة، فهي تغتني وأحيانًا تفتقر وتخلط بمواد أخرى، متذكرة أو مختلقة، وتعالج وتركب، إذا كانت الرواية إبداعًا حقيقيًّا، إلى أن تبلغ استقلالها الذاتي الكامل الذي يجب أن تتصنعه الرواية المتخيلة، لكي تتمكن من العيش بذاتها، أما تلك التي لا تستقل عن مؤلفها وتبقى مجرد وثيقة من سيرته وحسب فإنها روايات خائبة بكل تأكيد”

إلى هنا نجد أننا مجبرين على البحث عن شيء آخر مثبت وهو أن الحياة ليست هي المنبع السهل لكل ذلك، فنقطة ابتكار الروائي تقع على عمق كبير من الذات و تتأثر بأشياء كثيرة، هذه النقطة تعالج  وتغتني وتفتقر وتختلط بالخبرات المعاشة فيما قبلها وبعدها إلى أن تتمكن من الاستقلال الذاتي المتكامل، الذي يجعلها تستطيع أن تتعايش مع نفسها كرواية مستقلة (هنا نجد أن النقطة التي لم تستطع أن تستقل وتبقى مجرد وثيقة في سيرة حياة كاتبها تعيش كرواية فاشلة) فجوهر العملية الإبداعية هو أن يجري الكاتب عمليته التصنيعية على تلك المادة الخام من روحه، فيختار الشكل الذي يناسبها وما إلى ذلك من معاملات حرفية وفنية، ومن هنا يمكن أن نقول بأن الكاتب حر تمامًا وله الاختيار في أن يتعاطى مع نقطة من روحه ليحولها إلى عمل أدبي وعليه تقع المسئولية في ما إذا كان فاشلًا أم عبقريًّا .

ولعل الأحداث التي تلح على المبدع بالخروج بخلاف الكثير من الأحداث الأخرى محرضة إياه على الكتابة، لعل هذا ما قد يرجع إلى ما سماه يوسا الميل الأدبي إلا أنها حالة من الهروب من الواقع  أو حالة صبغ هذا الواقع بصبغة المبدع الذاتية، وهنا نجد أن من أفضل الأمثلة التي وجدها يوسا: كاتب فرنسي قليل الموهبة إلى حد ما إلا أنه غزير الإنتاج، واستطاع أن يرصد حالة فرنسا في القرن الثامن عشر بدأب شديد، فقد قدم (ريستيف دي لابرايتون) حالة من الوصف شديد الأهمية التي استطاع التاريخيون والأنثربولوجيون  والسوسيولوجين الاستفادة منها على حدٍّ سواء.

“كل رواية هي كذبة تحاول أن تتظاهر بأنها حقيقة”

هنا تتوقف أصالة الكاتب على مدى التصاقه بموضوعاته، فالرواية هي كذبة تحاول جاهدة أن تكون مقنعة، فالرواية هي جنس أدبي أكثر ما فيها حقيقة هو كونها خدعة، وعلى ذلك فالروائي الحقيقي هو الذي ينساب بوداعة نحو ما تفرضه عليه الحياة من موضوعات هي الأكثر التصاقا به والأكثر حميمية بالنسبة لذاته، وتجنب ما لا يتولد بصورة حميمية فالروائي الحقيقي الصادق هو من يتبع شياطينه الخاصين ويحاول جاهدًا أن يخدمهم بكل قواه .

“الروائي الذي لا يكتب حول ذاك الذي يحثه ويطالبه في أعماقه ويختار ببرود شؤونًا أو موضوعات بطريقة عقلانية معتقدًا أنه يتوصل بهذه الطريقة إلى النجاح بصورة أفضل هو كاتب غير حقيقي”

الكتابة حول ما يحث الروائي ويستثيره هو مقياس الجودة الوحيد أو الأساسي في العملية برمتها، فقوائم الأفضل مبيعًا تغص بكتاب سيئين، من هذا المنطلق فكل كاتب لا يسير وراء شياطينه ويختار موضوعاته بعقلانية يخطئ خطأً فادحًا، فالموضوعات تحتمل أن تكون جذابة أو منفرة، تحتمل كل الشروط، إلا أن المعاملات التي تجري عليها وتصبح في صورتها النهائية أو ما تحول إليه الموضوع هي التي تؤهلنا للحكم على مدى أصالة الموضوع والكاتب، فالطريقة التي اختارها الكاتب لتجسيد عمله هي ما تسمح لنا بالقول إن القصة مبتذلة أو أصيلة، سطحية أو عميقة، وهي التي تمنح الشخصيات الكثافة والغموض، أو أن تتحول إلى كاريكاتير بلا حياة أو إلى دمى يحركها مروض العرائس بلا روح، وهذه قاعدة أخرى، فالموضوع لا يفرض مسبقًا أي شيء، لا الجودة ولا السوء، إلا عندما يحولها الكاتب إلى كلام منظم وفقًا لترتيب معين هو ما يحكم على العملية برمتها .

فالعملية الإبداعية هي أن تأكل نفسك بحميمية شديدة مما يؤدي إلى انسيابية خطوطك الدرامية .



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads