قاسم حدّاد: موسيقى الكتابة

Written By تروس on الاثنين، 14 ديسمبر 2015 | ديسمبر 14, 2015

قاسم حدّاد: موسيقى الكتابة
1


الكاتب المبدع هو الذي لا يكتب جملته الجديدة، نثراً أو شعراً، دون أن يكون فيها سرٌ من سحر اللغة، أو جانبٌ من جمالها.

الصوت أسبق من اللغة،
اللغة أسبق من العروض،
غير أن “فيرلن” سيقول: الموسيقى قبل كل شيء.

2

الصوت هو الدليل الأول على حركة الحياة. إنها الفطرة الإنسانية. واللغة هي الفطرة التي ساهمت في حياة البشرية. فطرتان تشتركان في خصائص حيوية، مثل الحركة والنقر والإيقاع، والرقص أيضاً.

3

اتصالي باللغة العربية كان، بالدرجة الأولى، اتصالاً موسيقياً، حسّياً، ثم وجدتُ في اللغة تلك الجماليات التي يحلم بها الشاعر، ويسعى إلى تحقيقها كلما تمكنتْ مخيلتُه من العمل، بحرية وجرأة، لحظة الكتابة.

لقد كتبتُ شعراً كثيراً اعتماداً على التفعيلة. ومبكراً كنتُ ممن يشعرون بميلٍ إلى موسيقى الكلمات ودلالات الصوت فيها، حتى أن كتابتي خارج الوزن لم تغادر الإيقاع بشكلٍ ما، ولا أزال أشعر بلذةٍ، تكاد تكون روحية، في الكتابة وزناً.

ليس لديّ موقفٌ مسبقٌ في هذا المجال، غير أن حساسيتي الموسيقية عنصرٌ مكوّنٌ، ضمن عناصر أخرى، أسعى بها إلى منح النص خصوصيته الشعرية، وبالتالي مغايرته للنثر العام.

أكاد لا أشعر بالحياة من دون أن تكون الموسيقى ميزاني، في الكتابة خصوصاً. ولديّ إحساسٌ بأن للموسيقى قانونَ خلقٍ غامضٍ يحكم الكون. وكلما تسنى لنا اكتشاف أسرارِ هذا القانون صارت متعتنا وشيكة في الحياة. ولا يتوفر هذا في الحياة من غير شرط الحرية، حرية الخيال. دون أن يكون في هذا كله حكم قيمة على أشكال وأساليب الكتابة، فقد تعودتُ على ديمقراطية أشكال التعبير. فما أحبه ليس قانوناً ينفي الأشكال الأخرى.

4

بعد تجربة ضاربة في الزمن والتنوع، أزعمُ أنني قد صغتُ نصوصي، بشرط حريات الكتابة الشعرية، في جميع الأشكالِ المتاحة حتى الآن، ولم أكن أشعر بالأمان، في كل هذه الأشكال، حين أبتعد عن إيقاع الكلمات. ثمة موسيقى عميقة تعزف لكلماتي حرية الريح.

وما كنتُ سأكتب نصوصي السردية لولا الإيقاع الذي يتفتح لي أثناء الكتابة من تلافيف اللغة العربية وأسرارها الغامضة.

5

يتمكن الشاعر من اكتشاف ما يتجاوز التفعيلة والوزن في اللغة، إذا هو استطاع أن يتفادى خضوعه للمفهوم (القضائي) الذي يقول، مثلَ حكمٍ قاطعٍ، بأن الشعر الآن هو خارج الموسيقى والإيقاع.

وإذا أدركنا بأن عروض الخليل وبحوره، التي وضعها للشعر السابق، هي في الأصل قد استنبطتْ علمَها، في تقنية موسيقى الشعر، من روح اللغة العربية وبنيتها الصوتية، من فونيمات الحروف والكلمات والعلاقات الصائتة في البنى النحوية والصرفية، فسوف يتيسر لنا التحرر من مواقفنا النقدية المسبقة. ذلك هو الإيقاع الشعري الشامل في الكتابة العربية، حيث الموسيقى تأتي مباشرة من اللغة، النهر الهادر بالصوت الإنساني الحميم.

عروض الشعر العربي لم يأت بشيءٍ من خارج اللغة، اللغةِ نفسِها التي لم يزل الشاعر العربي يَكتبُ بها نصوصه. والبحور هي جزء صغير من مادةٌ هارمونية خامّ تشمل الحروفَ والكلمات وتجاوراتهما وإيقاعهما اللفظي. مما يطرح أمام الشاعر كنزاً غنياً من الموسيقى، ليكتب نصه الجديد بما لا يقاس من المادة الأولى، التي لا تزال الأوزان والبحور المعروفة لا تعرفها بعد.

والكاتب المبدع هو الذي لا يكتب جملته الجديدة، نثراً أو شعراً، دون أن يكون فيها سرٌ من سحر اللغة، أو جانبٌ من جمالها.
من هنا، أجد تلك العلاقة، بالغة الغموض والجذرية، بين الشعر والموسيقى. فالإنسان، فيما يتصل بالشعر، سوف يصغي ويسمع بالدرجة الأولى، فالتقنية البشرية تنشأ من اتصال الانسان، بمعظم الابداع، عن طريق حاسّة السمع، حيث الحركة تتجلى: شكلاً ومضموناً، فيزيقياً وميتافيزيقياً.

وعلينا العمل دون التفريط في هذه الوسائط مهما كان شكل إبداعنا، وفي حقل اللغة والكتابة والصوت بالذات. فهي النعمة التي نحاول التعرّف عليها مجدداً، لحظة كل نص، وساعة كل تأمل نقدي. إنها من الثروات المستدامة في الكتابة الأدبية باللغة العربية.
سوف تستهويني كل أنواع الموسيقى التي أمسك بالإيقاع فيها، كما لو أنني أريد للنص الذي أكتبه أن يقدر على الإيقاع والرقص أيضاً.

طوال تجربتي، لم أتخيل الشعر والكتابة من دون موسيقى، فهي طبيعة أشياء الحياة والعالم. لقد كان الشعر، طوال تاريخه، مقترناً بالموسيقى. والتجربة علمتني بأن ثمة مسافة تقنية جوهرية، بين مفهوم الموسيقى في الكتابة، ومفهوم أوزان وبحور الشعر في عروض الخليل بن أحمد. مسافة لا تستهين بمنجز العروض، لكن تتجاوزه نحو الإيقاع الأرحب.

وعلينا أن نتهيأ للتعرف على مفاهيم جديدة تستوعب النصوص الإبداعية الجديدة. وربما استدعى هذا تمريناً روحياً لقبول المعطيات المستجدة في تجربتنا الحديثة. ثمة تحوّلٌ عميقٌ يحرّرنا من المراوحة في قناعات المكان الأول، الذي طرحتها علينا حركة التحديث الشعري في أوائل القرن العشرين.

6

في اللغة العربية، من دون الوقوف عند حدود عروض الخليل بن أحمد، طاقة لا متناهية من الإيقاع، يمكن للشاعر أن يكتشف هذه الطاقة، ويلْتذُّ بصنيعها. فالتفريط في هذه الطاقة تُعد خسارة فادحة للكتابة الأدبية عموماً، وللشعر خصوصاً.

الشاعر لا يخرج عن جاهزية الأدوات هروباً من حدود البحور والوزن، لكنه يفعل ذلك، أعني يتوجب أن يفعل ذلك، لكي يتفادى السهولة التي تستهين بطاقاته الإبداعية وطموحه الفائق. إنه يفعل ذلك، أيضاً، لكي يكتشف أخلاطاً جديدة من موسيقى الكتابة، موسيقى تلائم حياته وتصقل روحه وتبلور رؤيته، نصاً بعد نص، وتجربة بعد أخرى.

الشاعر الأن يأتي إلى الكتابة عارياً من جميع الأدوات والآليات الجاهزة، التي توفرت للشاعر العربي عندما طرح تجديداته الحديثة أوائل القرن العشرين. وعليه، رغم ذلك، أن يكتب نصاً يُقنع القارئ بشعريته.

أظن أننا قد بالغنا في توهم الشعر بمعزلٍ عن الموسيقى. وفي ذلك خسارة كبيرة. ولا ينبغي الاستهانة بما بين أيدينا من ثروات اللغة وايقاعاتها. فإذا تمكنا من عدم التفريط بمنجزات ومكتسبات القصيدة الحديثة، وإذا أطلقنا مكبوتات اللغة، بوصفها الطاقة الموسيقية المتاحة أمام موهبة الشاعر، سوف ندرك أهمية الموسيقى في الكتابة الأدبية عموماً، وسوف نشعر بأهمية العزف على ما لم تكتشفه بحور الخليل، فلا يزال في اللغة العربية سحرٌ لا يلامسه أحدٌ مثلما يفعل الشعراء، هؤلاء الذين يؤسّسون لحيوية اللغة ومستقبلها اللانهائي.

7

عندما أتكلم عن الموسيقى والإيقاع، فإنني لا أقصرُ ذلك على الشعر في القصيدة فحسب، لكنني أعني، عُمقياً، الكتابة الأدبية في المطلق. ففي كل نصٍ ضربٌ من الموسيقى، على المبدع كشفها وابتكارها وإعادة خلقها على الدوام، ومن ثم على القارئ إعادة اكتشافها.

أكثر من هذا، فإن جميع أشكال التعبير الفني لابد لها أن تنطوي على إيقاعٍ خاص بها، فهو الجوهر فيها، وهو التجلي الموسيقي لآلية النوع وشرط جمالياته.

8

تلزم الإشارة، هنا أيضاً، إلى أن جماليات الإيقاع التي تنشأ عن نحو اللغة، هي ضربٌ بلاغيٌ متميزٌ، ففي النحو والصرف شعرٌ أيضاً، يخسر من يقصر عنه، ويفوز بنعمته من يقدر على اكتشاف عبقرية اللغة فيه.

9

لم تزل القاعدة في الكتابة العربية، الشعرية خصوصاً، ترتبك كلما واجهت فكرة الموسيقى في اللغة.

وسوف يذهب الكثيرون إلى الموسيقى، في الشعر، بمعناها العروضي الذي صاغ قوانينه الخليل بن أحمد باجتهاده التقني، لتوصيف المنجز من شعر العرب حتى ذلك الوقت، فيما يتريث كثيرون أيضاً، ليؤكدوا على الرحابة الفنية التي يتطلبها مفهومٌ متغيّر مثل الشعر، مستشرفين التحولات الحيوية التي تأتي بها التجارب الشعرية الجديدة، في الزمن والنص وتبلور الحساسية الموسيقية تجاه الإيقاع في الكتابة، كروحٍ خاصٍ تقترحه الذات الموهوبة للشاعر، بناءً على الجوهر الغامض بين الشخص واللغة.

10

وعيُ جماليات الإيقاع داخل اللغة، شكلٌ متقدمٌ من أشكال إبداع الموسيقى، بوصفها تمثلاً فيزيائياً في النص، وليس مجرد افتراضٍ متخيل على شاكلة الموسيقى الداخلية، التي جرى الكلام عنها في بدايات التحول التعبيري للتحرر من أوزان الخليل، من أجل تبرير قصيدة النثر وترويجها.

لم يعد مفهوماً، بعد كل هذه التجربة الكثيفة من الكتابة، مواصلة التخلي عن عنصر الجمال البنيوي في الشعر، وأن يفشل المرء في البحث عن عناصر تسعفه لمعرفة الفرق بين الشعر وغيره، ليس بالمعنى العروضيّ المعروف، لكن بالمعنى الجمالي الخاص بأدبية النص، وتظل مادة الشاعر هي، دائماً، الجذر الأول للموسيقى والإيقاع النوعي في روح وجسد الصنيع الإبداعي: إنها اللغة.

والذين يصدرون عن فكرة أن كتابةً خارجَ الوزن تأتي من إخراج الشعر من النثر، إنما يَعْمَدُون، من حيث لا يقصدون، إلى تجريد الشعر من جماله الأثير الأول، بوصفها – الكتابة – نثراً بالدرجة الأولى، وفي هذا تفريط مضاعف في شعرية اللغة.

12

علينا أن ندركَ حق الشعر في أن تكون الموسيقى رديفاً فيزيائياً له. كما أن اللغة ليست وهماً، ولا هي موجودة بصفتها الافتراضية، كما يحاول البعض اقتراحها، داخلياً، إشارة بأنها حاضرة في المعاني الدالة. فالموسيقى، وحدها، ليست دالة منفصلة عن المعاني، أو افتراضية.

وأخشى أن المبالغة في الكلام عن الموسيقى الداخلية في قصيدة النثر، تجعلنا نبدو كمن يعطي عودَ ثقابٍ مطفأ لقارئ يدخل غرفة مظلمة ليشعل شمعة بلا ذبالة.

13

الآن، يتوجب أن نعترف، بأن مواصلة التوهم بإمكانية تحقق الشعر بلا موسيقى، هو بمثابة تكريس السذاجة والجهل بالحقائق الفنية الكبرى، وعلينا استدراك ما فاتَ شعرنا العربي منها في القرن الأخير، من أجل أن نسعفَ تجربتنا الجديدة من مواصلة الإخفاق. فليسَ من المصادفات تكرار الإخفاقات الفنية لحركة الشعر الجديدة، وتراكم النصوص عديمة الموهبة، والوهن العضوي الذي ينتاب الكثير من الكتابة العربية في العقود الأخيرة.

وليس بلا دلالة فشلُ المبررات التي يجري تداولها، للدفاع عن نصوصٍ وكتبٍ ومؤلفات عربية لا تحصى، دون أن نقدر على الإمساك بالتضاريس والتخوم والفروق الفنية، ذات الابداع، بين الشعر وغيره.

لابد لنا أن نعرف بأن طلبنا الشيء لا يجعل هذا الشيء موجوداً، ولا يجعله حقيقياً. مثل تمني الشيء لكي يتحقق. تلك هي مشكلتنا مع المتداول النقدي عن الموسيقى الداخلية في بنية قصيدة النثر. وهو قولٌ يمكننا تفهّم دوافعه المعنوية، وربما فهمنا العناصر ودلائلها التقنية في النص المكتوب بنوايا شعرية. لكن المؤكد أن هذه العناصر الموسيقية لا يمكن أن يتوفر عليها النص، من غير أن يكون الكاتب صادراً عن درجة عالية من وعي طاقة الجماليات البلاغية في اللغة التي يكتبها، وذائقة موسيقية تمسك بناصية الإيقاع في الكتابة.

يبقى على الشاعر العربي الذي يكتب نصه خارج الوزن أن يدرك أدواته وآلياته اللغوية، أن يهتم بلغته وعبقريتها، ويتوقف أمام العلامات الدالة على ظاهرة الموسيقى في الكتابة، لكي يساعد القارئ على تصديق وجودها في نصه.

14

هنا/ الآن، الإيقاع ليس هو الوزن. لكنه روحٌ أكثر شمولاً ورحابة وجوهرية. فإذا كان الوزن هو الجزء المكوّن لنسيج التفاعيل المختلفة للبحور، فإن الإيقاع هو النسق العام الذي يجمع كل هذه الأجزاء والتفاصيل، لأجل خلق الهارموني الشامل في كتابة النص. وهو، بالتالي، يستوعب الانشاء الجمالي لمجموع، الداخل والخارج، من عناصر وأدوات وآليات الموسيقى في الكتابة.


الإيقاع ليس هو الوزن. لكنه روحٌ أكثر شمولاً ورحابة وجوهرية.

15

من تجربتنا، يظهر أن الإيقاع، في اللغة العربية، أكثر جرأة وحرية من الوزن. وهو يشمل الوزن دون أن يرتهن بشرطه. فالوزن يظل في حدود العروض والبحور، لا يخرج عنهما. أما الإيقاع فيتحرك بحرية شبه كاملة في فضاء اللغة. هذا الفضاء الذي سيظل سديماً إلى أن ينجح الشاعر في تشغيل طاقة المخيلة اللغوية، وتتكشف لنا حرية الفضاء بوصفه سماءً جديدة. ومع الشاعر الموهوب يواصل الإيقاع تحرره من تخوم الأوزان، صادراً بأجنحة اللغة إلى موسيقى الروح الكونيّ.

وتَصْعِيد شعريّة النص سوف يقترب من التحقق كلما نجح الشاعر في صقل المعنى. فربما كان الإيقاع هنا فعلاً شخصياً للغة الشاعر بالذات. ويمكن تحرير الذات بالإيقاع، كما يقول هنري ميشونيك. فإن فاعلية النص تنتج عن قدرته الإيقاعية في التأثير.

16

بالطبع، لا أدعو إلى عودة شعرنا، مجدداً، إلى بحور الخليل أو أوزانه أو تفاعيله، لكنني أستشعر حاجتنا لأبعد من ذلك، وأكثر عمقاً وجوهريةً. وأرى أنه ليس أمام كتابتنا الأدبية برمتها سوى الذهاب إلى الأفق الأرحب، والتأمل في جماليات اللغة العربية لاكتشاف عبقريتها الفنية التي تمثل الموسيقى فيها الجمالَ المكتنز بالأصوات البالغة الغِنى والتنوّع.

كذلك، لستُ في وارد الانتصار لنوعٍ معين في أساليب الكتابة الشعرية العربية، التي انطلقت منذ الخروج الأول عن حدود الأشكال الموروثة، ففي فضاء الكتابة الأدبية ما يسع كل التجارب الإبداعية، التي يجتهد بها الشاعر ويستحسنها القارئ.

يبقى علينا دائماً أن نسأل أصحابَ علم جمال الأدب أن يقولوا لنا رأياً مفيداً وصارماً بشأن جماليات موسيقى الكتابة في الشعر العربي، رأياً يصدر عن المعرفة الكثيفة بتجربة الشعر، ما تقدم منها وما تأخر.

17

يتوجب، دائماً، إعداد أنفسنا للقدرة على نقض المقدسات النقدية المكرّسة، من أجل أن نتأهل بموهبة التعبير عن ملاحظاتنا والإصغاء لاختلافاتنا مع المستقر من الأفكار.

عندما جاءت حركة التجديد في الشعر العربي، أوائل القرن العشرين، لأجل كسر القيود والقواعد القديمة، بملاحظات نقدية جديدة، تتجاوز تقديس المسلمات، سرعان ما جوبهنا بصيغة جديدة من المسلمات والثوابت والقواعد التي يراد لنا، مجدداً، التسليم بها، بوصفها تخومَ حرياتنا الراهنة، واللاحقة.

لذلك كله، نشعر بالحاجة الماسّة لطرح أسئلتنا على صنيعنا الشعري الجديد.. لئلا يصدأ، قبل أن يموت.

18

الشاعر قادرٌ على مساءلة المستقرات والثوابت من القناعات في النظام الفني للكتابة الأدبية، فليس مثل العروض العربي إرثٌ ثابتٌ، أصبح من البديهيات التي يتوجب إطلاق الأسئلة عليه وحوله. فهو ليس مقدساً آخر يخضع له الشاعر، ولم يقل أصحابه بحتميته. فالذات الشاعرة من شأنها البحث عن خصوصيتها التي تفتح لها الآفاق، وتساعدها على كتابة نصها. تلك هي حاجة الفن للمعرفة.

19

ويتبلور إحساسُنا بضرورة الموسيقى في الكتابة والايقاع الشعري، عندما نتحرّر من وهم أن الإيقاع ليس سوى زينة زائدة. فهذا منطقٌ يبتذل الدلالة الأرقى ويضعها في غير مكانها ومكانتها الطبيعيين.

فحين نتجاوز هذا المنطق، يمكننا إدراك المعنى الحيوي للإيقاع الشعري في الكتابة الأدبية باعتباره ضرورةً جماليةً لازمة، ومكوناً أساسياً للشعرية في جميع اللغات.

الشاعر لا يبحث عن الموسيقى، إنه الموسيقى، قبل الكتابة وبعدها.
وشخصياً، ربما لا أكون موجوداً في الكتابة من غير قلق الموسيقى.

20

في الشعر، ليس ثمة قيود لحظة الكتابة، لكن من المؤكد أن هناك قوانين تقترحها طبيعة الفن، وعلينا أن نحسن تأمل قلقنا بوصفه أملنا المتاح.

هذا قلقٌ فنيٌ مطلوبٌ، وعلينا تفهمه، بل أنه، في العمق، قلقٌ تاريخيُ يتصل موضوعياً بالتجربة الشعرية. فالإيقاع في حياتنا الشخصية هو مادة من عناصر إبداع الكائن، والموسيقى هي بمثابة الحب في الفعل الإنساني، ومن الطبيعي أن يأخذ الفن الإنساني منها قسطاً واضحاً لكي يصبح كذلك، لئلا تنقطع التجربة الفنية عن حركية الحياة.

21

سوف تكمن الموسيقى، دائماً، في المكان الذي يكتشف الشاعر جمالياته. فالموسيقى هي السحر الغامض الذي تشعُّ به اللغة العربية، وتتجلى فيه عبقريتها التي ألهمتْ علماء اللغة وفقهاء النظر، نحواً وصرفاً، وشحذت مخيلة الذين اكتشفوا سرَّ هذه العلاقات الباهرة بين الحروف والكلمات والمفردات والجُمل والصوامت والصوائت والأعراس والنحيب والحرية والريح والحلم.

22

على المبدع، من بين أمور أخرى، التنّبه لحقِّهِ الجماليّ في هذه اللغة التي يكتبها، بالرحيل المتواصل نحو النبع كلما أراد الاغتسال في النهر، فيما يصوغ مفاهيمه الجديدة للكتابة، لكي يمنح لغته نعمة اكتشاف جماليات الإيقاع في هذه اللغة. ليس من أجل أن يسهم في ارتياد الآفاق الرحبة بوسائط التعبير وآلياته فحسب، ولكن، خصوصاً، من أجل أن يكون جديراً بالنهوض بدوره الفذّ في اقتراح حريات أحلامه، بمعزل عن قداسات الموروث الحديث. وكلما اقتربَ الشاعر أكثر من غوامض اللغة في تجربته، تسنى له المزيد من المكتشفات التي تصقل أسلوبه ومعرفته، فالشغف باللغة هو ما يساعد على اكتشاف جواهرها وامتلاك أسرارها.

23

سوف يرى الشاعر في كل نأمة من صنيعه ضرباً من الموسيقى، متجاوزاً التخوم المتوهمة بأن الإيقاع جرسٌ ضاجٌ، ذاهباً الى عمق الدلالة الصوتية في الموسيقى.

وحين لا يتوقف الشاعر أمام ثنائية الشعر/ النثر، يستطيع أن يصوغ نصاَ شعرياً ينجو من الثرثرة والإنشاء الاجتماعي، ويساعدنا لكي ندرك الفرق الإبداعي بين الكلام والكتابة.

ثمة جهدٌ ينتظر من الشاعر النهوضَ به، يتمثل في اتقان فنّ الكتابة، والحساسية الجيدة باللغة. فالكتابة الأدبية ليست خبط عشواء ولا استهانة ولا استسهالاً، إنها قدرة دقيقة على الدرس والمعرفة وسهر التحديق في المناظر المصقولة بالتجربة، والسعي الصارم لتحرير اللغة وإطلاقها من قوالب العروض، ومن أسرها القاموسي الصامت عن صوت المعني. ليس الشعر فقط، وليس النثر وحده، بل الكتابة التي تقدر على جعل اللغة فتنة المعنى، الشعر والنثر جناحاها، بلا تخوم ولا فجوات ولا مسافة للمفاضلة.

24

لقد رأينا كيف يتخفَّفُ شعراؤنا من الإيقاع في كتاباتهم، في الوقت الذي يتريث شعراءُ بعض التجارب الأوروبية لاستدراك ما يفوتهم من الإيقاع في لغاتهم، لاستعادة الروح الجوهريّ في الشعر المنجرف إلى الصمت. وربما أدى هذا الاستدراك إلى حدّ ذهاب بعضهم الى ما يسمونه بالشعر الصوتي، كلٌ بطريقته.

يَصفُ هنري ميشونيك الإيقاعَ في الكتابة الشعرية بـ “الدالَ الأرقى”، دون التخلي عن شهوة التفلّت من كوابح الوزن التقليدي، مؤمناً بأن النقد المتواصل، والوعي بالتجربة الشعرية هو ما يعمل على بلورة الشعر والسعي إلى جمالياته، مستفيداً من التراث الفني للشعر السابق، معتمداً رؤى التجديد المقترحة في الشعر الحديث.


الشاعر لا يبحث عن الموسيقى، إنه الموسيقى، قبل الكتابة وبعدها.

25

نفهم كل تجارب التمرد والتحرر من القيود الموروثة في حقل الكتابة الأدبية، وتجاوز تخوم الأوزان والبحور، ونتفهم جيداً ظاهرة الفوضى وانعدام الوزن في لحظة التحولات كمعطيات تجارب التمرد، لكننا نريد، أيضاً، التفاهمَ على قدرة التجارب ذاتها، وهي تخرج من نظام الحدود السابقة، على ابتكار نظامها الجديد، فليس من المتوقع الزعم بأن الفوضى هي البديل الوحيد الممكن والمتاح أمام ثورات تحرير الكتابة.. لأن السديم لابد أن يتبعه خلقٌ جديدٌ، فالسديم ليس حلاً.

26

يتطلب العمل الإبداعي من الشاعر، إلى جانب موهبته، درجة واضحة من المعرفة. فلكي يحسن صنيعه الإبداعي، يتوجب على الشاعر أن يعرف، بشكلٍ جيد، شيئاً من التقنية الشعرية التي يتوغل في حقولها. فإذا هو افتقد المعرفة، سوف يتعسّر عليه اتقان صنيعه، فلن يميزه، اليوم أو غداً، سوى وعيه، معرفياً، لسبل رفد موهبته الإبداعية، حيث العمل الإبداعي صنيعٌ يتطلب العلم، فالموهبة هي ايضاً علمٌ نوعيّ.

وعندما أتريث في هذا التوقف الطويل، فإنما أصدر عن شعورٍ عميقٍ بفداحة ما نتورط فيه، ونحن نحرم شعرَنا من عنصر جماليّ بالغ الأهمية في الفن الذي يشكل إرثنا التاريخي، وربما هو إسهامنا الوحيد في الثقافة الإنسانية. لابد أن نطمح في تأمل العمق الإيقاعي في لغتنا العربية، التي منحت شعرنا حسّه الصائت، وأن ننظر إلى الإمكانات المتاحة أمام مخيلتنا لتشغيل حرياتها كاملة لحظة الكتابة، تماماً مثلما فعل الشعراء الأوائل وهم يطلقون العناصر الموسيقية الخام، ليؤسّس عليها الخليل بن أحمد علمه في عروض الشعر، بوصفه أحد المعطيات التقنية التي انطلقت منها حدود الكتابة الشعرية العربية.

على ذلك، نتوقع من شعراء الأجيال الراهنة واللاحقة أن يبدعوا في تجربة الخلق، وإعادة الخلق، برؤىً ومفاهيمَ ومخيلة أكثر حريّة وجمالاً.

وعادة ما يرافق كل حركة تجديدٍ أدبيّ أو شعريّ، حركةُ وتجربة لغويتان تصدران عن وعيٍ جديد، يشي بأن مشروعاً مرتبطاً باللغة هو محورٌ في صلب حركة التجديد الجديدة. وأخشى أن هذا ما لم يتوفّر أو يتجسّد أو يتوضّح في تجربة الكتابة الشعرية العربية الجديدة. وربما كان علينا تأمل المسألة اللغوية بأدوات وآليات مختلفة عن تلك المثقلة بالإرث النقديّ السابق.

هل كنا نتوقف عند مثل هذه المسألة ونحن نتوغل في المجاهيل التي تغرينا بها مسألة التحرّر من الماضي، والماضي المعاصر؟ الآن، يتوجب علينا التفكير جدياً في الكفّ عن مواصلة تشيّيد الأوهام وتصديقها. تلك هي المهمات التي لم نزل نتخلّف عنها يومأً بعد يوم، ولا نحقق انتقالاً نوعياً في عملنا الشعري. وأخشى أننا تقريباً، كنا نُشَيّد ما يقوّض الشعرية.

وأعترفُ أنني، في خضم سعي التجربة للمزيد من مكتشفات مجاهيل ذلك الغموض الشعري الأخاذ، ربما قد أسهمتُ بدرجةٍ ما في تكريس جانب من الوهم. غير أن الوقت لا يزال ممكناً لاستدراك هذا الانجراف نحو الخسارات الفادحة في حقل التعبير الشعري الجديد.

فالشعرية، بحاجة للبدء بإيقاظ الذاكرة وصقل مرايا مختلفة للمستقبل.

27

عندما اقترحَ العربُ السابقون البحورَ والأوزان، ظنَّ كثيرٌ من العرب اللاحقين أنها القولُ الفصلُ في تاريخ الإنسان والشعر معاً، كما لو أن الفراهيدي والأخفش وغيرهما، قد وضعوا للكتابة العربية حدودها الأبدية، ليأتي نقادٌ يصدرون في كلامهم عن تلك المقترحات، كما يصدر مفسرو وشراحُ النص الديني، لكي يكون جوابَ الأبد.

وظني أن ما فعله أصحاب ذلك النقد من الفداحة بحيث أنهم لميصادروا فقط حق الاكتشاف المتواصل لآفاق موسيقية جديدة للكتابة العربية، وإنما سدّوا الطريق أمام انبثاق الروح الإنساني في الحياة العربية وثقافتها، لكأنهم بإغلاق باب الاجتهاد في حقل الشعرية العربية، قد سدّوا الباب أمام الأمل في ملامسة جمال الإيقاع، وهو الأهم شعرياً في اللغة العربية، لنجد حياتنا على هذه الدرجة من الجفاف، لفرط غياب الموسيقى عن نصوصها.

لذلك يجوز لنا التعبير عن قلقنا لما يقع فيه النص الشعري الجديد من صمت، لفرط غياب الموسيقى عنه، حيث اعتبرَ البعضُ ذلك ذهاباً للرد على نظام أوزان الخليل وخروجاً عليه، حتى ليبدو لنا، فيما نقرأ بعض الكتابات الشعرية الآن، كما لو أنها قد كُتبتْ لقراءٍ من الصُمّ.

28

من جهة أخرى، فيما بعض الشعراء يبالغون في إزاحة البلاغة عن لغتهم، بحجة خلع الفصاحة عن النص، نجد أن النص الشعري يفتقد الطراوة اللغوية التي تُميّزُ اللغة العربية، حتى أن كثيراً من النصوص تبدو، لفرط جفافها، متخشبة اللغة، لا تشي بأنها مكتوبة من شاعر عربي بلغة عربية. حتى لا تكاد تفرقها عن القصيدة المترجمة إلى العربية عن لغة أخرى، مما يسهم في حجب الكتابة الشعرية الجديدة عن الطبيعة اللغوية ذات الحيوية والسلاسة التي تجعل النص منتعشاً والقارئ منتشياً بالصائت من الكلمات والحروف المتماوجة وهي تدفق المعاني والصور في النص.

29

أتمنى أن يكون قلقنا مشروعاً، وهو القلق الذي يتطلب منا التحلي بالشجاعة ونحن عند مسؤوليتنا المباشرة عما نكتب، لئلا يصدّق غيرُنا، في مستقبل الأيام، أن ثمة شعراً كاملاً يمكن أن يُكتب بمعزلٍ عن الموسيقى.

اللغة العربية ليست مجرد حروف في الأبجدية، أو كلمات منظومة ومصفوفة ومرتبة ومموسقة فحسب. اللغة العربية، هي ذلك الروح الشعري الغامض الذي يستعصي على الوصف، القائم على منطق قياس المادة وفيزياء الدلالة الملموسة. اللغة هي أن تشعر بأن النص قد ولد تواً من عبقريات الجمال الرهيف الذي صقلته تجربة الذات الإبداعية، وتَخلَّقَ من تجربة الكتابة.

تلك هي التجربة الجمالية التي حين يعجز النقد عن الإحاطة بها، يدركها الشعراء. تلك هي العلاقات اللامرئية والمتوهجة، بين تجربة العشق الكثيفة التي لا ينال كنهها إلا شاعرٌ يصوغ تدفقات روحه بحرية، ويمزجها بلحظة الذات متناهية الطفولة والخبرة في آن. فالجمال لا يأتي فقط من الخارج اللغوي، ولكنه يصدر من حرّيات الذات الخبيرة بالحلم، منذ اكتشاف الكلام حتى مختبرات الكتابة وتحولاتها.

30

عندما تنطلق الكتابة الشعرية خارج التخوم الثابتة، متحررةً من قيودها، فسوف يَتخلَّقُ الطموحُ الإبداعيّ في سياق التاريخ الشعري للإنسان. هذه التجربة التي تجعلنا نتشبَّثُ بحلم أن نكتب الشعر مكتنزاً بالجمال.

وعندي، أن الجمال في هذا الحلم، يتمثل دائماً في موهبة ابتكار الموسيقى في النص، متصلاً بالوعي للجوهر الايقاعي الدال. وهذا بدوره سوف يتيح الفرصة لتأكيد خصوصية اللغة التي تمنح نفسها للشاعر كلما أخلصَ في عشقه.

والإيقاع هو أحد أجمل وأهم عناصر الجمال اللغوي الذي ينهض بالكلمات، ليس بوصفها دليلاً على شيء، كما يعبر شلوفسكي، لكن لأنها الشيء ذاته، وهي بالتالي أجنحة النص صاعداً إلى المستوى الأعلى من الشعرية. فالكلمات تتجلى كلما صُقلتْ وتمَّ إطلاق صوتَها في النص. إنها الموسيقى التي تجعل الكتابة شعراً، وتوقظ الحواسَ جميعَها مفسحةً الطريق للاتصال بالعالم والتأثير فيه.

31

بما أن الشعر، بكافة محمولاته، هو ممارسة لغوية، فإذن هو الحقل الحيوي من اللغة، مشتملاً على مجموع العناصر البلاغية، خصوصا تلك المتصلة بالأدوات الصائتة، من الوزن حتى أصغر الحروف والرموز والانزياحات اللغوية الدالة، “حيث التماثل الصوتي يدعم التماثل الدلالي” حسب تعبير (جان كوهن)، الذي يقول في كتاب (الكلام السامي): “الشعر هو الشعر والموسيقى معاً”، كناية عن ضرورة الإيقاع في الكتابة الشعرية. محذراً، من دغمائية تطبيق هذه المعادلة المختزلة، خشية أن يكون اختزالاً مخلاً، من الوجهة النقدية، مستغرباً في نفس الوقت من النزوع الجارف لدى الشعر المعاصر نحو التخلي عن الإيقاع، وهو المعيار الشعريّ في جميع اللغات.

أكثر من هذا، فإن (أدجار ألن بو) سوف يعتبر الموسيقى “أعمقَ افتتانٍ شعري”. فربطه الجوهريّ بين الموسيقى والشعر، يصدر عن إيمانه بأنهما قادران على منحنا تلك الأفراح الإلهية، فليس ثمة حكمة، حسب (بو)، في نبذ الموسيقى لحظة الشعر. ويرى فيها “أنغاماً لا يمكن أن تكون غريبة عن الملائكة وقد انبجستْ من قيثارة إنسانية”، فالشعر عنده هو “الخلق الإيقاعيّ للجمال”. وكان (مايكوفسكي) قد قال في إحدى لياليه الأخيرة: “إن القصيدة عندي تبدأ مع إيقاع يديّ المتأرجحتين أثناء المشيّ”.

وبسبب التقنية الشعرية العالية في رواية (عوليس)، كان الناقد الأمريكي (إدموند ويلسون) يعتبر “جيمس جويس”: “الشاعر الكبيرفي المرحلة الجديدة للوعي الإنساني”.

32

لقد انتبه أكثر من شاعرٍ أجنبي إلى الدرجة العالية من الشعرية في اللغة العربية. وظني أن هذه الانتباهة تتصل بالجانب الصوتي في اللغة، كلماتٍ وحروفاً وعلاقاتٍ موسيقية.

الشاعر الفرنسي (إيف بونفوا)، مثلاً، عبّر عن شعوره العميق “بأن في اللغة العربية مكاناً طبيعياً للشعر، في حين أننا في اللغة الفرنسية نصارع دائماً لنتذكر الشعر فيها”. الأمر الذي يدعو إلى الحرص وعدم الغفلة عن هذه الطاقة الجمالية التي تفتح الكتابة العربية على أفق لانهائي من الموسيقى.

33

في تاريخ الثقافة العربية القديمة، ثمة لحظة تاريخية دالة، أحب أن استحضرها في مثل هذا السياق عن شعرية الكتابة. فمنذ أن وصفتْ قريش النبي محمد بأنه شاعرٌ وساحرٌ ومجنون، وبأن القرآن ضربٌ من الشعر، وقتها بَرَقَتْ شرارةُ مفهوم الشعرية المتغيّر عند العرب. ففي تلك اللحظة ربما تكون السليقة العربية قد أعلنتْ إمكانية خروج الشعر عن بيت القصيد، واستعداد العرب لقبول ذلك، كلما توفرت حساسية الإيقاع في الكتابة، والقراءة خصوصاً، ففي الإيقاع تأثيرٌ يدركه العربيّ جيداً.

وسوف أرى في ذلك الموقف بياناً نقدياً ليس من الحكمة التفريط في منظوره، أو تفادي دلالاته الأدبية، أو التقليل من شأنه الثقافيّ. فقد كان يصدر في أوج التجربة الشعرية العربية المبكرة. وخصوصاً بعد أن أصبحت الكتابة الشعرية والنثرية شبه مكتملة التأسيس بقواعدها التي سوف تحكم تاريخ الشعر والنثر العربيين لقرون لاحقة.

بعد تلك التجربة بزمنٍ طويل، سوف ينطلق أحد أهم أسئلة الشك النقدي العربي الحديث، التي أطلقها (طه حسين) حول النصوص العربية القديمة، مبتدئاً بالشعر.

ففي خضم السجال الذي دار حول شعرية القرآن، اقترحَ (طه حسين) أن القرآن ليس شعراً ولا نثراً، إنه “قرآن”. لا لكي يكرّس قدسية الكتاب، لكن لكي يضعه على مبعدة من أسئلة الشك اللاحقة.


أحب، فيما اقرأ نصاً عربياً، أن أشعر بلغته العربية صوتاً وروحاً.

34

عندما احتدمَ سجالٌ معاصرٌ حول تجربة الكتابة خارج الوزن والتفاعيل، شاركتْ كثيرٌ من التجارب الشعرية المهمة في هذا السجال بأشكال مختلفة، تنظيراً وابداعاً.

كان قلق المصطلحات والمعطيات والحوارات والتجارب حاضراً.

كان (محمود درويش) أشهر الشعراء المعاصرين تردداً وقلقاً إزاء تجربة قصيدة النثر، مفصحاً إنه لا يستطيع أن يُعبّرَ عن نفسه شعرياً إلا بالكتابة الشعرية الموزونة، “لكنها -يقول درويش- ليست موزونة بالمعنى التقليدي، ففي داخل الوزن نستطيع أن نشق إيقاعاتٍ جديدة وطريقة تنفسٍ شعرية جديدة تخرج الشعر من الرتابة ومن القرقعة الخارجية”. مضيفاً بأن “كل كتابة فيها إيقاع”. وبأنه كان يحاول “تنظيف القصيدة مما ليس شعراً”.

وقد كتب محمود درويش نثراً أجملَ من شعرٍ كثير.

35

إذا كان ثمة مأخذ لديّ على بعض أبناء جيلي ومعظم الأجيال اللاحقة، فهو الاهتمام الأقل، أو الاستهانة الفجّة، بجماليات اللغة العربية وهم يكتبون نصوصهم الجميلة، التي ربما ستكون أكثر جمالاً.

قبل ذلك، كنت أسأل: كيف يحدث أن يصطدم شاعرٌ بجدار اللغة، وهو الذي أخذ درسَ اللغة من البلاغة العربية. في حين نجد زملاءً له يفتتحون في اللغة العربية آفاق الكتابة جيلاً بعد جيل، بالتحولات ومستويات التعبير. لماذا يحدث هذا عند شعراء متجاورين في الزمن والتجربة؟ ثم كيف لنا أن نفهم تجربة الكتابة المتميزة، عند شعراء مختلفين، عندما يكتبون نثراً يضاهي شعرَهم. فالنثر عند أدونيس وأنسي الحاج وأمين صالح وسليم بركات ومحمود درويش، كنماذج فحسب، وهم لايتشابهون في الأساليب، ولا يشبه نثرهم نثراً آخر، ولا يستطيع أحدٌ تقليدهم بلا فضيحة.

ألا يشكل وعي اللغة وحرية المخيلة سراً جوهرياً في هذه المواهب؟

36

وعندما واصلَ بعضُ المجددين في بنية الشعر العربي الحديث، متجاوزين الأنماط التقليدية للبلاغة، بعد التحرر من شروط البحور، واعتماد التفعيلات، ثم الاستغناء عن الوزن في تلك التفعيلات، ذاهبين إلى فضاء الكتابة خارج الوزن، حيث النثر كاملاً. أدى كل ذلك الى البحث عن فن الصورة الشعرية كبديل عن الإيقاع. صارت الطاقة البصرية تزيح الطاقة الموسيقية في النص، مما جعل اجتهاد الحريات بلا ضوابط شعرية، ونتجَ عن ذلك الاجتهاد عددٌ من المبالغات التي فرّطت في شرط شعريٍّ لازمٍ يتصل باللغة التي بين يديّ الشاعر. فتقدمتْ تجارب كثيرة باقتراحاتها، متخفّفةً من صوت اللغة، فلاحظنا (صمتَ النص) الذي يقع فيه الكثيرون وهم يخسرون شيئاً من الشعرية في لغتهم.

37

ثمة اجتهادٌ علميّ قدمه نقادٌ حديثون في حقل البحث التقني والدلالي في ضوء تجربة الشعر العربي الحديث، مثل (كمال أبو ديب)، الذي قدّم إشارات مبكرة للأفق الذي يمكن أن تذهب إليه التجربة الشعرية العربية وهي تكتب خارج العروض والأوزان المعروفة، من شرفة مفهوم مختلف لموسيقى الشعر، معتبراً أن قصيدة النثر والكتابة خارج حدود عروض الخليل، يمكنها أن تجد موسيقاها الخاصة في “الإيقاع النابع من النبر والتركيب الصوتي للغة والأبعاد الدلالية للنظم، وهي المكونات ذاتها التي تمنح النثر تشكيلاته الإيقاعية”.

غير أن مثل هذا الذهاب سيحتاج شاعراً مبدعاً يرى في اللغة ثروته الشخصية وحريته الخاصة، بعد أن يكون على معرفة ممتازة باللغة التي يكتب بها. وكان للاجتهاد التقني الذي اقترحه (أبوديب) أن يتبلور لو أن فسحة من التأمل النقديّ تيسرت للتجربة الشعرية العربية، لمراجعة احتمالاتها الجديدة.

38

من جهة أخرى، كان (صبحي حديدي ومحمد الصالحي، مع صلاح بوسريف)، كنماذج فحسب، من بين أهم وجهات النظر النقدية الجديدة التي طَرحتْ، منذ سنوات، اجتهاداتٍ ذات أهمية وجرأة تمسّ صميم الكتابة العربية الراهنة. واللافتُ في هذه المساءلات النقدية، تلك المراجعة الصارمة التي خصتْ تجربة قصيدة النثر.

(صبحي حديدي)، مثلاً، كان يرى في شكل قصيدة النثر العربية درجةً من التخلف يجعلها تقصر عن مكتسبات عصور التجديد في العالم. وهو يرى، ضمن نظريته عن “التعاقد بين الشاعر والقارئ”، أن الشاعر مسؤولٌ عن توفير “العدّة الجمالية” الكافية لردم الفجوة بين النص والقارئ، وهو يرى أن الشاعر العربي، فيما يكتب قصيدته الجديدة، يبدو عرضةً لموتٍ بطيء بسبب انهيار التعاقد بين طرفيّ العملية الإبداعية، الشاعر والقارئ، حول تعريف الفن، والاتفاق على مفاهيمه الشعرية.

(صبحي حديدي)، وهو من أكثر النقاد الجدد حماساً وعناية بتجربة قصيدة النثر، وبين أكثر المنظرين لتقديمها للقارئ العربي، سَبَقَ أن تحدثَ عن الإشكالية التي تثير قلقنا، ويتحدث عن “العدّة الجمالية”التي تقصر عنها هذه التجربة، وهو يقارب كثيراً حديثنا عما يفرّط فيه الشاعرُ من جماليات اللغة العربية، فيما يكتب قصيدته خارج الوزن والبحور.

حديدي نفسه قال ذات نقد، بأنه “ما من شعرٍ عظيم دونما عمارة إيقاعية رفيعة، تحمل قسطاً وافراً من أعباء الإعراب عن عظمة النص الشعري”.

39

في تجربة الشعر الفرنسي، اعتبرَ (جان كوهن) أن ترددَ النقد الشعريّ أمام تجارب الكتابة الجديدة عائدٌ إلى تغيّيب العنصر الموسيقي في نصوص قصيدة النثر الفرنسية.

وإذا كان ذلك يتصل بـاللغة الفرنسية، فماذا يمكن أن نقول عن حالنا في موسيقى اللغة العربية ونحن نكتب شعرنا الجديد.
سنحتاج إلى مراجعات المختصين في هذه التجربة، من أجل أن يسعفوا بعض القلق الذي يعترينا، خصوصاً ونحن نلاحظ أن الكثير، ممن يكتبون الشعر، يَخْتَرِمُ نصوصَهم القصورُ الواضح في معرفة اللغة العربية، إضافة إلى فقر الحساسية الموسيقية التي يتطلبها فنْالشعر في المطلق، مما يؤدي إلى انتاج نصٍ يقع في ركاكة اللغة.

40

تجربة شعرنا الجديد، طوال فترة عمرها القصير، أعطتنا فرصة رفض القيود التي تمنع حرية كتابتنا لنتمرد عليها، لكننا، بالمقابل، سنحتاج فعلاً أن نعي ما نريده لكتابتنا، في فضاءٍ شعريّ حرٌّ، لا يتخلى عن شروط الفن، حيث لا يمكن للمبدع أن يكتب في الفوضى التي بلا معرفة.

هل لدينا رؤية واضحة لما نريد؟
نحتاج أن نرى إلى هذا الأمر بالوضوح العميق والصرامة اللازمة.

41

ربما يجوز لنا، الآن، طرح السؤال التالي:

– هل كان تفريطنا في الإيقاع الشعري مبالغاً فيه، حتى إننا لم نجد الوقت لتأمل النقد الذي تساءل عن جدوى الموسيقى وجماليتها في بنية القصيدة العربية الجديدة؟

– ألم يكن في ذلك التفادي المتسرّع، تهاوناً نقدياً حَرَمَ التجربة من عنصرٍ جماليّ لازم، وتَرَكَ الكتابة بلا ضوابط تقنية، مما شَجَّعَ على الاستسهال الهائل الذي راكمَ لنا النصوص ضعيفة اللغة، ركيكة الخيال، بحجة كسر البلاغة، حيث لم يرَ الكثيرون في اللغة سوى الفصاحة، ولا يرون في الإيقاع سوى العروض؟

– كيف يتسنى لنا معالجة القلق، بالمزيد من المعرفة لإدراك إخفاقات الكتابة، وتجاوز خسارات الشعرية، على صعيد التجربة الذاتية والعامة.

42

وحين لا أخضع إلى إرهاب الموقف السلبي من تجارب شباب الشعر العربي، فإنني أرى ضرورة مفاهيم شعرية جديدة للكتابة، يتوجب على كل جيل تحمل مسؤوليته في إعادة بلورتها وتحقيقها. مفاهيم تستدعي صياغتها قدراً كبيراً من الوعي والصرامة، ليس تلبية لحدود الإرث المُسْلط على الشعر الجديد، ولكن صدوراً من طبيعة ما نشعر به في ذواتنا، واستجابة لمسؤولية مستقبلٍ نزعمُ ذهابنا الحرّ إليه، إبداعاً وحياة.

فمن الحكمة البحث عن سبل ترصين التجربة الشعرية العربية الجديدة، بتفادي ما اعتراها من خفة واستخفاف في النصوص والرؤى، صقل جواهرها وتأكيد مستقبلها.

43

لستُ ممن يميلون إلى تفادي مكتسبات الفنون التي أنجزها الانسان في تاريخه الإبداعي، لأنني أشعر بالخسارة الفادحة. لكنني أحب، فيما اقرأ نصاً عربياً، أن أشعر بلغته العربية صوتاً وروحاً.

44

عندما ابتكر الانسان فنَّ الموسيقى في وقت مبكر من تاريخه، كان يسعى إلى تعميق رهافة حواسه وصقل تعبيره عن روحه، واقعياً وخيالياً وعاطفياً.

لذلك فالإيقاع هو أحد الأسرار العبقرية للغة، أما الصمت في بعض الكتابات الراهنة سيجرّد الكلمات من حيوية دلالاتها. الصمت في اللغة يؤدي غالباً إلى صمت المعنى. وكانت فكرة الموسيقى قد بدأت تتسرّب في نسيج أشكال البوح الإنساني. فصرنا نلاحظ الإيقاع في الفنون المختلفة عبر التاريخ البشري.

فحين تنزع أشكال التعبير الفني نحو الايقاع والموسيقى، يبدو مثيراً للاستغراب تنازل البعض عن عنصر الموسيقى في أكثر هذه الفنون علاقة بالإيقاع: الشعر.

أنت لا تستطيع الذهاب الى الشعر من غير أدوات وآليات شعرية.

45

لقد تنبأ “والت ويتمان” منذ بداية القرن العشرين، بزوال الحواجز بين الشعر والنثر،
وعلينا الآن،
بعد أكثر من مائة عام، التحقّق من حدوث ذلك بشكل ممتاز.

 

الورقة التي نوقشت في جامعة جورج تاون- واشنطن- أكتوبر ٢٠١٥، (قاسم حداد؛ ليس بهذا الشكل ولا بأي شكل آخر، الطبعة الثانية، دار مسارات، الكويت 2015).

المصدر: تكوين


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads