الرئيسية » , » رواية سرير الرمان (٣) | أسامة حبشى

رواية سرير الرمان (٣) | أسامة حبشى

Written By تروس on الثلاثاء، 15 ديسمبر 2015 | ديسمبر 15, 2015


(3)
   حملت حقيبتى والقليل من نقود بحوزتى وخرجت من شقتى، نزلت درجات السلم بهدوء مصحوب بالحزن الأخرس، وتركت جسدى يتفادى البشر على الأرصفة وبين التقاطعات عند عبورى من شارع لآخر فى مدينة الحب والجنون ، تلك المدينة المزدحمة ، العفنة، المملة، التى تخفى التاريخ فيما وراء الجدارن أو فيما وراء هذا الجنون المتمثل فى المحال التجارية. مدينة الحب والجنون شجرة تحمل ثمارا ميته، مدينة تمتلىء بالرمان نعم ،لكنها الآن تحصره فى كونه مجرد فاكهة وليس فلسفة للعيش أو ممرا يصلح  لإكتشاف الجنون الإلهى، البشر هنا بهم سحر وعذاب فى آن، الأصوات تعبر عن خيبات أمل وافتتنان بالمجهول، المنازل حزينة، الهيئات الحكومية تنبعث منها رائحة الموتى فى السجلات، المبانى الصحفية تشعرك بكم الزيف والخيانة، الباعة لوحة عجز رسمها كارافادجو – الذى أحبه جداً والمفضل بالنسبة لى- حركة السيارات فى مدينة القاهرة تذكرك بفيلم أمريكى عن الأكشن ردىء الصنع، المقاهى هى الفوضى الجميلة بعينها، رحلة أخيرة بمدينة الجنون والحب –القاهرة- تعمدت فعلها سيراً على الأقدام بهدف الوصول لمكان انطلاق الأتوبيس الذى سيرحل هناك متجها إلى مدينة الصحراء حيث البحر. الغريب أننى رأيت ما يقرب من عشرة آلاف فرد، ولم أعرف واحداً منهم ولم يوقفنى أحد بهدف الوداع أو حتى لمجرد الفضول، ولم أتقابل مع أى رمانة أعرفها، والغريب أيضاً أن رأسى امتلأت بصور مهزوزة ضبابية لأماكن أخرى أشبه بالقرى، كالتى ولدت بها أو زرتها ، استمرت هذه الصور حتى فى لحظات انتظارى لتحرك الأتوبيس، وبمجرد تحرك الأتوبيس رأيت بوضوح وجه السيدة العجوز مرة أخرى، وكانت تهمس قائلة:
-البحر هو بطن الكون أيتها الشجرة المسافرة، والرمان هو لغز السفر،والسفر لغزالحياة،والحياة لغز الطبيعة أيها العابر فى ذاتك عبر ذاتك.
غابت السيدة العجوز وظللت أغوص فى ذاتى بحثاً عن جديد أتذكره وفشلت، فتركت لنفسى فرصة تأمل المدينة لآخرمرة قبل الوصول باتجاه البربرية والصحراء.
الآن وداعاً مدينة الحب والجنون، وداعاً للحقول وللكبارى ، وداعاً لهذا الأسفلت الذى يتسابق مع عجلات الأتوبيس، وداعاً لهذه البيوت التى تدور حول نفسها من خلال زجاج الأتوبيس، وداعاً لشقتى ولعملى، وداعا ياقاهرة، ومرحباً بالماضى بصحبة البحر. 
 ​ساعات والطبيعة تفرض نفسها علىّ، صحراء شاسعة وسماء وجبال، أشعر أننى أغوص فى داخلى، قالت العجوز إننى شجرة، أليست الشجرة جزءاً من الطبيعة؟ ولكننى أقصد تحديدا شجرة الرمان.
  ​أتذكر الآن أن الكاتب "جوزيه ساراماجو" قال فى روايته"ثورة الأرض"(تتمتع الأرض أيضاً بالمنظر الطبيعى.ومع أن بقية الأشياء ينقصها شىء، إلا أن المنظر دائما فائض بغزارة، تلك الغزارة التى يمكن تفسيرها فقط بالمعجزة التى لا تكل، ذلك لأن المنظر الطبيعى بلا أدنى شك أقدم من الإنسان.وبرغم هذا الوجود السرمدى، مازال باقياً لم ينفد.) وسط تقلبات الطبيعة أمام عينى، ها أنا أستطيع تذكر شيىء ما، فهل الصدفة البحتة هى ما يربط بين أول تذكر لى وبين كلمات "ساراماجو" وبين المنظر الطبيعى أم أن الأمر يعود لرغبتى فى كتابة روايتى؟ .
​العجوز وساراماجو والحلم هم أول ساكنى رأسى، ليكن إذن الوضع هكذا. 


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads