كنت شاباً بالتأكيد، وقد أفعمني شبابي بأحلام وخيالات لم أنجح يومها في أن ألتقط زيف بعضها ولم أفهم أن بعضها طلاء ليس إلّا، وأنّ حماسي لها ليس إلا لأنّني أردتها هكذا واندفعت إليها هكذا، ولم أكن يومها بحاجة إلى أكثر من نفخة لأمتلئ ولأطير. لم أكن بحاجة إلى أكثر من إيماءة لأتحرّك وأسير وأتقدّم. كان هذا بالنسبة لي من حاجتي إلى أن أتحمّس لشيء، أي شيء. حاجتي لأن أجد معنى، أي معنى. أن أجد ضداً، أي ضدّ. كنت ممتلئاً بأشياء وبلا أشياء، سعيداً بامتلائي، رغم أني لا أعرف ما هو وما فحواه. في الثالثة عشرة تقلّبت من البعث إلى الشيوعية إلى الوجودية، وبالتأكيد كنت دائماً مفعَماً بما حويته واحتواني. أذكر أن كاتباً هجا الشباب وقد راقني أن يهجوه، كما كان يروقني، وما زال، كل شيء خارجاً عن المألوف. والآن لا أهجو الشباب لكنّني لا أصدق أعاجيبه ولا إعجازه. بل أنا أقرب إلى الشعور بأن رثاء الشباب ليس سوى حنين عقيم. وأنّه في الحقيقة كسل قد يكون الشباب منبته فكسل الكهول من كسل الشبان، ومَن يبدأ كسولاً يثابر على كسله. ليس الشبان جبابرة ليبكوا على عمر كانوا فيه جبابرة، وليسوا أنبياء ليبكوا على زمن كانوا أنبياء، وليسوا أصحاب معجزات ليرثوا معجزات كان في أيديهم صنعها. يمضي الشباب ونبقى نحن في أعقابه كما نحن. لسنا ربيعاً ذابلاً ولا شتاءً قارساً ولا هجيراً محرقاً، فالعمر ليس سوى فصل وحيد مملّ وموصول. مع ذلك أكلّمك أيها الشاب الذي كنته كجزء من سيرة، بل كفتى تفتق عن طفل وتفتق عن كهل. أراك وأرى نفسي فيك فأنا الشاب الذي كنته ولا يزال حاضراً فيّ. أنا الشاب قبل أن أكون الكهل وربما لا زلت شاباً أكثر مني كهلاً. لا أعرف إذا كان بين الكهل والشاب فاصل وحاجز. أحملك الآن في كهولتي وأشعر أنّك تغذيها وأنّك تمرح فيها وأنك تملأ جانباً منها. كل ما في الأمر أن أشياء كثيرة سقطت مني على الطريق، لكنّي لم أصل فارغاً.
السفير فى ٢٩-١٢-٢٠١٥