الرئيسية » » رواية سرير الرمان ( ١ ) | أسامة حبشى

رواية سرير الرمان ( ١ ) | أسامة حبشى

Written By تروس on السبت، 12 ديسمبر 2015 | ديسمبر 12, 2015


                           
سرير الرمان

                                                      أسامة حبشى
     إلى نجيب محفوظ .. وديع سعادة..بليغ حمدى ..ياسر شكرى
وإلى كل نساء حياتى بلااستثناء أو تفضيل لواحدة منهن على الأخرى.
       تلوم علىَّ عشق الرمان وتناست أنها إله الرمان، ترمى بحجر فى حجرى وتمضى، وتعود لتسألنى هل أنبت الحجر؟
أقول: الحجرينتظر فقط ماء المحياة لكى يثمر.
       تضحك وتقول بعتاب: وهل كل رمانك نضب منه الماء؟
      اعذرها ولا أهمس، تنحنى وتقبل بطن كفي اليسرى وتلك عادتها عندما تعلن مسامحتها لى عم فعلته أمس مع غيرها وتعقب دائما  بكلمتها المفضلة" حريتى يارمان" وهذه الكلمة البسيطة  التى  تعبرنى مثل نسيم لاأعتقد أنه يحمل شرا، وإنما يحمل قدرا هائلا من براح يضطرب بداخلها وبداخلى من أجل الخلاص من تفاصيل الحياة المتربة،هذه الكلمة البسيطة هى سر حياة سأعيشها أو عشتها،لايهم ال ماقبل أو ال مابعد بقدر ماتهمنى هذه الكلمة ذاتها بكنيونتها العبقرية"حريتى يارمان".
                                 (1)
بالنسبة للآخرين ليس هناك تاريخ محدد لميلادى، وليس لى اسم محدد، تعمدت فعل ذلك بأوراقى الرسمية لأهداف كلها تدور برأسى، وصنعت تاريخا واسما لا ينتميان لى وإنما فقط ساعدانى على مرور الأيام والسنوات فى  القاهرة - مدينة الجنون والحب كما أفضل تسميتها- فأنا لا أريد الارتباط بأحد مهما كانت الغريات أو مهما كانت شهوة الرمان، فقط أردت الخوض فى حياتى هائماً كالريح فى بطن الصحراء دون أدنى توقف. منذ الأزل يقولون إن الرب تتضح ملامحه فى قدرته على خلق مفاتن فى الكون والحفاظ الدائم لصيرورته، وأنا أشعر أن دورى هو التوغل فى كهف اللحظات من أجل الغوص فى تلك المفاتن بشكل لانهائى، فالخلق كله لى، وأنا بابه وحوائطه. أنا صيرورته، بدايته ونهايته، أنا من نسل آدم، وآدم أول الخلق وآخره، أنا الذى  يحمل اسماً و تاريخاً وهميين سأصبح مدينة خاصة، مدينة مفردة، مجردة، لايمكن بأى حال من الأحوال أن تتشابه مع المدن المعهودة. أعرف أن كل خطوة خطوتها منذ ميلادى إلى الآن هى محض اختيار لى، وسأظل هكذا لحين بلوغى الستين من عمرى، ولكن كل ما عقدت العزم عليه يفر من يدى الآن. قلت منذ زمن عندما سأبلغ العقد الرابع، وسأصل لنضج كامل فى عواطفى وإدراكى، وقتها سأرحل بهذه العقود الأربعة بعيداً فيما وراء البحر، أجلس وأفض خزائنى هناك يوما تلو الآخر وأهنأ بها، خزائنى تلك التى ستكفينى عقدين آخرين، ومن بعدها سأموت. كل شىء كان مرتبا وواضحا، مثلما أن تحدد ما تريده اليوم قبل خروجك من البيت، أعرف أن  المطلوب  منى هو ملء هذه الخزائن بطريقة سهلة محددة، ألا وهى العيش بطريقة بربرية، غرائزية لاحتواء كل ثانية تمر بى، والغوص فى الرمان إلى مالا نهاية ، وقفطف شهده على مهل ، ولم لا ؟ فأنا سأكون جامع اللحظات، وسأكون عمق اللحظة ذاتها.
أنا اللحظة، وبيننا كل الأزمنة سواء، الماضى هو المستقبل، والمستقبل هو الماضى والإثنان هما مرآة الحاضر، أفهم أننى خندق لذكرياتى، وسأكون عالماً يفيض بأشخاص وعلاقات تكفى مئات الكُتَّاب، كنت نهماَ فى صنع تجارب إنسانية متعددة، مختلفة، بكل ما فيها من مخاطر وعواقب، كنت المغامر/المتسرع/ الهمجى الغاضب/الأنانى/المحظوظ/العاق/المخلص للرمان/ والعبد له وإلهه فى آن واحد.
​كنت أحيا اللحظة وكأننى سأموت بعدها، أعشق رمانى فى ثانية وأهيم به، ثم فى ثانية أخرى أشعرأن قلبى أشد قسوة من الحجارة، لذا كان علىَّ الإخلاص الكامل لهذه اللحظة/الثانية ، العمر بالنسبة لى لحظات وليس أياماً أو شهوراً، ولكن أنا هنا الآن فى حزن وألم، فرأسى تؤلمنى، فارغة، مجرد رأسٍ ملقاة بقارعة الطريق، اللحظات/الذكريات لا أعرف عنها شيئاَ، هل تحولت رأسى إلى صفحة بيضاء؟ هل كل ماراهنت عليه ضاع؟ أنا لم أفقد الذاكرة بعد، وأنا أيضا بلاذاكرة الآن، ياإلهى أهذا ما يحدث وأنا الآن فى الأربعين من عمرى؟ . 
كل ما أتذكره الآن هوالبداية، حيث لقائى بالسيدة العجوز منذ  ثلاثة عقود مضت، كنت فى العاشرة من عمرى وكان الليل يبدو وقتئذ  كالبيت الخرب، وكانت السماء بلانجوم، حافة البحر خاوية مثل قلب عانس لم تدرك بعد ونس الزوج، الموج يرتطم بالصخر كمن يريد سحق منافسه فى حلبة ملاكمة، حبات رزاز الموج تتساقط على وجهى كلسعات كرباج تركى، الرمال فى حياد تام، وثعبان يفر تائهاً فى هذا البرد القارس، والمدينة تنام هناك. كنت وحيداً فى هذا المشهد الذى يحدد صراع الطبيعة، وفجأة اقتربت السيدة العجوز وجلست مستندة إلى حافة جدار متهالك، ولم تنطق بحرف واحد، السيدة ترتدى الأسود وبياض بشرتها يفضح عمق هذا السواد المحيط بها، اقتربت منها دون خوف. كان ذهابى للبحر ليلاًَ هو متعتى الأولى والأخيرة فى هذه السن، نظرت لى السيدة وهمست قائلة:
- ترى هل سينتصر الماء على الحجر؟
 السؤال يستعصى على طفل، لذا لم أجب. تأملت وجهها ويديها وما ظهر بصعوبة من قدميها، حيث كانت تتدلى أجزاء من الثوب الأسود الطويل على قدميها، كانت تجلس فى وضع القرفصاء، لم تكن تنظر إلا فى وضع محدد أمامى، اليمين واليسار بالنسبة لها غير موجودين، السيدة لا تملك إلا أنفاسها ونظراتها المتوغلة فىَّ بعيداً حيث الموج والصخر، وقفت أمامها ، فأشارت لى بالجلوس، ونظرت فى عينى التى أصبحت تحجب عنها ماورائى، تمتمت بقليل من الكلام ، كان يشبه القرآن لكنه ليس بقرآن، وكان صوتها منغماًَ، صافياً كصوت الشيخ مصطفى إسماعيل، كان اللوحة الطبيعية الحاضرة بيننا وصوتها جنة فى بقعة صغيرة من الأرض بجانب الشاطىء.
 نظرت لي فى صمت، وبعدها رسمت على الأرض خطوطاً تشبه شجرة، وطلبت منى مسح الرسم بكفى يدى، حاولت مسح الشجرة، لكنها لم تُمسح وظلت صامدة، شامخة كمسلة فرعونية، كررت المحاولة مرات ومرات. بدت الشجرة/الخطوط وكأنها تنظر إلى فشلى فى نشوة وسحر، لم تكن العجوز بعرافة ، أوحتى إنسان ، وإنما هى شبح ما.
  انفرجت شفتاها المخملياتان بابتسامة حنون ، هادئة، مطمئنة، وقالت:
- الشجرة يا وليدى هى أنت، والروح لاتُمحى إلا بيد واهبها، والأشجار أعمار، كُتب علينا تسلقها للنهاية ، وعند النهاية تجد السقوط عندما يفشل الفرع فى حمل صاحبه... أعطنى كفك يا وليدى.
​  بلاتردد أو غموض يحيل بينى وبين كلمات السيدة، مددت يدى وجلستُ باعتدال أكثر راحة بالنسبة لى، فرأيتُ فى وجنتيها بعض النمش القليل، وبالجانب الأيمن من الوجه وشم صغيريمثل كتابة لحروف متداخلة. كانت كرمشات الجلد تصنع منها بهاءً اسطورياً، قربت بيدها اليمنى يدى لوجهها، وكانت لمسة يدها حيادية بشكل مرعب، نظرت حولى وخلفها، للبحث عن تفسير ما أو مساعدة للفهم عن تلك الحيادية ، لم أجد غير الفراغ والسماء والوحدة والجنون ،الغريب أن الخوف لم يكن فى محيط جلستنا، والشجرة مكانها، فكيف يوجد الخوف فى الجنة؟
  السيدة تنظر كفى، والتسع سنوات الماضية ، كانت بعيدة جداً ، تنهدت السيدة العجوز التى لا أعرف لها اسماً أو بلداً وقالت:
- ستعيش بقانون الطبيعة، وستكبر بين غرائزك مثل الحشائش بجانب النهر، ستملك أكثر مما ترغب، وسيصحبك الرمان أينما حللت، وستنسى التأمل يا ولدى، وفى العقد الرابع لك سترحل بجانب البحر، تاركا رمانك خلفك لتفض هناك ما ملكته، وستظل هناك سنوات وفى نهاية المطاف سيتساوى كل شىء، وستنام نوما لايفصل مابين الأشياء، نوم يتساوى فيه أن تملك أولاتملك فكل الأمور هناك سواء، لن ترانى مرة أخرى يا وليدى، ولن ترى داخلك إلا عند البحر، ولن ترى من الرمان سوى جامعة الرمان فى كفها، قم وارحل فأنت شجرة تنبت فى كل مكان حطت به، وكل ما سيحط على فروعها سيسقط ، أنت هو أنت ومن المستحيل أن تصبح آخر.
    بنهاية كلام السيدة وجدت يدى اليمنى مرفوعة وحدها فى مكانها بلا شىء يسندها من أسفل، وبلا وجه ينظرها، وبقيت وحيداً أمام شجرة العجوز على الرمل، الشجرة خرجت من بطن الرمل  وصعدت للسماء ومن غصونها تدلى الرمان كالنجوم فى سماء تشتاق للصفاء، و صارت أمامى سنوات علىّ أن أسيرها وحدى، سنوات يمر فيها العابرون فىَّ كراما،سنوات تمتلىء برمان يختصر الزمن فى حبيباته.
    العجوز اختفت، وهاهى الأمطار تنزل بغزارة، جاءت أصوات الأمواج من خلفى لتسكننى بصحبة كلمات العجوز، وبدأ الخوف يقتلنى خلال رحلة عودتى لمنزلى.
   فى نفس الليلة نمت، ورأيتُ حلماً لم أستطع طوال حياتى نسيانه مطلقاً، كنت أسير على حافة جبل، حافة صغيرة، خطرة، وأسفل الحافة هناك بعد سحيق، كنت أطوف على الحافة مثل الحجاج، وفجأة رأيت كماً من الخراف يطوف بسرعة شديدة ويقترب منى. المكان أعرفه جيداً، لكنه اتخذ هيئة أخرى، فقد كان المكان هو نهاية المثلث بين" جانبية" قريتنا والتقائها مع خطى السكة الحديد، حيث خط الشرق وخط الغرب، نعم أذكر هذا المثلث الذى يصل قريتنا بالمدينة ، ولكن المثلث الآن يتخذ شكل الجبال، ويعلو عن الأرض وصولاً إلى السماء، ولم تكن فى الحقيقة هناك أشجار الرمان، لكنها فى الحلم موجودة وبكثافة ملغزة .


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads