الرئيسية » , » مقابلة لها في وارسو: علينا الحوار بدلاً من القتل | أحمد صلاح الدين

مقابلة لها في وارسو: علينا الحوار بدلاً من القتل | أحمد صلاح الدين

Written By هشام الصباحي on الاثنين، 12 أكتوبر 2015 | أكتوبر 12, 2015

عشت فى دول اوروبية عديدة على مدار 11 عاماً
محور هذا اللقاء مع سفيتلانا ألكسيفيتش كان الحرب في أوكرانيا، حيث حرص العديد من القراء والمتابعين المهتمين بأعمالها علي متابعة المقابلة وتوجيه عدد من الأسئلة لها تتعلق بالأزمات التي تمر بالعالم في المرحلة الحالية، خاصة الأزمة الأوكرانية.
كيف يمكن إغراق البلاد في بحار من الدم، وضم القرم علي نحو إجرامي، وتدمير هذا السلام الهش في فترة ما بعد الحرب؟ ليس هناك ثمة أعذار
جئت لتوي من كييف، مذهولة من الناس الذي رأيتهم هناك. إنهم يتطلعون لحياة جديدة؛ وهم علي استعداد لنيل هذه الحياة؛ سيقاتلون من أجلها. انتشار المئات من المدرعات الروسية في دونباس ليس حوارا علي أية حال، تحريض الشعوب الأبوية علي المواجهة يعني موت السياسي.

لا يمكن هزيمة الشعب الأوكراني
أولئك الذين يتحدثون دفاعا عن الإنفصاليين في دونباس عليهم سماع الجنود الأوكرانيين ممن أسرهم الثوار، أو بالأحري خادمي روسيا من الجنود. عليهم إدراك كيفية إنخداع هؤلاء الجنود. كيف ينقل الروس جثث القتلي؟ إنهم يدفنونهم سرا كالمجرمين. لقد رأيت فيلما وثائقيا علي الانترنت، حيث تُنقل جثث الجنود والضباط الأوكرانيين في ثلاجات ضخمة في أوكرانيا، بينما يركع الناس علي ركبهم علي جانبي الطريق. وعندما رأيت هذا، أدركت أن هؤلاء الناس لا يمكن هزيمتهم هذه المرة.
بوتين ضابط مخابرات
ليس لبوتين علاقة بالسياسة، إنه ضابط مخابرات بالكي.جي.بيه. ما يفعله هو التحريض، الذي ينظمه الكي.جي.بيه. ليس من العسير لأي بلد أن يحدد هذه العناصر. إذا ما تم إرسال مائة دبابة روسية ومائة جندي إلي روسيا البيضاء اليوم، ماذا سيحدث لبلد سالم؟ سيفضل بعض الناس الذهاب إلي بولندا، بينما سيذهب آخرون إلي روسيا، ومرة أخري سيفتح الباب لبحور الدم.
لماذا تصمت الأمهات الروسيات؟
أعتقد أنه من الخطأ أن نظن أن الشعب الروسي أو البيلاروسي عاجز عن الكلام. لكن ربما هم خائفون من الحديث بصوت عال يدخل دوائر الدعاية. لكن من الغريب حقا أن تعجز الأمهات الروسيات، ممن مات أولادهم في أوكرانيا، عن الحديث للصحفيين. سألت إحداهن: "لماذا أنت صامتة؟ لقد قتل ولدك؟"، كانت إجابتها: "إذا تكلمت، لن أحصل علي مليون روبل، وأنا أريد شراء شقة لابنتي بهذا المال." وبينما كنت أؤلف كتابا عن أفغانستان "صبية الزنك"، كان الناس شرفاء، بينما الأمهات تصرخ وتولول. لا يمكن وصف هذه بالخوف الخالص. إنه نوع من الخليط المعقد، فإن الناس يشعرون بالإحباط في العشرين عاما التي مرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. كانت "الصفوة" تسعي إلي الإصلاح، لكن الشعب ظل صامتا. لكن الأمر اختلف الآن، فعندما شرع بوتين في التحدث بلغتهم، اختار هؤلاء الناس الماضي بدلا من المستقبل. وهذا هو الاكتشاف المروع علي مدار السنوات الأخيرة. وبالطبع، فإن التليفزيون الروسي ساهم بشكل كبير في إفساد الشعب. ويجب أن يخضع الصحفيين في الإعلام الروسي للمحاكمة جراء ما يقولون وأن يتحملوا المسئولية كاملة لما لكلامهم من تأثير سلبي علي الناس. فما يقولونه عن أوروبا، دونباس والأوكرانيين خطير. ليس فقط لأن الناس يريدون سماع ذلك، نستطيع الكلام اليوم عن بوتين داخل كل روسي. لقد واجهنا نفس ذات الموقف عندما غادرت الإمبراطورية الحمراء.
لقد عشنا وسط الضحايا والقتلة
من المروع حقا أن يشرع الناس في إطلاق الرصاص بدلا من التحاور. لكني لا أستطيع الجزم أن هذا الأمر قاصر علي الروس. لقد رأينا هذا في القرن العشرين في يوغوسلافيا وأفغانستان. فالأمر لا يستغرق سوي لحظات حتي يخرج الوحش من داخل الإنسان. لقد حضرت الحرب في أفغانستان، ولم يُسمح لي بالمشاركة في المعارك، لكني رأيت أعين الناس بعد انتهاء المعارك. يحتاج الصبية إلي بعض الوقت للتعافي، فوجوههم لم تكن طبيعية. بدأ القرن الواحد والعشرين بالدم مجددا، وعلي الأدب أن يتناول فكرة "قتل الأفكار"، علينا أن نتحاور بدلا من قتل البشر. علينا أن نحافظ علي هذا السلام الهش الذي تلي الحرب. نتعامل مع الروس الذي تقاتلوا علي مدار مائة وخمسين عاما خلال المائتي عام الأخيرة. لم ينعموا بالحياة الجيدة أبدا. حياة الإنسان لا تساوي شيئا عندهم، والعظمة وفق مفهومهم ليست أن يعيش الإنسان جيدا، وإنما أن تكون الدولة كبيرة مترامية الأطراف مليئة بالصواريخ. كبر أعداء السلام العدوانيون في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، خاصة في روسيا وبيلاروسيا، حيث خضع الناس للخداع علي مدار سبعين عاما، ثم تعرضوا للسرقة خلال العشرين عاما الماضية. أي شخص عاش في سنوات الاتحاد السوفيتي يستطيع الجزم أننا عشان في ظل الضحايا والقتلة. علي سبيل المثال، عشت في قرية تعرف أن هذا الشخص كان شرطيا نازيا خلال الحرب، وأن هذا الشخص قد خان الناس خلال فترة ستالين ومعسكرات الجولاج. عشنا وسط هؤلاء، والعيش وسط هؤلاء يقتضي أما أن تصير ضحية أو تصير قاتلا، ليس هناك من خيار آخر.
لا يوجد كيميائيا شيء اسمه الشر الخالص
كتبت قصة في كتابي تحكي عن رجل يقول: "لا يوجد كيميائيا شيء اسمه الشر الخالص." عندما كان صغيراـ وقع في غرام أوليا، التي كانت تملك صوتا جميلا وشعرا طويلا. خلال سنوات البيريسترويكا، بدا الناس في الحديث عن أنهم اعتادوا علي الصمت. عرف أن أوليا وشت بأخيها عام 1937، وأنه مات لاحقا في المعسكرات. وعندما كانت أوليا علي فراش الموت بسبب مرضها بالسرطان، وجه لها سؤالا أرقه لمدة طويلة: "لماذا وشيت بأخيك؟" أجابت أوليا: " حاول أن تبحث عن شخص شريف في عهد ستالين. لم يكن هناك شرفاء." سألها مجددا، بينما يغادر: "ماذا تتذكرين عن عام 1937؟" قالت: "كانت أفضل سنوات عمري، أحببت، كنت محبوبة، وسعيدة." أتري انتشر الشر في حياتنا علي نطاق واسع، ليس شيئا معدنيا. في معسكر أوشفيتس الذي أقامه الرايخ الثالث في بولندا، كم عدد الألمان الذين دعموا وراعوا هذا الشر؟ تلك هي المشكلة الرئيسية، وهي تعيد نفسها في الحاضر. من الهام جدا أن نعرف من أين أتينا، وهذا يوفر تبريرا لما نحن نعيشه اليوم. لم نناقش ماهية مغسكرات الجولاج وما فعلته بالبشر، ولم نناقش الحرب. لم نتناولها باخلاص. أننا الآن في مواجهة الإجرام، ستالين يبدو حاضرا اليوم مرة أخري. المتحف الوحيد الخاص بضحايا الجولاج يقع في بيرم، تم تسريح كافة العاملين به مؤخرا، وسيعاد فتح المتحف مرة أخري في نفس المكان، لكن هذه المرة سيرعاه القتلة، وليس الضحايا. الفكرة الرئيسية للدولة أن ما فقدناه في التسعينيات كانت روسيا العظمي، التي علينا استعادتها،وقد اصابت هذه الفكرة الجميع كالطاعون. إن كتابي لا يعبر عن فقدان الأمل. إنه فقط يقوم بوصف قوة الروح الإنسانية. لكني علي أية حال لا أستطيع العثور علي إجابة لسؤال واحد: لماذا لا تتحول معاناتنا ومعاناة أجدادنا إلي حرية؟ وهو سؤال كبير. في نفس الوقت، هناك الكثير من المعارضين في السجون، لكنهم لم ينهاروا، هم متماسكون. وفي المكان الذي قتل فيه نيميتسوف، حيث وضع الناس الزهور، قامت السلطات بإزالة الزهور في الليل، لكن الناس يضعون الزهور مجددا مرات ومرات في اليوم التالي. هذا هو الأمل.
بيلاروسيا هي خليط بين دولة المافيا والدولة السوفيتية
لقد عرفت الرقابة أيام الاتحاد السوفيتي، وصار الناس أكثر شجاعة أيام البيريسترويكا. عادوا للكتابة مجددا، وكان علي العودة مرة أخري وطباعة إصدارات جديدة من كتبي. تزحف الآن الرقابة في بيلاروسيا، وصارت كالمستنقع، وأصبحت بيلاروسيا دولة شمولية منذ وقت طويل، بينما روسيا لا تزال في بداية الطريق. من الصعب أن تفرض روسيا هذا النظام الشمولي مقارنة ببيلاروسيا. لقد قمت بنشر كتبي في روسيا، وليس بيلاروسيا. وقد قام بعض الرفاق في بيلاروسيا بنشر كتابي باللغة البيلاروسية، لكن قاموا بطبعه في ليتوانيا. لدينا سيطرة شمولية تامة في بيلاروسيا. لقد سُجن المرشح الرئاسي السابق أندريه سانيكوف، الموجود في هذه الغرفة الآن، لأنه شارك في الانتخابات، وقد خبر قسوة شمولية النظام في بيلاروسيا. لذا فإن بيلاروسيا صارت كوكتيلا بين دولة المافيا ودولة علي الطراز السوفيتي لن يستطيع التاريخ أن يصفها.
أنا كاتبة بيلاروسية
لقد قمت ببحث الحضارة السوفيتية علي مدار أربعين عاما. الاشتراكية والفاشية فكرتان من إنتاج القرن العشرين. إنها أفكار ماكرة وخادعة. وكنت دوما في حيرة من تلك اللحظة التي أصاب فيها العمي المجتمع كما يحدث الآن في المجتمع الروسي. قالتخلص من الشيوعيين وإزالة صورهم شيء، لكن بترها من الروح أمر آخر تماما. مات والدي مؤخرا، لكن كانت وصيته أن تُدفن معه بطاقة عضويته للحزب الشيوعي، هو مؤمن بالشيوعية. أدرس وأحاول أن أفهم كيف حدث هذا في هذه المساحة الشاسعة التي شغلها الاتحاد السوفيتي، في الخمسة عشر جمهورية الي شكلته. أري نفسي كاتبة بيلاروسية، بمشاعر سوفيتية في الخلفية. وأعتبر نفسي كاتبة بيلاروسية لأني كبرت في ظل بيلاروسيا عقليا، جغرافيا وتاريخيا. بيلاروسيا داخلي. نعم أكتب باللغة الروسية، لكن الناس في بلاد أخري عديدة يكتبون بلغة أخري. علي سبيل المثال، باللغة الألمانية، أو يكتبون في أيرلندا باللغة الإنجليزية. أعتقد أن هذه الأمور ليس لها حدود واضحة كما تبغون في بيلاروسيا- إما أن تكون روسيا أو بيلاروسياً. وهذا أمر واقعي في العالم الحديث. عندما كتبت عن تشيرنوبل، فقد تمددت رؤيتي للعالم. وعندا أدركت أن البشر شرعوا يخافون الماء والأرض، شعرت بتوحد مع كل كائن حي، مع الفراشات والقنافد. وقد وضعتنا كارثة تشيرنوبل في مرحلة جديدة تماما، رغم أننا لم ندركها بعد.
عدت للوطن لأني افتقدته
عشت في دول أورويبة عديدة علي مدار 11 عاما. هناك دعم قوي وتضامن بين الكتاب حول العالم. عدت لأني كاتبة في حاجة إلي تنفس الهواء، الحديث مع الناس، رؤيتهم. أما السلطات فتتعامل كأنني غير موجودة، ليس لي ذكر في الإعلام الرسمي، وغير مصرح لي الظهور علي شاشاة التليفزيون أو في الراديو. يهتم بي فقط الإعلام المعارض. وبالطبع مع الشهرة التي أملكها في العالم، ليس من السهل علي السلطات أن ترتكب حماقات ضدي، رغم أن مثال أندريه سانيكوف يؤكد أنهم يستطيعون فعل أي شيء. إنهم لا يحترمون أحدا. عدت للوطن لأني افتقدته. أريد أن أري حفيدتي يانكا تكبر أمام عيني. أردت رؤية الناس والأرض. ورغم هذا من الصعب أن أستمر هنا، إنه مكان يبدو كالسجن.



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads