الرئيسية » , » اختراعُ العُزلة | الحلقة الأولى | بول أوستر | ترجمة: أحمد العلي سلسلة نهر الإسبرسّو

اختراعُ العُزلة | الحلقة الأولى | بول أوستر | ترجمة: أحمد العلي سلسلة نهر الإسبرسّو

Written By هشام الصباحي on الثلاثاء، 15 سبتمبر 2015 | سبتمبر 15, 2015




اختراعُ العُزلة

ترجمة: أحمد العلي

سلسلة نهر الإسبرسّو

001

في أحَد الأيام، يحدُثُ أن تكون هنالك حياة. رجُلٌ -مثلًا- في أفضل صحة، ليس مُسِنًا حتى، وبلا تاريخٍ مع المرض. يبدو كل شيءٍ له كما كان، وكما سيكونُ دومًا. يمضي من يومٍ إلى آخر، معتنيًا بشؤونه الخاصة، حالمًا فقط بالحياة الممتدة أمامه. و حينها، بغتةً، يحدُثُ أن يكون هنالك مَوت. يُتيحُ رجلٌ لتنهيدةٍ صغيرةٍ أن تخرج منه، ينهارُ على مقعده، إنه الموت. تلك البغتَة لا تترك متسعًا لاستيعاب ما حدث، لا تعطي الذهنَ فرصةً للبحث عن كلمةٍ واحدة قد تُواسيه. لا يبقَ معنا شيءٌ سوى الموت، الحقيقة التي لا يمكن تبسيطها عن فنائنا. نستطيعُ أن نرضى و أن نُسلِّم بالموت بعد طول مَرَض. و قد نعزو الموت في حوادثَ غير مقصودة إلى القدر. لكن أن يموتَ رجُلٌ بلا سببٍ واضحٍ، أن يموت فقط لأنه رجُل، فذاك يُقرّبنا من الحَد الخفي بين الحياة و الموت، حتى لا يعود بوسعنا أن نعرف في أيّ جانبٍ نحن. تصيرُ الحياةُ الموتَ، و يبدو لكأن هذا الموت قد امتلك هذه الحياة إلى الأبد. الموتُ بلا إنذار.. و بكلماتٍ أخرى: تتوقف الحياة. و بإمكانها أن تتوقف في أيّة لحظة.

وصلتني أخبارُ وفاة أبي قبل ثلاثة أسابيع. كان صباحَ الأحد، و كنتُ في المطبخ أُعدُّ الإفطار لإبني الصغير دانيال. زوجتي في الطابق العلوي لا تزالُ في الفراش، دافئةً تحت الأغطية، تتنعّمُ في السّاعات الإضافية من النوم. الشتاءُ في البلاد: عالمٌ من السكون، من دخان الحطب، من البياض. كان ذهني مشحونًا بتصوراتٍ حول القطعة التي أمضيتُ ليلَ البارحة و أنا أكتبها، و قد كنتُ أتطلّعُ للظهيرة، وقتَ أن يكون بإمكاني العودة للعمل عليها. ثمّ رنّ الهاتف. أدركتُ فورًا بأن هناك خطبًا ما. لا يتصلُ أحدٌ في الساعة الثامنة من صباح أَحَد إلا لإيصال أخبارٍ لا يمكن تأجيلها. الأخبار التي لا يمكنها الانتظار هي دائمًا أخبارٌ كريهة.

لم أستطع تكوينَ فكرةٍ جيّدةٍ واحدة.

و حتى قبل أن نحزم حقائبنا استعدادًا للقيادة لثلاثة ساعات نحو نيوجيرسي، عرفتُ أنني لابد و أن أكتب عن أبي. لم تكن لديّ خطة، ولا فكرة محدّدة عن معنى ما عزمتُ عليه. لا أستطيعُ حتى أن أتذكر اتخاذي لقرارٍ ما بهذا الشأن، لقد كانَ هناك ببساطة.. حتميّة، إلتزامٌ بدأ بفرض نفسه عليّ منذ اللحظة التي أُعطيتُ فيها أخبار الوفاة. فكّرتُ: رحلَ أبي. و إذا لم أتصرف بشكل سريع، ستتلاشى حياته بأكملها معه.

بالنظر للوراء الآن، حتى لو من مسافة قصيرة جدًا كثلاثة أسابيع، أجد أن ردّة فعلي كانت مُريبة. كنت أتخيّل دائمًا أن الموت سيُفقدني القدرة على الشعور، سيشلّني بالأسى. أمّا الآن و قد حدث ما حدث، فإنني لم أذرف دمعًا، لم أشعر و كأن العالم قد تهاوى من حولي. و بطريقة مستغربة، كنت مستعدًا بشكلٍ لافتٍ لتقبّل هذا الموت، بالرغم من بغتته. الذي شوّشني حقًا كان شيئًا آخر، شيئًا لا علاقة له بالموت أو باستجابتي له: اكتشافي بأن أبي لم يخلّف أيّ أثر.

لا زوجة لديه، لا أسرة تعتمد عليه، و لا أحد قد تتبدّل حياته بغيابه. صدمةٌ استمرّت للحظة قصيرة، ربما، طالت أصدقاءه المتناثرين، أفاقوا بقَدر ما كان من فكرة الموت الذي يتنزّه بينهم، بقَدر ما كان من فقد صديقهم، تلتها برهةً قصيرة من الحداد، ثم لا شيء. و أخيراً، سيبدو كما لو أنه لم يعش يوماً على الإطلاق.

كان غائباً على الدوام حتى قبل رحيله، و قد تعلّم المقرّبون منه منذ وقتٍ بعيدٍ على تقبُّل غيابه، و على اعتبار ذلك خاصيّة جوهريّة لوجوده. الآن و قد رحل، فلن يكون صعباً على العالم أن يستوعب حقيقة أنه غاب إلى الأبد. قامت طبيعة حياته بتهيئة العالم لموته -كانت نوعاً من الموت الاستباقي- و إذا و متى ما تمّ استذكاره، فسيكون ذلك بشكل باهت، بشكلٍ خافتٍ لا أكثر.

خالٍ من الشغف نحو شيء ما، أو شخص، أو حتى فكرة. يعجزُ، أو ليس راغباً في كشف نفسه تحت أي ظرف، تَمكّن من الإبقاء على مسافة من الحياة، ليتجنب الانغمار في سرعة الأشياء. تناولَ الطعام، ذهبَ للعمل، لديه أصدقاء، لَعِبَ التنس، و في كل ذلك لم يكن هو هناك. في الأعماق، الشعور الأكثر رسوخاً، كان رجلاً غير مرئي. خفيٌّ عن الآخرين، و على الأرجح خفيٌّ عن نفسه أيضاً. لو كنتُ -في حياته- أبحثُ عنه، لو كانت محاولاتي مستمرّةً لأجد الأب الذي لم يكن هناك. الآن و قد مات، لا زلتُ أشعرُ بأن عليّ أن أستمر في البحث عنه. لم يغيّر الموتُ شيئاً. الفرق الوحيد الذي حدث هو أن الوقت قد نفد مني.

عاشَ وحيداً لخمسة عشر سنة. عنيداً، غامضاً، لكأنّه محصّنٌ من العالم. لم يكن يبدو كرجلٍّ يحتلُّ حيّزاً من الفراغ، و إنما كتلة من حيّزٍ منيعٍ على هيئة رجل. يرتدُّ العالم عنه، يتهشّم أمامه، و أحياناً يلتصقُ به لكنه أبداً لم يخترقه. لخمسة عشر عاماً يسكن مثل شبحٍ بيتاً شاسعاً، لوحده في كل شيء، و في ذاك البيت قد مات.

عِشنا هناك لفترةٍ قصيرة كعائلة أبي، أمي، أختي، و أنا. بعد انفصال والديّ، تبعثرالجميع: شرعت أمي في حياةٍ جديدة، مضيتُ أنا للكليّة، و بقيت أختي مع أمي حتى، هي أيضاً، ذهبت للمدرسة. بقي أبي فقط ماكثاً هناك. بسبب بندٍ في اتفاقيّة الطلاق ينُصّ على أن أمي لا تزال تمتلك حصّة من البيت و أنها ستحصُل على نصف المال المدفوع متى ما بِيع (مما جعل أبي يمانع البيع)، أو لرفضٍ سريٍّ لأن يُغيّر حياته ( لكي لا يبدو للعالم أن الانفصال قد أثّر عليه بشكلٍ لا يمكنه التحكم به)، أو ببساطةٍ لكسله، لفتورٍ في المشاعر منعه من اتخاذ أي قرار، مكث هناك، يعيشُ وحيداً في بيتٍ كان بإمكانه أن يؤوي ستة أو سبعة أشخاص.

كان مكاناً يُثير الإعجاب: عتيقٌ، مبنيٌّ بإحكام، على طراز تيودر إنكلترا، بنوافذ مشبّكة، سقفٌ صخري، و غرفٌ بمعايير ملكيّة. كان شراءه خطوة كبيرة لوالديّ، علامة على نمو ثروتهم. إنه في أفضل جِوارٍ في البلدة على الرغم من كونه مكاناً غير مسلٍّ للعيش (للأطفال خصوصاً)، إذ أثقَلَنَا البرستيج بكَثرَة المحاذير. و نظراً لواقع أنه انتهى لقضاء ما بقي من حياته في ذاك المنزل، كانت مفارقةً ساخرة أن أبي رفض في البداية أن ينتقل إليه. لقد تذمّر من سعره (ثيمة مستمرة)، و عندما لانَ أخيراً، تمّ ذلك على مضض و بسخريةٍ مُرّة. و مع ذلك، دفع قيمته نقداً، كلها دفعة واحدة. بلا رهن، ولا أقساط شهرية. كان العام 1959م، و كانت حركة التجارة على خير ما يرام بالنسبة له.

رجُلٌ معروفُ العادات دوماً، يمضي إلى عمله مبكراً في الصباح، يعمل بجد طوال اليوم، بعدها، عندما يعود للمنزل (في تلك الأيام التي لم يعمل فيها لوقت متأخر)، يأخذ قيلولة قصيرة قبل العشاء. في وقتٍ ما خلال أسبوعنا الأوّل في المنزل الجديد، و قبل انتقالنا تماماً إليه، ارتكب خطأً من نوعٍ غريب. عِوَضَ أن يقود سيارته للبيت عائداً إلى المنزل الجديد بعد العمل، مضى مباشرةً إلى القديم، كما فعل لسنواتٍ خلت، أوقف سيارته بجانب الطريق، دلف المنزل عبر الباب الخلفي، صعد الدرج، دخل غرفة النوم، استلقى على الفراش، و استغرق في النوم. نامَ لساعةٍ تقريباً. لا حاجة للقول بأن سيدة المنزل عندما عادت و رأت رجلاً غريباً ينام على فراشها، تفاجأت قليلاً. لكن خلافاً للمتوقع، لم يهرع أبي قافزاً للهرب بعيداً. اتضح في النهاية سوء الفهم، و ضحك الجميع بطيبة. حتى الآن، مع كل ما حصل، ليس بوسعي دفعَ شعوري بأن هذه القصة مثيرة للشفقة. إنه أمرٌ ليس بذي بال أن يقود رجلٌ سيارته نحو منزله القديم خطأً، لكنه أمرٌ آخرٌ تماماً، في اعتقادي، عدم ملاحظته أن هناك ما تبدّل في المنزل. حتى في أشدّ الأذهان تعباً و تشويشاً، هناك زاويةٌ من النقاء، الاستجابة الفطرية، تُعطي الجسدَ حِسّاً يُحدّد موقعه. على أحدهم أن يكون غير واعٍ تقريباً لكي لا يرى، أو على الأقل لا يشعر، بأن المنزل لم يعد كما كان. العادة، كما تقول عنها إحدى شخصيات بيكت: “مفسدة عظيمة”. و إذا لم يعد الذهن قادراً على الاستجابة للدليل الحسّي، مالذي سيفعله عندما يواجَه بالدليل العاطفي؟.

تقريباً، أثناء تلك الخمسة عشر سنة، لم يغيّر شيئاً في المنزل. لم يُضف أيّ أثاث، و لم يُزِل أيّاً منه. لون الجدران على حاله، لم يُبدّل أصيصَ الزهور و لا الأحواض، و حتى أنه لم يرمِ فساتين أمي- قام بتخزينها في العِليّة. شساعة المكان جعلته في حِلٍّ من تحريك أيٍّ مما يحتويه. لم يكن ذلك بسبب التعلُّق بالماضي و محاولة الحفاظ على المنزل كمتحف. في المقابل، بدا وكأنه ليس واعياً بما كان يفعل. ما كان يحكمه هو الإهمال، لا الذكريات، و حتى كونه مضى في العيش في ذاك المنزل كل هذه السنين، عاشَ فيه كما قد يفعل الغريب عنه. و بمُضيّ السنين، كان الوقت الذي يقضيه فيه يقل و يقل. تناول حوالي كل وجباته في المطاعم، رتّبَ مواعيده الاجتماعية ليصير مشغولاً كل ليلة، و بالكاد استخدم المنزل كمكانٍ لأشياء غير النوم. مرّةً، قبل أعوامٍ عديدة، صادَفَ أنّني ذكرتُ له كم من المال جنيته من كتابتي و ترجمتي خلال العام المنصرم (مبالغ زهيدة بكل المقاييس، لكنها أكثر مما حصلتُ عليه من قبل)، فكانت استجابته السعيدة هي أنه كان يصرف مالاً أكثر من ذلك، فقط لتناول الطعام خارج البيت. الأمرُ هو: لم تكن حياته مركّزة حول المكان الذي عاشَ فيه. كان منزله فقط محطة من محطاتٍ كثيرة في وجوده القَلِق، المحلول الوثاق. و هذا الافتقار لمكانٍ رئيس كان له الأثر في تحويله لمُتجوّلٍ دائم، سائحٍ في حياته نفسها. لا يُشعَرُ أبداً بإمكانيّة أن يستقر.

0001

http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20140412/Con20140412691502.htm

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads