الرئيسية » , » صباحاً باكراً | إغناثيو ألديكو

صباحاً باكراً | إغناثيو ألديكو

Written By هشام الصباحي on الأربعاء، 2 سبتمبر 2015 | سبتمبر 02, 2015

يملك رجل كشك البطيخ كلباً، كُليباً دهسته سيارة وقد أصبح يمشي وهو يجرّ أحد أرجله بطريقة تثير الشفقة. ينام الرجل والكلب معاً تحت لحاف عسكري في عش مصنوع من القش بين البطيخ. لا يتكلم الرجل مع أحد، لا يتكلّم حتى مع الزبائن على ما أعتقد. يستيقظ في الصباح الباكر ويغسل فمه في نافورة الماء القريبة. وبعدها ينتظر ساعةً حتى تفتح الحانة الأولى، بينما اللحاف على كتفيه وهو يتمشى. يمشي الكلب بجانبه وهو يشمُّ في هذا المكان ويلهو في ذاك.

توجد في الرصيف المقابل حانة تفتح أبوابها في السابعة والنصف. يعبر الرجل إلى الجهة الأخرى من الطريق. يدخل. من الباب، يركّز ناظره على الكشك من أعلى الزجاج الإيمري. يشرب كأساً من العرق، أحياناً كأسين، عندما يكون يعاني من شدة البرد أو عندما يكون متقلباً. يشبك يديه كأنها إناء ويصب بعض الشراب فيه. يقدمه للكلب الذي يبدأ بلحسه بشراهة. الكلب أيضاً يفطر على شراب العرق.

يعرف اسم هذا الرجل في الجوار فقط. اسمه روكي وكلبه اسمه كارتوشو. هذا الأخير مثله مثل كل الكلاب عديمة الأصل، نحيفة وجائعة ومبتورة الأطراف. كارتوشو هو الكلب الأصلع المتشرد، وقد تركه ثورٌ أعورَ العين بواسطة رأس قرنه، في طريق للمشاة بعيداً عن الطريق السيّار.

كارتوشو هو الكلب الشبح لمحطات القطار. أصيب ظهره بعد أن رموه بالحجارة وهو يصارع مع الجرذان أكله في علب العربات المهملة. كارتوشو هو كلب المزابل، تسلية الأطفال القاسية. كلب يعوي كل فصل الشتاء من دون توقف. كان كارتوشو الكلب الذي أغرقته تحت الجسر مياه نهر المانزاناريس في أحد الفيضانات.

روكي وكارتوشو لا يمثلان سيداً وكلباً، بل إنهما بمثابة الأخوين. يشبهان بعضهما بعضاً. روكي داكن اللون وقبيح لا يُعرف له سن؛ أربعون أو خمسون أو أكثر؟ يملك روكي نظرة كلبية، حزين طوال الوقت تقريباً، وأحياناً شرس. على وجهه شعيرات قليلة وطويلة وشائبة. ويعاني من حمى الكلاب. يحمل كارتوشو لون عفونة الفاكهة، عيناه تسيلان، ساذجتان وخائفتان. شعره مجعّد في العنق. أسنانه كأسنان الفئران. يتلاعب الخوف والغضب في قلبه.

يأكل روكي ثلاث وجبات يومياً. واحدة عند منتصف النهار: خبز ولحم بارد. أخرى في الثانية أو الثالثة مساءً: خبز ولحم بارد. والأخيرة حوالي التاسعة ليلاً: خبز ولحم بارد. يأكل الكلب ما يأكل روكي. بين الفينة والأخرى يستفيدان من بطيخة. يقوم روكي بإزالة اللب بحذر شديد مستعملاً سكّيناً. دائماً ما يستغرب كارتوشو من قلة تماسك البطيخ عندما يقضمه.

يشرب روكي الخمر من قنينة قصب طوال اليوم بجرعات صغيرة. يمنع شرب الخمر على كارتوشو.

الآن، في شهر أكتوبر، حلّ البرد اللعين وبان. تقلّصت كومة البطيخ، بقي القليل. ساعة وجود الرياح يبدأ البطيخ بالتصفير، يبدو أنه يصفّر لأن الرياح تلعب بينه وتضيع في المتاهة، مغتاظة، حتى تفرج عن نفسها.

يقومون بإصلاحات في قارعة الطريق. توجد آلة عملاقة تعجن الإسفلت وحارس دائم مع النار. يقترب كل من روكي وكارتوشو ليتخلصا من معاناة الصقيع الذي يقرص العظام. يتحدث روكي مع الحارس مع بداية الليل وفجراً. أحاديث من دون موضوع، متلعثمة وصبيانية.

ينادي روكي على كارتوشو ويشرب نخباً من قنينته. يقلّده الحارس وهو جالس على جذع شجرة، ويترك بعدها قنينته بين رجليه.

 كيف حال المبيعات اليوم؟ يقول الحارس.
- سيئة. يجيب روكي.
ويطلقون العنان للصمت الذي يسود بينهما وينتهي رويداً رويداً.

- الجو بارد آه؟
- سينتهي شهر نوفمبر.

يرفع كارتوشو أذنه عند مرور سيارة بسرعة قصوى. يتقلص لهيب النار مع انتقال الرياح لتعتلي من جديد وتصبح أشد وأكثر صلابة وحِدة.

طلع النهار. تشكل الأوراق جانباً ذهبياً عند قنوات الطريق. يسير تحتها خيط من الماء يتدفق في بعض الأماكن ويغير الأوضاع الأضعف للمكان. مع الوقت، تظلّ الأشجار وترية في رعشة فصل الخريف الذي يعريها ويصورها بالأشعة.

- اسمع، متى ستزيل الكشك؟
- غداً دون تأخير.
- وما بقي لك؟
- القليل. سأبيعه بثمن أرخص.
- ستعود إلى أرضك؟
- لا، أنا من هنا. سأعمل.
- في ماذا ستعمل؟
- في أي عمل أجد. حارساً في ورشة بناء ربما.

يمد كارتوشو أنفه ويشمّ كومة الورق التي تغطّي ما بقي من عشاء الرجل الذي سيأكل في هذه الساعة الأولى من الصباح.

- توقف أيها الكلب.
- لم يلمسه يا رجل، إنه يأكل ما يُقدّم له فقط. يدخل كارتوشو بين رجلي صاحبه ويكشف عن أسنانه.

يعلق الحارس:

- سيئ غضب الكلب، أليس كذلك؟
- سيئ؟ أنا لا أعتقد هذا.
- وكيف كُسرت رجله؟
- دهسته سيارة.

الشارع أبيض، بياض مرآة فقدت لمعانها. الشارع فارغ، فراغ حوض نظيف وواضح بينما أشعة الشمس تلعب في أعماقه. الشارع ميت، إنه الوقت الذي يفصل بين انسحاب حراس الليل وافتتاح الأبواب.

تتثاءب الحانة. تستفيق. تلمع منضدة القصدير بخفوت.

- كأس عرق.
يصب روكي القليل في إناء اليد.
- اشرب يا كرتوشو.

يلحس الكلب. يحرك بقية ذيله المبتور، كأنه ذيل كلب وليد. تلمع عيناه فرحاً. يبتسم روكي. يُظهر عند ابتسامه أسناناً متدرجة ومتباعدة كبيوت الضواحي، إنها أسنان مرعبة لحيوان عراك. لا اليدين ولا العينين تكشفان علانية الحيوانية والقسوة والجرم كما تفعله الأسنان.

- كأس آخر.
يخدش كارتوشو بيديه رجل روكي. يبتسم روكي ويعترف لصاحب الحانة، الذي لم يبال باعتراف الحنان هذا:
- لا أستطيع العيش من دونه.

يدفع روكي ويخرج إلى الشارع. إنه اليوم الأخير. سيقوم اليوم بتصفية بضاعته. لم يتجاوز الرصيف بعد. يحاول كارتوشو استقصاء أسرار شجرة. وصل الطريق. يستقر الفرح في قلب روكي. إنه منتعش. سيكمل العمل اليوم. مذاق العرق في فمه يمنحه قوة.

- كارتوشو.

يقفز كارتوشو إلى الطريق. يُسْمَعُ صوت محرّك يتقدم كأنه عاصفة قادمة من بياض العمق.
- كارتوشو، كارتوشو.

يشك الكلب. توجد السيارة على بعد أمتار. يقفز روكي إلى الطريق. تقوم السيارة بلفة لكي لا تصدمه، تمر على كارتوشو وتتابع بعيداً، سريعة، إلى أن تضيع.

- كارتوشو، كارتوشو.

يحمله روكي عن الأرض ويضمه. يتسرب من بلعوم الكلب خيط من الدم. يجلس روكي على حافة الرصيف.

- ما الذي حصل؟ يسألونه.

روكي لا يجيب. كلمات عزائه الذاتي هائلة، تصفّر له في متاهات الأسنان، كأنها إحدى قوى الطبيعة، كأنها ريح عاصفة.

جرح روكي، جرح الوحدة الذي يعانيه روكي كان يحتاج إلى كارتوشو.


IGNACIO ALDECOA  كاتب وروائي من إسبانيا (1925-1969).


* ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads