الرئيسية » » فِتْنَةُ الرّاوِي الّذي عاشَ أكْثَرَ ممّا يجِبْ خالد جمعه

فِتْنَةُ الرّاوِي الّذي عاشَ أكْثَرَ ممّا يجِبْ خالد جمعه

Written By غير معرف on الأحد، 24 مارس 2013 | مارس 24, 2013




فِتْنَةُ الرّاوِي الّذي عاشَ أكْثَرَ ممّا يجِبْ

خالد جمعه


ومنذُ نقلتُ روايةَ الأميرِ الذي صارَ صوفيّاً يمشي على الصوتِ، بدأتُ طريقَ الرِّوايةِ، ما اجتزتُ حجراً غريباً إلا رويتُهُ، رويتُ حروباً، رويتُ قتلى وأنبياء، رويتُ حصاراتٍ وحضاراتٍ ومعاركَ نبيلةً من أجل أسبابٍ تافِهةٍ، رويتُ قصصَ حبٍّ وانتحاراتٍ وانتظاراتٍ وأشجارَ حنينٍ وسواقيَ دمعٍ وأغاني حرّاثينَ ودعواتٍ ملوَّنةٍ مُلْقاةٍ على مذابحِ المعابِدِ، رويتُ وروداً وأشواكاً، نموراً وعصافيرَ، أخلاقاً وخياناتٍ ومؤامراتٍ واتفاقاتٍ وهزائمَ وانتصاراتٍ، رويتُ حتى سَكَنَ العالمُ فمي.

رويتُ ما خذَلَ السامعينَ، وما جفَّفَ ذاكرةَ آخرينْ، رويتُ ما أقامَ دولاً على أنقاضِ أخرى، رويتُ ما أشعلَ الغاباتِ وحوَّلَ مجرى الأنهارِ، رويتُ الذي زلزلَ الإغريقَ وفتحَ الطّريقَ إلى الأندلُسْ، رويتُ حتى أسقَطْتُ الليلَ عن الكلامْ، أما الروايةُ الوحيدةُ التي عذَّبتْ قُدْرَتي على الكِتمانْ، فأبقيتُها كي أرويها حينَ أشعرُ أن الموتَ سيرويني.

خيطٌ من عنبِ الروحِ كانتْ، على فمِها خاتَمُ جِنّيٍّ نَسِيَتْهُ الكُرومُ حينَ حرَّرَتْ عناقيدَها، خصرُها فاكهةٌ من شتاءٍ وصيفْ، وجهُها مؤامرةٌ ضدَّ الطبيعةِ، ويداها نجمتا الجهاتْ، كأنّها بدايةُ البداياتِ، وكأنّ ما كانَ من الخلقِ يهيئُ لقدومِها، أمضَتْ عامينِ كاملينِ تجلسُ في آخرِ الحديقةِ حينَ أروي، بخِمارٍ يحبِسُ فيضانِ الجمالِ عن جفافِ الأرواحِ العطشى للحكاياتْ.

جاءتْ ذاتَ شتاءٍ وحدَها على بِساطِ ريحْ، هطلَ مطرٌ كالمطَرْ، وهطلَ شالُها كغطاءِ كَنزٍ قديمْ، وحديْ كنتُ، فصرتُ أكثرَ وحدةً من ميّتٍ في قَبرْ، في لحظةٍ، لم تكُنْ هناكَ لغة، ولم يكنْ زمانٌ ولا أرضٌ ولا غيم، لم أعد أنا هناكْ، كأنّ ألفَ امرأةٍ ذابتْ في امرأة، الوقتُ صارَ ثَلجاً، وهي صارتْ إلهةً وأنا سِلتُ، وصرتُ العابدَ الوحيدْ.

سَحَبَتْني من خَدَريْ، إلى عالمٍ مُدَوْزَنٍ على إبرةِ حِياكةٍ ـ لامرأةٍ محترِفةٍ ومجهولةٍ كانتْ طرّزَتِ العالمَ واختَفتْ تحتَ مئاتِ الأسماءِ ـ، بدَّلَتْ لغتي، وغيَّرَتْ أسمائيَ العشرينْ، لَمَّعَتْ فِكْرَتي، ونقَّتْ روحيَ من أخطائها وخطاياها، لَمْلَمَتْ شوائبَ دَمي، وأعطتني سرّ الأشجارِ كي أروي الحكاياتِ عنها، باحتْ لي بالسرِّ الكبيرْ، دلّتني على أفضلِ الطُّرُقِ لمعرفةِ أصلِ الرواياتِ، قالت: سأعطيكَ لغةَ الجيادِ، فكلُّ سرٍّ تعرِفُهُ الخيولُ، الخيولُ أصدقُ معرفةً من غيرِها، تحسُّ بالفارسِ وتشهدُ الوقيعةَ، وتختزنُ ما يحدثُ كذاكرةِ الغيمِ، الغيمُ والخيولُ بذاكرةٍ واحِدة، هذا يصيرُ ماءً وهذا حكايةْ.

أعادَتني كطفلٍ لم يشربْ نقطةً من ماءِ التّجربة، بقلبٍ من فضّةٍ وحريرٍ وناياتْ، بعينينِ غارقتين في الرؤى، وروحٍ لا تُحَدُّ، واختَفَتْ كصرخةٍ في الهواء، تَرَكَتْ الكلماتِ معلَّقةً في حقلِ القصَبْ، وصرتُ سبعَ طبقاتٍ من الحزنِ تغيِّرُ جِلْدَها كلّما تملمَلَتْ الذاكِرة، كأنّي قاطعُ وقتٍ ليسَ إلا، وما زالتْ تنبُتُ في جَذْرِ الرُّوُحِ كترنيمةِ أمّْ، وما زلتُ أعبّئُ العالمَ في حكايةٍ، منتظِراً مَنْ سيرويني نقلاً عن فمِ الموتْ.

وهذي ـ ما زالت ـ فتنةُ الراوي الذي عاشَ أكثرَ مما يجبُ.

الثالث عشر من أيلول 2011
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads