الرئيسية » » عازفة البيانو | شاهيناز شيخه

عازفة البيانو | شاهيناز شيخه

Written By هشام الصباحي on السبت، 4 مايو 2019 | مايو 04, 2019

عازفة البيانو


طرقتْ الباب طرقاتٍ تنم عن عجلة في أمرها, فتحت والدتها الباب
قبّلتها , وأومأت إلى الولدين:   
- هاكِ يا أمّي حفيداك.. آمل أن لا يقلبا لكِ البيت مثل المرة الماضية ,هناك محاضرة أحبُّ أن أحضرها .
قبّلت الأمُّ ابنتها و السّعادة تغمرها
أدخلت الولدين بفرح، فأمُّهما المتعلِّقة بهما تعلُّقاً لا معقولا ً, بدأت أخيراً تبحث عن راحة روحها
انطلقت عازفة البيانو، بنفس السيارة، إلى الصالة الثقافية ، والتي أنشأها الأهالي في ظل الظروف الثَّائرة التي يعيشها الوطن، كان يجول بخاطرها عنوان المحاضرة التي ستحضرها "الجسد بين سطور الأدب والواقع " للكاتب ج. س
الجسد الذي لم يكن له يوماً دلالة في قاموس ذاكرتها.
كانت منذ طفولتها متعلِّقة ًبالبيانو, تشرد عن كل ّشيءٍ يربطها بالأرض، تهيم دائما ًفي عزفها بين حقول الملائكة.
 تنساب بأصابعها الرقيقة بين موجات التجاذب اللّامرئية , التي تحفظ للكواكب توازنها وبقاءها
تغمض عينيها في ابتهالاتها الرائعة, تحفظ سوناتاتها في أعمق نقطة ٍ في القلب
ترتّل أقدار البشر، في انتقال ٍبهي بين مفتاح الصول ومفتاح الفا، وتوازن ٍمبدع، لأصابع واثقة تتبادل بألق صولجاناتها الذهبية الهائمة نشوة في سلّمها الموسيقي, مبحرةً بدلافين روحها  في رحلة ٍ دائمة بين الجواب والقرار في انهمارٍ سلسٍ متجانس لينابيع الله، وغناء الملائكة على أوتار الأنامل العشر.   
بعينين تشبهان بريق الشمس الأول , تراقبان سكّان المدرّجات المتوازية بانتظام ٍبهيّ
الموزّعون بقاماتهم القصيرة البيضاء والسوداء، كبيادق تنتشر على رقعة قلبها, تحرس الأميرة والأزهار! 
تتكاتف أحيانا في أزمنة ناقصة, تتسارع كنبض قلبها
و حينا ًفي زمن ٍكامل ٍباستدارةٍ كاملة، تعلن أنها المالكة المطلقة لزمام الآلة، في رحلتها نحو الكمال المتدفّق, كينبوع ماء في ملكوت صمتها.
 وتتذكّر والدها الذي كان دائماً يتفاخر بها ويقول إنها ابنه !
والدها الذي غذّى طفولتها وصباها بأن كلّ ما يرتبط بالجسد عيب وحرام.. وإنه نقطة التقاطع بين البشر والحيوانات !
لابد ّلها إذن أن تقضي رحلة سبات... باردة.. قاحلة .
لكنْ، وحين جاءت لحظة المواجهة الحاسمة للأب ّالذي رأى طفلته تكبر, وأنْه لا مفرّ من كونها أنثى يجب أن يكون لها قدر الإناث، قرّر تزويجها، ولم تشفع لها دموعها الغزيرة في ثنيه عن قراره الذي جاء مبرما ً...............
كانت أحيانا ًكثيرة تتأمّل ولديها قطعتي كبدها ليومض في ذهنها المُرْهَق سؤال ٌ: هل هما ولداها حقا ً؟   
..........
- إنها تشبه الحدائق المعلّقة! 
كان زوجها يقول ذلك دائماً, ثم يصف للحاضرين تلك الحدائق، موضحاً لهم إلمامه وثقافته
- لقد بناها نبوخذ نصر كرمى لعيني زوجته هل تعرفون من كانت زوجته؟ تصوروا كانت أميرةً كُردّية ... ابنة ملك ميديا! 
أكيد كانت أميرتنا حلوة، تخيّلوا الدّقة والإبداع,  لقد بناها على شكل طبقات محمولة على أعمدة من رخام مفرغة ومملوءة بالطين غرسوا فيها أشجار الليمون والبرتقال ، وكانت بين تلك الحدائق قصور رائعة لا مرئية، والأبدع من ذلك أنه كانت هناك خزّانات خاصة مخفيّة لريّ تلك الحدائق, فكان الناظر إليها يراها معلّقة في السماء! 
كان الزوج ينسى أن بداية حديثه كان عن زوجه! 
وكانت أعباء المنزل والأولاد كفيلة بترسيخ ذلك السبات على رصيف البرد والحيرة .
.............
مع كل ذلك تعايشت عازفة البيانو, ناشرةً في ممالك روحها سلاما ًداخلياً , مستسلمة ً لقدرها الغريب القاسي!         
توقّفت بها السيارة الصفراء التي تشبه بشرتها الممهورة دائما بمسحة ماتزال تحتفظ بها من نور الطفولة، والتي تظهر جليّةً بين سطور يومياتها.   
كانت باختصار طفلة كبيرة، تشعر بالسّعادة في مرحها ولعبها مع ولديها، وتضحك من الأعماق معهم فقط! 
نزلت الدرجات الأربع التي تسبق الباب الرئيسي، عدد ٌلا بأس به من الحضور، ضجة خفيفة، مصافحات، قبلات، ابتسامات
رسائل موجّهة من القلب.   
الحاضرون متحمّسون لتلك الصالة.. فرحون بها بعد سنوات طويلة من الألم
مراهنين بضريبة ممهورة بالدّم على بقائهم واثقين به ثقتهم بجبالهم  وبحليب الأمهات.   
هي أيضا كانت فرحتها تظهر كشمسٍ تَعِبة من بين غيوم روحها, تنتظر معهم وصول المحُاضر الذي قرأتْ له أثناء دراستها الجامعية , وأعجبت بكتاباته، أما حماسها للمحاضرة فلم تفهم منه هي نفسها شيئا, لكن َّإحساسها الخفي َّكان يحرِّضها، كما لو أنها ستجد شيئا  ضيَّعته منذ زمن
عمّ الهدوء القاعة المؤثثة بعناية قلب محبّ.    ............

" أيّها الأحبّة لابد لنا أن ننفض الغبار عن أشجارنا  ... المحاضرات السابقة لزملائي عن الوطن والحرية لم تترك خلفها فراغاً لأملأه، لذلك اخترت الحديث عن ثورة من نوع آخر, وقمع من نوع آخر........ هو نداء إلى كل الآباء والأمهات... صرخة ستيوارت ميل "إن ميلاد طفل بدون تدريب أو تأهيل يعدّ جريمة أخلاقية", وأرى أن الأدب المعاصر بدأ يفعّل دوره في إماطة اللثام عن آلاف المجرمين الأخلاقيين الآن وبعد قرن ونصف من ذلك النداء!"
كان المحاضِر يسترسل في بحثه عن العلَّة وكأنَّه كان يضع يده على جرحها، كانت تنزف وهي تنصت إليه في خشوع، وتتمنّى لو عزفت الآن إنسانية بيتهوفن المعذَّبة، لكنَّها وشوشت لكلِّ نغمة أن تخلد للصّمت هنيهةً, فبحار روحها بدت خاشعة لجلال الصّوت منصتةً لجرحٍ يتفتق موجة.. موجة.

وأكمل المحاضِر: يقول سوفوكليس "حملتُ وزر أفعالي لكني لم أقترفها"
خطاياهم نحن السبب فيها حين لا نُنشِئُهًم بشراً أسوياء، تقول شاعرتنا ن. ش في قصيدتها المختصرة "رسالة"
دعيني يا أمي أختلف عنكِ، فأعيش زماني! 
القاعة وجهٌ مندهش
- الرّوح إذ تحلّق بالجسد بعيداً عن أسواق النخاسة إنما تصنع حضارته... شذراتها الغامضة دون ذلك لا تستطيع العيش بسلام.... إنّها ثقافة الحب ..
أشكركم وفي النهاية يبقى هذا رأيي!
 ثمّ بدأتْ المُداخلات وتبادل الآراء بضجة خفيفة
 أمّا هي فكانت ذاهلةً عن كل ذلك، منهمرة ً بالدموع التي سقطت رغم أنفها, مسترجعة ً الصورة التي رسمتها منذ زمن  .
انتهى الحوار، بدأ الحضور يخرجون تباعاً وحدها سقطتْ سهواً من دفتر الخروج  بدموعها الغزيرة الصامتة
آلة البيانو
ولداها..
.......
ثم فجأةً يدخل المُحاضِر مرة أخرى على عجلٍ، غير منتبه ٍ لوجودها، منطلقا ً إلى حيث كان يقف. لقد نسي هناك بعض الأوراق، لكنه حين همّ بالانصراف لمحها فراشةً تحلّق في صمت القاعة
حاولتْ أن تُخفي دموعها
لكنْ أُسقِط في يدها
- كأني أعرفكِ سيّدتي، دموعك تحرق قلبي! 
حمل أصابعها بين يديه مصافحا، تأمّل تلك الأصابع الممهورة بحرير الملائكة
- آه تَذَكَّرْت....
 أجل أنت عازفة البيانو, حضرتُ لك حفلاً موسيقياً في دار الأوبرا عزفتِ بشكل مذهل وبعدها اختفيت، وسألتُ عنك فلم يجبني أحد عن سبب انقطاعك! 
وسط ذهولها، وصمتها المطبق ودموعها، رجاها أن تمسح دموعها
لكنّها كمن فاته الامتحان، تَنَبّهَتْ لتأخّرها وأسرعت مغادرة القاعة، تاركةً خلفها شموعاً تبكي في المكان حيث كانت تنثر نورها.   
وعند الباب التفتت إليه
كان ما يزال يرمقها بحنان، ودّعته بابتسامة من عينيها، ومضت مسرعة لتستوقف سيارة أجرة  تقلُّها لبيت والدها حيث الولدان
 فتحت الأمّ الباب، عانقتها، وتألمت لدموعٍ لمحتها في عينيّ صغيرتها التي كانت منهكة مثقلة الرأس.   
هرع إليها آرا يعانقها
أمّا البنت فكانت قد نامت لتوّها في حضن جدّها الذي أشار إلى أن والدهما سيتأخر اليوم وأنه جاء بما يلزمهم لقضاء الليلة
لابأس! قالت ذلك شاردة ًعمن حولها، تتلمّس أصابعها بيقين المؤمن أن غيمة ً انهمرت وأن حدائق أينعت, لكن صوت طفلها قاطع شرودها
- أمي عندنا حفظ نشيد
- حسنا ًآرا  هات ِ كتابك
كانت مطأطأةً تخبئ نفسها بين سطور الكتاب كي لا يشعر طفلها الذَّكي بما يعتريها
- كرّرْ ورائي
 أحلى لغةٍ عندي لغتي
أهواها جدّا ً يا أبتي
وكانت تنتظر صوت صغيرها ليغطّي على عويل روحها، لكنّ الصّمت كان سيّد الموقف، رفعت رأسها إليه: آرا...؟! 
لكنّ الصغير المتخابث ابتسم لها بشيطنته المعهودة: 
لن أقولها! دعي حيدر يقولها! 
- حيدر؟!
ردّ عليها بإيماءة ٍ ذكية من عينيه
- نعم هي لغته هو... وأنا لن أقولها إلّا إذا كتبوها لي بـلغتي !
يا لصغيرها...
هو وحده يجعلها تضحك من القلب
 ضمّته وقبّلته وضمّهما اللّيل مع الآخرين إلى عرش صمته في راحةٍ مؤقَّتة
لكنَّ شيئاً ما سرى بين كريّات دمها الحمراء والبيضاء، ليملأ جسدها بالدفء بعد ما عانته من برد وحيرة
 وفي الصّباح أرسلت الولدين إلى المدرسة وراحت بنهم تفتح آلة البيانو القديمة المليئة بالغبار, لتنشر من جديد دبيب ملائكة عشر فوق سطور الصباح، الذي جاء هذه المرة
مشرقاً دافئا ً وطيب القلب، أو على الأقل هذا ما شعرتْ به، وهي تتخذ قرارها في التحضير لحفلةٍ موسيقية .......... قادمة!
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads