الرئيسية » , » بثينة العيسى: حياتي تبدأ وتنتهي في المكتبة.

بثينة العيسى: حياتي تبدأ وتنتهي في المكتبة.

Written By Nova on الجمعة، 15 فبراير 2019 | فبراير 15, 2019

أنا كاتبة، ولكنني أيضًا بائعة كتب. إنّ حياتي تبدأ وتنتهي في المكتبة، وكل شيءٍ أفعله تقريبًا يتعلق بالكتب؛ كتابتها، قراءتها، والتبشير بالجيّد منها. نعم، أنا أبشّر بالكتب التي أحبها، وأريد لعدوى القراءة أن تنتشر وتملأ العالم. إنني لا أتساءل كثيرًا عن الجدوى؛ لو أن كلّ إنسان في بلادي قرأ كتبًا جيدة، هل سنتحرر من الفساد؟ من التعصّب؟ من العنصرية؟ هل سيتغيّر أي شيء؟ لم أعد مشغولة بأسئلة من هذا النوع، إنني أبشّر بالجمال كمن يبشّر بولادة عشبةٍ عنيدة تجرح الجدار، وفي مدينتي إسمنتٌ كثير. إنها صفراء، ورمادية، ثمّ يبدأ البحر. أنا أحبُّ البحر، ولكن الإسمنت يجفف دمي. إنني أحلم بأن تتحوّل الصحراء الإسمنتية إلى حديقة، ولكنني أكتفي بالعشبة، إذ ينبغي علينا أن نكون واقعيين.

أن تكون بائع كتب، في مكتبة انتقائية، تنتخب النصوص وتختبرها قبل تحويلها إلى منتجات قابلة للبيع. مكتبة متخصصة في بيع الكتب التي لا يقرأها إلا القلة. فهذا ليس بالأمر السهل. ليس الأمر أننا مكتبة للنخبة. على العكس، ما نحاول فعله هو اختراقُ الشارع وفرض الكتاب الجيّد وسط عالمٍ من الهراء المطبوع. نتصدى للكتابة الجاهزة، الميكانيكية، للوصفات المعلّبة والأنماط المكرّسة. نبحث عن كتبٍ لا تختزل العالم، بل تضيئه.

إن عملي يتطلب مني أن أقوم بأشياء كثيرة، أكثر من بيع الكتب. تصميم موسم ثقافي طوال السنة؛ بلا عُطل، بلا استراحات. نحنُ نقدم المحاضرات في رمضان، وفي عطلة الصيف عندما تكون المدينة فارغة تقريبًا. نفعل ذلك من أجل الذين بقوا. ولأننا نؤمن بأن الثقافة هي أسلوب حياة، وهذا الأسلوب لا يمكن أن يكون موسميًا بأيّ شكل.

كيف تتغير مدينتي كلّ يوم؟ إنني لا أعرف، ولكنني أعتقدُ بأن ما أقوم به هو جزءٌ من التغيير. البحث عن المؤثرين، والملهمين، أصحاب التجارب، الباحثين في الأفكار، وتوفير منصّة لهم، ليشاركونا قصصهم ونصبح أكثر حكمة. شيءٌ قد يجعل المتلقي راغبًا بأن يعرف أكثر عن الأمر، وربما ينتابه الفضول بشأن قراءة كتاب.

أشعر أحيانًا بأنني أعيش في مدينة عالقة في ماضيها. كويتُ الماضي. هكذا يسمونها مؤخرًا. بالمقارنة مع كل ما يحدث في الخليج، تبدو مدينة عالقة فعلًا، ولكنها مع ذلك تتنفس من خلال المشاريع الأهلية، وجهود القطاع الخاص. نحاولُ أن نغيّر الأشياء الخاطئة؛ الرقابة، الانغلاق، التعصب الديني. إنها وحوشٌ أسطورية بملايين الرؤوس، ولكننا نتصدى لها كل يوم بالقوة الناعمة للسؤال، والفكرة، والكلمة.

إن يومًا نموذجيًا من حياتي سيكون كالآتي. مثل كل الأمهات، سأودع أطفالي ليذهبوا إلى المدرسة. ثم أذهب إلى المكتبة، وأبدأ في تصفح الكتب، تلمّسها، قراءتها، وأتساءل عن طريقةٍ ستجعل الناس ترغب بتبنّي هذا الكتاب، وأخذه معهم إلى بيوتهم، إلى أسرّتهم وحقائبهم الصغيرة. بعد سنواتٍ من العمل أصبح لديّ يقينٌ بأن الكتب حية. إنها لا تُشترى، بل يتم تبنّيها، ونحن نحاول تسهيل العملية فحسب.

أمضي يومي وأنا أتساءل ما الذي يمكنني أن أفعله لكي أجعل العالم مكانًا أفضل. أضع جدولًا للمحاضرين، قرّاء قصص الأطفال، ورش عمل لتعليم الكتابة الإبداعية وفنون أخرى؛ الخط، التصوير، الموسيقى. إنني أحاول أن أجعل الفن يتنفّس مرتاحًا في مكانٍ لا يشبه الحدائق. ثم أتساءل ماذا سيحدث.

لا أحد يعرف ماذا سيحدث.

مؤخرًا، أصبح تأثير الكتب يخيفني. عندما تزورني مجموعة من الأيتام لأقرأ لهم قصة، أبحث عن قصة بلا أم، ولا أب. لأنني أعرف بأن الكتب يمكن أن تجرح، بقدر ما يمكن أن تداوي.

قبل أيام، أهدتني زائرة للمكتبة كتابًا مصورًا يتضمن قصائد للأطفال. كتاب جميل جدًا. ولما سألتها عن اسمها قالت؛ بدون اسم. كانت مغطاة بالسواد بالكامِل، ولم أرَ وجهها.

بعد شهرين أو ثلاثة، كانت هناك أمامي، تبتسم، وكنتُ أرى وجهها المبتسم وثيابها الجميلة. قالت بأنها غادرت بيت والدِها، وأنها أجّرت شقة تخصّها، وأنها سعيدة. قالت بأنها ما كان يمكن أن تجرؤ على ثورتها الناعمة هذه لو أنها لم تقرأ.

إن هذا النوع من التغيير هو شيءٌ أتلمّسه يوميًا. قصصٌ أسمعها وأعيشها. لقد نصّبتني المكتبة شاهدة على عشرات القصص من هذا النوع، لذا.. أظنُّ بأننا نتغيّر. النساء أكثر شجاعة. اللغة الحقوقية أنضج. الخوفُ من التغيير ينحسر، نولد من جديد ونصبح شخصًا آخر.

أنا نفسي كنتُ أشخاصًا آخرين، الكثير منهم، ولكنني ولدتُ مرارًا وكبرتُ كثيرًا. وأحاول أن أستثمر يومي في الإنصاتِ إلى أكبر قدرٍ ممكن من الأصوات. آخذ هذه الأصوات في داخلي، لأنها تجعلني أكثر حكمة، وهذا هو مغزى كل حكاية. الحكايات في كل مكان، ونحنُ نحتاج أن ننصت. أن نتعلّم كيف نجعل الحياة تخضرّ وسط الإسمنت، في عالمٍ تتكاثر فيه المجمعات التجارية بسرعة تكاثر البكتيريا. إنها تغزو الفضاءات وتستحوذ على المكان كله وتحوّلنا من أفراد إلى مستهلكين.

إنها معركة كبيرة، ولكنني أعمل على تفتيتِها إلى أيام، أو ساعات. معارك صغيرة ويومية. كل يوم تصمد فيه المكتبة؛ ليس فقط أمام طوفان الحياة الاستهلاكية، بل أمام تعسّف اللوائح والقوانين التي تبدو لي، دائمًا، الخصم الأكثر شراسة للكتب. منعت وزارة الإعلام في السنة الماضية فقط ما يزيد عن خمسة آلاف كتاب. كل ما يتعارض مع المقرر الأيديولوجي للدولة يمكن تجريمه. إن فهمنا لله، ورؤيتنا للوطن، يجب أن يتطابقا بالكامل مع تلك التشريعات، والعلاقات الإنسانية بكل تعقيداتها، موضوعات مغرية لمقص الرقيب. وعليهِ، ليس عليك فقط أن تبيع كتبًا غير مصممة لاقتصاديات الحجم الكبير، ولا تتسق مع المنطق الاستهلاكي، بل عليك أصلا أن تنجو من تلك القوانين، لأنها يمكن أن تتسبب بإفلاسك، وسجنك أحيانًا.

ومع ذلك نحنُ نحارب. نعقد اجتماعات مع السياسيين، نلجأ إلى القضاء، نتظاهر للمطالبة بفسح الكتب، ولم يحدث أي تقدم على هذا الصعيد منذ سنوات، بل مزيد من التراجع. ولكن.. كما قلتُ، أحيانًا تكفيني العُشبة.

كثيرًا ما أشعر بأنني أعيش في بلدٍ مختطف من قبل الأجندات السياسية. برلمان يضخ المزيد من المتعصّبين ممن يستهدفون الحياة الخاصة للأفراد عوضًا عن الاختلاسات، والفساد، وتحقيق التنمية والرخاء. الشعب اختارهم، لذا لا أستطيع أن أتذمّر! إنني مصرّةٌ على الديموقراطية، رغم أن البعض منا قد كفر بها، وكأنها مصدر كل الشرور. أقولُ، أنا مع الديموقراطية، ولكنني أجد نفسي مثل كثيرين، متأثرة بمعارك التيارات المتشددة والحكومة. لعبة شد الحبل التي يذهب ضحيتها الكتاب، والمسرح، والفيلم، وكما أزعم؛ حق البشر في الاختلاف. إننا نعيش وسط فاشية جديدة؛ فاشية التشابه. القلق بألا تكون ابن المنظومة؛ الترس الصالح في الآلة العملاقة التي هي الدولة. إن الاشتباك بين الاجتماعي والسياسي في بلدي وثيق. وما يحدث في المنطقة المحيطة؛ العراق، سوريا، اليمن، وفلسطين.. إنّ كل الألم الذي يسيلُ على جلدِ العالم في لحظةٍ واحدة يصبُّ في حيواتنا اليومية الخاصة من خلال قنوات التواصل الاجتماعي. نعيش محاصرين بأخبار القتل والحرب والاعتقالات، شيء يجعلك تشعر بالتفاهة أحيانًا، لأن كل ما تريده هو أن يقرأ شخصٌ آخر كتابًا تحبه، وأن يلمسه هذا الكتاب في أعماقه، ويجعله يرى أكثر. أحلامي تبدو ترفًا بالمقارنة مع الواقع.

ثمَّ أقود سيارتي في المدينة وأعثر على ما يشبه الخلايا المقاوِمة. معرض فني بين محلات الحدادة. سردابٌ في عمارة مهجورة للقاء الفنانين. سقفُ بناءٍ قديم تحوّل إلى سينما مفتوحة لعرض الأفلام. أشياء تبهجني.

ولكن المشكلة أعمق مما نظن. القطيعة بين الأجيال؛ غياب الموروث الشعبي بالكامل، تغريب الذائقة، الدور الذي كانت تقوم به النساء من خلال رواية القصص حول مواقد الطبخ. كل هذا انتهى مع الأسرة النووية، والانتقال من البادية إلى المدينة، مع ظهور النفط. إن إرثنا الثقافي يتبدد بسبب الصمت الذي يكبر بين الأزقة والشوارع، وتحوّلنا من أسرة كبيرة إلى ملايين الأسر الصغيرة التي لا يعرف بعضها الآخر. الجيران غرباء، والغريب مشبوه. إن أبوابنا موصدة ونحن ما عدنا نملك ترف الإنصات. لقد ضاع الكثير منا في المدينة، ولعلها سيرة أي مدينة. يقولون بأنه لا يمكن أن تولد مدينة إلا على أشلاء. أشلاؤنا كانت قصصنا. لقد أضعناها. وفي التخطيط العمراني للمناطق هنا، لا تجد مراكز اجتماعية، يلتقي فيها الناس ويشاركون قصصهم ويساعدون بعضهم بعضًا. إنها مفقودة بالكامل حتى صرنا نشعر بالتفتّت. وأعتقد بأن المشاريع الثقافية الأهلية باتت تعي أهمية تكوين مجتمع، إن استمرارية العمل الثقافي مرهون باستمرارية الطقس القديم للنساء اللواتي يتشاركن القصص حول الموقد، ولكن علينا أن نعثر على أدوات جديدة.

لذا، عندما أجد معرضًا فنيًا بين محلات الحدادة، سينما مخفية في سطح، أو ملتقى فنانين في سرداب، أو مشروع صغير لتعليم الفتيات الباليه، أو فرقة مسرحية تطوعية تقتحم المجمعات التجارية لتقدم عرضًا ما.. أشعر بأنني أمام مشاريع مقاومة ضد زحف الإسمنت على قلوبنا. ليس فقط لأنها تنبثق من نزعتنا الفنية، بل لأنها تشكّل مجتمعات، إنها تستقطب “الفتيت المبعثر” وتحوّله إلى مأدبة.

مؤخرًا، كنا نتساءل أنا وأصدقائي في المكتبة عن رؤيتنا. الرؤية بالمعنى الإداري الذي درسناه في كلية إدارة الأعمال. أخبرتهم بأن ما أحلم به هو كتابٌ على كل رف، في كل حقيبة، وعلى سطح كل منضدة، ولكن هذا ليس هدفًا بذاتِه. إن ما نريد تحقيقه هو عملية تحوّل ثقافي اجتماعي، لأننا متعبون من العيش في عالمٍ يشبه المجمع التجاري الضخم، بتلك الماركات الباهظة التي صنعها أطفال في الهند وأندونيسيا براتب دولار في الشهر. العيش في مجتمع لا يشعرُ فيه المرء بقيمته ذاتيًا، ويضطر إلى استعارة تلك القيمة من حقيبة جلدية. يشتري تلك الحقيبة، ثم يغادر المجمع التجاري ليرى أطفالًا يبيعون البطيخ والرمان تحت درجة حرارة تناهز الخمسين مئوية. أحد هذا الأطفال أعرفه، اسمه أيمن، إنه طفل سوري، شرّدته الحرب، وكان يرتجفُ تحت الشمس.

قررنا أن نبدأ عملنا على ضوء رؤية جديدة لا يكون العمل الثقافي فيها أمرًا معزولًا عن العمل المجتمعي. أقمنا ماراثون قراءة خيري، ومقابل كل صفحة تُقرأ وجدنا رعاةً يتبرعون لتعليم الأطفال المعسرين. في ذلك اليوم، جاء إلى المكتبة قرابة الـ 500 شخص، وتم التبرع بما يناهز العشرة آلاف دولار. في ذلك اليوم، كنتُ أنظر بخشوعٍ إلى ذلك الطقس، عشرات الأشخاص يجتمعون معًا في مكان واحد، يجلسون على العتبات، في الممرات، على الأرضيات الرخامية، يحدقون في الصفحات بهدوءٍ لكيلا يخدش أي منهم سكينة الآخر. كان طقسًا روحانيًا يخطف القلب، وكان يخبرني بأن التغيير ليس مستحيلًا، إنه قرار نتخذه كل يوم ونتصرّف على أساسه.

نصنع المجتمع، نتساءل عن الأسئلة الكبرى؛ الله، السلطة، الجمال، الحب، العدل، الوجود.. ثم نذهب أصغر، أصغر بكثير، إلى مشكلة واحدة صغيرة، ونبتكر لها حلولًا. نأخذ زمام المبادرة ونغيّر حيوات بعض الأطفال، نأخذهم من الشارع إلى المدرسة، نمنحهم مستقبلًا. ثم يصبح العالم أجمل. عشبة أخرى تجرح الجدار وتنبت خضراء.

إن التغيير ممكن أحيانًا، دون حكومة، ولا برلمان. مجرد مجتمع يحاول حل مشاكله ذاتيًا.

تبدو المكتبة مثل مكانٍ كبير جدًا وأنا أسرد حكاياها، ولكن الحقيقة أنها صغيرة جدًا، مثل مغارة علي بابا، تأخذني إلى أعماقها كل يوم وتهمس بأذني. جوزيف كامبل ذكر في كتابه “البطل بألف وجه” عن شيءٍ اسمه سرّة العالم. مثل بطن الحوت الذي ابتلع النبيّ يونس. إنه مكانٌ باطني يأخذك إلى معرفة لم تحسب حسابها. والمكتبة هي سرّة عالمي أنا. إنها تجعلني أحلم على نحوٍ أفضل. أكف عن التذمّر، وأبتهج لانتصار صغير جدًا، لأن الحياة جميلة رغم كل شيء.

ثم ينتهي العمل، ومثل كل الأمهات، عليّ أن أضع الغداء لأطفالي، وأشرف على دروسهم. ثم أخصص الوقت الباقي للكتابةِ، لأصنع قصة يمكن أن تجعلنا نفهم العالم أكثر، لكي نلملم الفتيت ونصنع المأدبة.



المصدر موقع تكوين
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads