الرئيسية » , » بيت "الخصّار" | محمد عيد إبراهيم

بيت "الخصّار" | محمد عيد إبراهيم

Written By Gpp on الثلاثاء، 5 ديسمبر 2017 | ديسمبر 05, 2017

بيت "الخصّار"

محمد عيد إبراهيم

(سنرفعُ أصواتنا بألحانٍ تجعل الجدران تبكي/ ثم تبتسم/ وإذا لم يسمع صراحنا أحدٌ/ سألملم عصاي/ وأكنس من على الأرضِ أوهامي/ ثم أمضي)، هكذا يكتب الشاعر المغربيّ "عبد الرحيم الخصّار" بيانه في قصيدة (الساحر)، بديوانه البديع (بيت بعيد)، 127 صفحة، الصادر في هيئة الكتاب المصرية، حيث يضع بكل قلبٍ مِزهرية، ويربّت على الجفون التي أغمضها اليأس، فيمشي المتسوّل جنب الملك، وبدل المسدّس ــ سيمنح الجنرال المدجّج بالرعب ــ ريشةً، ثم يُبدل كل لغمٍ دالية. 
يشتمل الديوان على سبعِ قصائدَ، تتراوح في الطول، كلها تدور حول رؤية إنسانية لا تعرف حقداً على أحد، وإن عرفته فلكي تفكّ شفرته وتُحيله إلى النقيض، يزرع الوهم في الإصيص، وترتاح جوارحه للساعات المعطلة، حيث تنتحب الذكريات، لا يبحث في الطرقات عن الحبّ، بل يجلس كعجوزٍ مخذولٍ، موصداً الأبوابَ، يقول: (إذا كان الحبّ المجنّح سيأتي، فالنافذة لا تزال مفتوحةً)، ثم يصغي إلى نحيب الكتب، وكفكرةٍ قديمة تُستعاد، يحتمي بوداعته، لكأنه الوحيد الذي سيغمره التراب. 
في قصيدة (عازف كمان مخمور)، عالِم أعصاب يغلق عيادته، ويخرج ليدرّب الفيلة على الموسيقى، بمزاجه تتصادم قواربُ ضيعت دليلها إلى اليابسة، لم يكن قرصاناً، لكنه كان يعشق القراصنة، هو الحكيم الطائش، والمؤمن المرتاب، هو الجوهرة في تاج الملك، بل الملك نفسه، وهو الصرّار الذي يكره الملك، عازف الكمان هو يستعيد اللحن مرات، ثم يغادر القاعة ويهيم في الطرقات، ويملأ مسامعَه أنينُ الأوتار، كلما اشتدّ اللحن يشتدّ الظلام، فيحسّ برمشه كالجبل، ويسحبّ قوساً كمن يسبل جفنَ ميتٍ، حتى يحفن حبات رملٍ، مثل (رجلٍ يموتُ، رافضاً أن يموتَ). 
أما سيرته الشعرية ففي قصيدة (أزرع شتاتي في بستان)، حيث يحلو بالخريف التفكير في الجنة، تصل سفينةٌ، وتلوّح يدٌ، يؤلمه أن أحلام الليل لا تصل النهارَ، وكأنه يخطب ودّ القصيدة، فيقول: (ماذا لو هجم الوردُ، وصار العالم برمته مجرد حديقة؟)، يرى طائراً يرفرف بين أنحائه، قد فقد ريشه حين أصابه العقل، فسقط في الغدران، يعدو واثباً متوهماً أنه ضفدع، لذلك لم يعد يحلم إلا بطيور تغرد، من دون عقل ولا أفكار، وقد أحاله الشعرُ عاشقاً فاشلاً يرتعد أمام حبيبته الخائنة، كمن يحتضن صندوقاً خاوياً وفي باله أنه مليء بالذهب، هو الشاعر كاللص يسطو على الكلمات، يفتح كتابه الأخير بدلاً من كتابه الأول، يردّد وكأنه في دراما إغريقية بائدة: (كيف أصل وأنا الحلزون الذي حوله ألف قوقعة؟)
في القصيدتين الأخيرتين (طيران حر/ سوف تنجو) ثمة تكرار لتقنية قصائد الهايكو، نرى بها روحاً شفيفة عن حق، لكنها لا تعلو بك كما علوت معه في باقي قصائد الديوان السالفة، ربما تحلّل بها من العالم الكثيف الذي دار فيه حتى وصلنا معه إلى درجة نرفانا عالية، ربما وصل العاشق/ الشاعر/ القرصان/ العابر المهزوم/ مربّي الأفاعي/ مدرّب الطير على التغريد بلا عقل والفيلة على الموسيقى بلا رقص، وصل إلى نهايته، فلم يعد عنده من شبق بكلمات تعجّله بالغرق، ولسوف ينجو لكن إلى العراء والعطش. 
في ديوان (بيت بعيد)، تراوح بين تقنيتَي قصيدة النثر: على شكل الفِقرة، وعلى شكل الشعر الحرّ، في التقنية الأولى روح ما بعد حداثية، تلقف القارئ ليحطّ في عالم باهر ساخر مجازه أبسط يعتمد غالباً على التشبيه أكثر من الاستعارة، وفي التقنية الثانية روح حداثية، تعتمد أكثر من التشبيه على الاستعارة، لكنه في الحالتين شعر صافٍ، شعر بروح وثّابة حتى والشاعر يموت، شعرٌ كالرعب في منام طفل، شعر كله حنان، مع أنه يعلم، في النهاية، حتماً، أنه سيسقط في حقل صبّار. 


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads