الرئيسية » , » ريتشارد هوغو: في الدفاع عن صفوف الكتابة الإبداعية (4/4) | ترجمة: رنين منصور

ريتشارد هوغو: في الدفاع عن صفوف الكتابة الإبداعية (4/4) | ترجمة: رنين منصور

Written By تروس on السبت، 4 يونيو 2016 | يونيو 04, 2016

ريتشارد هوغو: في الدفاع عن صفوف الكتابة الإبداعية (4/4)
ترجمة: رنين منصور

أعتقد بأن الكاتب يكوّن خبرته التي يحتاجها من أجل إرضاء دوافعه للكتابة.

بصرف النظر عن انتقاداتي الموجهة ضد بعض الأكاديميين، فلدي من الخبرة ما يجعلني أعي أن التعليم كوسيلة لتطوير النفس لا يزال نموذجا مبالغ فيه. لا يغفر الأكاديميون الأخطاء البشرية. ننال نحن – مدرسي الكتابة الإبداعية – نصيبنا على الأقل. وبشكل شخصي، لست في موضع ينتقد نقاط ضعف الآخرين. لا بد أن نتعايش مع بعض الأمور. ربما لا يوجد عدد كاف من الأشخاص الجيدين حولنا، ومعظم الناس لا يتقنون ما يفعلونه. قد يندر وجود المدرس الممتاز  مثل ندرة العثور على ميكانيكي سيارات ممتاز. قد لا يجذب نظام الدكتوراه عددا كافيا من الأشخاص الجيدين، ولكن يشير نظام رسالة الماجستير في الفنون الجميلة فيما يتعلق بالكتابة الإبداعية إلى بعض أوجه القصور أيضا.

   أحد العيوب الفاضحة في هذا النظام هو أنه يعيّن أشخاصا في مناصب التدريس لم يبرهنوا على أن دافعهم للكتابة حقيقي ودائم. ومن السهل جدًا أن يجتاز أحدهم الاختبارات في الجامعة والتي تجعل منه كاتبا. أشيد بجميع خريجي طلبة الماجستير في الفنون الجميلة والذين يظلون في منأى عن المؤسسات التعليمية لمدة عشر سنوات على الأقل قبل تعيينهم في مناصب التدريس. وهذا اقتراح جائر، حيث يضغط على الوضع الاقتصادي في سبيل بناء العمل. ليتحقق ذلك بلطف، يجب على المدارس أن تحسب هذه العشر سنوات من مدة العمل، وأن تعيّن الكاتب كأستاذ مشارك ولكن دون تثبيت إلى أن يبرهن الكاتب على قدرته على تدريس الكتابة الإبداعية. وبهذه الطريقة، سيكون الكاتب قد نشر أعماله مسبقا ويستمر في ذلك بعدها. الكتابة قابلة للنقد، وللنشر من عدمه، ويكون الكاتب قد برهن على ما لديه من دافع قوي للكتابة. قد يخسر أحدهم الوظيفة أو يحافظ عليها بناء على قدرته على التدريس. غالبًا ما يكتب وينشر معلمو الكتابة الإبداعية لأن هذا هو دورهم وهذا هو ما يجب عليهم فعله حتى يحافظوا على وظيفتهم.  متى ما حصلوا على عقد دائم فإنهم سيتوقفون عن الكتابة. إننا نخلد أنفسنا والنظام معا.

   قد يتخطى أحدهم هذه الفكرة ويقول: نعم، ومن ثم يجبر الكاتب أو الكاتبة على الخضوع تحت إمرة الخبرة في الخارج. الخبرة خارج نطاق الجامعة هو ما يحتاجه الكاتب، ولكن لدي بعض الشكوك. أعتقد بأن الكاتب يكوّن خبرته التي يحتاجها من أجل إرضاء دوافعه للكتابة. الطبيعي والشاذ في كل مكان، والمناظر الطبيعية لا تفنى. بالنسبة للكاتب، فإنها حالة يتم استقبالها والاستجابة إليها وتحويلها وملاءمتها. يفعل الكاتب ذلك في أي مكان.

   يوجد في برنامج الكتابة الخاص بالخريجين بعض المشاكل الخطيرة. أحدها هو كيف نطلق أحكامنا على الطلبة حتى نقرر قبولهم في البرنامج. أعتقد أن (ييتس) كان محقا حين أشار إلى أن ما يحصل عليه الشاعر السيء بسهولة يحصل عليه الشاعر الجيد بصعوبة بالغة. إننا نتقبل أولئك الأشخاص الذين نراهم أفضل الكتاب على الإطلاق، إلا أننا قد نتقبل أولئك الكتّاب الذين استوعبوا الآلية بسرعة، حيث لم يشعر هؤلاء بهاجس يجده الكاتب الجيد أمرا طبيعيا.

   خلال أربعين سنة، قد يتحول شاعرا مشهورا إلى شخص مرفوض من قبل برامج الكتابة المخصصة للخريجين. لا أجد مبررًا لذلك. يجب علينا أن نمعن النظر في نماذج الكتابة المرسلة. من الصعب تقييم مدى قوة الدافع الذي أدى إلى كتابة نص ما، ولدينا من الحكمة ما يمنعنا من المحاولة. لم يتعلم الكثير من الكتّاب الشباب التقيّد بهواجسهم.

   لا يمكننا تجاهل الدليل الدامغ لصالح صفوف الكتابة الإبداعية. إن أسماء مثل (تينيس ويليامز) و(آرثر ميلر) و(كيرت فونغات) و(فلانيري أوكونر) و(روبرت لويل) و(ثيودور روثك) وغيرهم الكثير تشهد بطريقة أو بأخرى لصالح صفوف الكتابة، ولكن لنفرض جدلا بأن كل الكتّاب الجيدين يفعلون ذلك بكل الأحوال. وربما يجب عليهم فعل ذلك. وإذا كانت متشائمًا جداً في موضوع الكتابة، كيف يكنني تبرير صفوف الكتابة الإبداعية؟ سُئلت عن ذلك منذ عشرات السنين أو أكثر أمام جمهور كبير، ولا يزال جوابي كما هو: لا أستطيع التبرير. استلمت نقودي فقط. دعني أرفع من شأن السؤال هذه المرة بإضافة بعض الإجابات ذات الأهمية نفسها.

   يمكن لمدرس الكتابة الإبداعية الجيد أن ينقذ كاتبًا جيدًا في مراتٍ كثيرةٍ. الكتابة أمرٌ شاق، وقد نسلك الكثير من الطرق الخاطئة. إذا كنا نؤدي عملنا، فإن مدرسي الكتابة الإبداعية يؤدون وظيفةً سلبيةً أساسية. وإذا كنا مدرّسين جيدين، يجب علينا أن نعلّم الكاتب الطرق التي يمكن اتباعها لأداء ذلك لنفسه طيلة حياته المهنية. نعلّم الآخرين كيفية عدم الكتابة ونعلّم الكتاب أن يعلموا أنفسهم كيفية عدم الكتابة. عندما نعلّم الآخرين كيفية الكتابة، فإن الطالب لديه الأفضل دائما على أهبة الاستعداد.


الكتابة أمرٌ شاق، وقد نسلك الكثير من الطرق الخاطئة.

   ماذا عن الطالب السيء؟ من هو الذي لن يكتب بغزارة أبدًا؟ من الممكن أن يحصل المدرس على قصيدة أو قصة واحدة من ذلك الطالب والتي تعتبر بعيدة جدا عما ننشده من الطالب. قد لا تكون لها أهمية بالنسبة لعالم الثقافة الرفيعة، إلا أنها قد تكون مهمة بالنسبة لهذا الطالب. إنها شيء صغير، ولكن من السذاجة والخطأ أيضا أن نغفل عن أو نتجاهل الحياة التي تتضمن لحظة قصيرة جدا من الانتصار على المستوى الشخصي. مجرد أن يصطدم طفل ذات مرة بمنزل بينما هو يجري أثناء اللعب في منطقة رملية مظلمة. ربما تسخر من عاطفته في ذلك اليوم التي دفعته للاحتياج إلى تلك اللحظة في حياة مملة جدا، ولكن اغرب عن وجهي من فضلك. الحجة الأفضل فيما يتعلق بصف الكتابة الإبداعية هي تلك الحجة التي تعلمتها منذ زمن طويل، في المدرسة الثانوية في عام 1940. لم أكن أدرك أنني تعلمتها إلا مؤخرا منذ سنوات قليلة، ولكنني بطيء جدا في تعلم الدروس المهمة. ضمّت المدرسة الثانوية في غرب منطقة (ستايل) الطبقة الوسطى من الناس. ساهم بعض أبناء المزارعين اليابانيين وبعضنا الآخر من )يانغستاون) و(وايت سنتر) في الحفاظ على ما أفضّل التفكير فيه بتعجرف وهو مفهوم حيوية الفلاح. تملك مدرّسة الكتابة الإبداعية (بيل ماكينسي) شعرا أحمر ناريا وأرجل متناسقة ينظر إليها الأولاد من خارج القاعة. وتملك (ماكينسي) مفاهيم واضحة فيما يتعلق بالديموقراطية والمساواة والتي تتطبقها عندما لا يحتد مزاجها. أحد الطلبة ويدعى (هيوز) – على ما أعتقد – انتقل من (أوكلاهوما) إلى غرب منطقة (ستايل). لا بد أن يكون الطالب انتهازيا وعدائيا بشكل غريب حتى تكون له صداقات وسط أولئك المتعجرفين الصغار الذي يتجمعون في المدرسة الثانوية في غرب منطقة (ستايل). أعتقد أن هذا هو أحد المعايير المطلوبة في المدرسة الثانوية. كان (هيوز) خجولا وغريبا، فهو أحد الطلاب الكثيرين الذين يمرون من هنا ويبلغ عددهم ألفان. كما كان منبوذا ووحيدا وربما بائسا. قرأ ذات يوم بصوت عالٍ موضوعا قام بكتابته. كان علينا أن نقرأ كتاباتنا بصوت عالٍ حتى نحصل على الدرجة. كانت قصة حقيقة عن إحدى الليالي التي أخذه فيها بعض الأولاد الكبار إلى أحد بيوت الدعارة. وكان يبلغ الرابعة عشرة من عمره في ذلك الوقت. عبّر صراحةً عن مخاوفه ومحاولاته في التظاهر بالشجاعة والثقة بالنفس أمام الأولاد الكبار. كما عبّر عن هلعه الشديد في النهاية وهروبه بعيدا. لقد استوعبوا القليل بعد انتهائه من القصة. لربما كانت قد تسببت هذه القصة بطرده من معظم صفوف المدرسة. كسرت (ماكينسي) حاجز الصمت بالتصفيق. أبدت إعجابها، وأيقنا وقتها أننا سمعنا عن لحظة خاصة جدا في حياة شخص ما، ومن الأفضل أن نقدر تلك اللحظة. قد يكون الدرس الأكثر أهمية الذي تعلمته في حياتي، وربما الدرس الأكثر أهمية الذي يمكن تعليمه. أنت إنسان تتمتع بحقوقك في هذه الحياة. بسيط جدا؟ لقد كفل الدستور هذا الأمر؟ حاول أن تجد من يعلّم هذا الدرس. حاول أن تجد أحد الطلبة الذي يعرفونه جيدا أو الذين ليسوا بحاجة إلى تأكيده.


إنها جنة لأنها فارغة، مثل صفحة فارغة.

   بعد ثمانية وثلاثين عاما منذ ذلك اليوم في صف (ماكينسي)، رأيت العالم يحدثنا عن الحروب وتطورات الدولة الحقيقية والسياسات السيئة وقرارت المحكمة الغريبة والتي لا قيمة لها في حياتنا. قد يعود ذلك إلى كوننا أناس كثيرين جدا. بناء على فن التصميم المعماري ونموذج التقديم، فإن الحياة العصرية تشير إلى أنه يمكننا أن ننجو بأنفسنا في أفضل الأحوال مع وجود الكثير منّا من خلال تجاهل الهوية والتصرف على أساس انعدام الاختلافات الفردية بيننا. وربّما تكون إدانة الكتّاب الإبداعيين لنرجسية الأكاديميين ليست سوى وسيلة أخيرة للوصول إلى نوع من النجاة بالنفس. على كل حال، مثلما أخبرني أحد المحللين النفسيين الرائعين ذات مرة بفظاظة، من الصعب تجنب النرجسية. عندما يخبروننا بعشرات الوسائل الخدّاعة أن حياتنا لا قيمة لها، فهذا يجبرنا على الإصرار – وغالبا ما يكون بشكل صريح – على أن حياتنا ذات قيمة. قد يكون صف الكتابة الإبداعية أحد آخِر الأمكنة التي يمكن التوجه إليها حيث لا تزال حياتك ذات قيمة. حياتك ذات قيمة، هذا صحيح. هذا كل ما يمكنك الحصول عليه بكل تأكيد، وبدونها تتحول إلى شخص ميت. في هذه الأيام، تصبح الدعابة أقل مرحا أيضا.

   إذا لم يكن الكثير من الناس قادرين على الهروب من حياتهم، فإن الحاجة إلى صفوف الكتابة الإبداعية ستكون أعظم. الاختفاء في ضخامة هذا النظام أمرٌ لا يفقد جاذبيته. أعلم ذلك. لقد درست في جامعات كبيرة، وعملت في شركات ضخمة، ووجدت أن إخفاء الهوية أمرٌ مغرٍ بشكل مذهل. شيء ما يشدّنا بعيدا عن هذا الاختفاء المغري. سمّيها الهاجس وحب الحياة الذي لا يمكن مقاومته، في حال كنت تطيق البلاغة. يولد ذلك من الحقيقة المؤكدة بأننا سنختفي بسرعة قصوى. النسيان ليس بحاجة إلى مساعدة منا. منذ قديم الزمان، يحدّث (جيمس رايت) نفسه ويحدثنا جميعا في أول قصيدة له في كتابه الأول:

كن سعيدا بذاك الجدار العشبي

الذي تسلقته يومًا ما

حين يقرصك الشتاء ببرده

تلك هي الجنة الفارغة

   إنها جنة لأنها فارغة، مثل صفحة فارغة. إنها جنة لأن هذا الفراغ قد وُجِد من أجل أن يمتلأ للحظة، ونحن هنا لنملأ هذا الفراغ. لا تهمّ تلك المبررات التي وُجدت لتبرر يأسنا، إننا لا نزال على قيد الحياة في عالم تقودنا ظروفه إلى تفضيل الموت على الحياة بسبب ما نشعر به من اشمئزاز. حين تعزز اللحظات إدراكنا لأنفسنا وللآخرين سواء في حالة الفرح أو الحزن، لفترة مؤقتة أو دائمة، لا بد من الإلحاح على الفكرة القائلة بأن بعضنا لن ينكر هذه اللحظات أكثر من إنكارنا لحياتنا. عندما ينقل إلينا شيء أو شخص ما شعوره بعدم أهميته، فهذا دليل حي على أنه مهم حقا. تمنحنا صفوف الكتابة الإبداعية فرصة الشعور بالسعادة بسبب ذلك الجدار العشبي.



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads