الرئيسية » , , » روي بيتر كلارك: من أين تبدأ جملتك؟ ترجمة: د. سمر طلبة | مراجعة: بثينة العيسى

روي بيتر كلارك: من أين تبدأ جملتك؟ ترجمة: د. سمر طلبة | مراجعة: بثينة العيسى

Written By تروس on الأحد، 13 مارس 2016 | مارس 13, 2016

روي بيتر كلارك: من أين تبدأ جملتك؟
ترجمة: د. سمر طلبة
مراجعة: بثينة العيسى

اجعل المعني الرئيس يأتي في الصدارة، ثم دع العناصر الأقل أهمية تتبعه

 

تخيل أن كلّ جملة تكتبها تُطبع على أكبر صفحة من الورق في العالم. تخيل هذا. تُكتَب الجملة العربية من اليمين إلى اليسار، فتبدأ بالفعل ثم فاعله في أغلب الأحيان، تليهما العناصر الأقل أهمية، والتي تدعّم المعنى، أو تضيف إليه بشكل أو بآخر.

أنظر على سبيل المثال إلى الجملة التي تنتهي بها الفقرة السابقة. إن أساسها هو “تُكتب الجملة العربية”، وتليه العناصر المكملة للمعنى. وهاك جملة أخري من النوع نفسه، من نص خبر نشرته النيويورك تايمز، يقول:

“سيطر المتمردون على كاب هاييتي، ثاني أكبر مدن هاييتي، يوم الأحد، دون مقاومة تُذكر من المواطنين الذين احتشد المئات منهم وأخذوا يهتفون، كما قاموا بحرق قسم الشرطة ونهب المحال التجارية التي تبيع المواد الغذائية والمطار الذي سرعان ما تم إغلاقه .وأسرع رجال الشرطة ومؤيدو الرئيس أرستيد المسلحون بالهرب.”

تتكوّن الجملة الأولى من تسع وثلاثين كلمة، وهي تعج بالأحداث حتى لتوشك أجزاؤها على التفكك والتطاير هنا وهناك مثل محرك زادت حرارته فانفجر، لكن الكاتب يرشد القارئ بوضع الجزء الأكبر من المعنى المراد توصيله في أول كلمتين، وهما “سيطر المتمردون”، اللتين تشكّلان معًا صلب الجملة ونواتها الأساسية.

أريد منك أن تنظر إلى النواة الأساسية للجملة باعتبارها القاطرة التي تجر باقي عربات القطار.

ولكبار الكتاب القدرة علي كتابة الصفحة تلو الأخرى، معتمدين علي هذه البنية النحوية سالفة الذكر. اقرأ معي تلك الفقرة التي نترجمها من رواية الكاتب الأمريكي الشهير جون شتاينبك” شارع السردين المعلب” والتي يصف فيها الروتين اليومي لعالم من علماء البحار يُدعى دوك (وقد أضفنا الخطوط تحت الأجزاء المراد التركيز عليها):

“يعمل دوك وفقًا لإيقاع المدّ والجزر طوال حياته العملية تقريبًا، حتى أنه كان يشعر بتغير اتجاه التيار أثناء يومه. لم يكن يحتاج إلى ساعة. في الفجر كان يستيقظ وينظر من النافذة فيرى الماء وقد بدأ بالفعل ينحسر عن أرض الشاطئ الصخرية المسطحة. يشرب دوك بعض القهوة الساخنة عندئذ، ويأكل ثلاث شطائر ثم يحتسي شيئًا من الجعة.

ينحسر المد على نحوٍ يكاد يكون غير ملحوظ. تظهر الصخور وتبدو وكأنها ترتفع، وتتراجع مياه المحيط فلا تترك سوى برك صغيرة، وأعشاب جافة وطحالب وبعض الأسفنج جميعها ذات ألوان زاهية براقة بنية وزرقاء وحمراء صينية. أما في القيعان فترقد نفايات البحر، من بقايا قواقع وأصداف مهشمة وقطع من هياكل عظمية ومخالب، جاعلةً من قاع المحيط مقبرة عجيبة، تلهو وتتأرجح فوقها الكائنات الحية المختلفة”.

نرى هنا أن شتاينبك يضع صلب جمله، أو أنويتها الرئيسة، في بداية كل جملة، أو قرب البداية، ونري أن الفقرة تتسم، نتيجة ً لذلك، بالوضوح والتدفق السردي؛ إذ كل جملة مبنية على سابقتها. وهو يتجنب الرتابة والنمطية بافتتاح بعض جملهِ بأشباه الجمل كما في الجملة الثالثة التي يبدأها بشبه الجملة الدال علي الزمان “في الفجر”، وكذلك بتنويع أطوال جمله، والتنويع في أطوال الجمل أداة من أدوات الكتابة سنتناولها لاحقًا.

وتتيح اللغة العربية لمستخدميها مزية لا تتاح لمتحدث الإنجليزية أو مستخدمها؛ إذ يمكنه الاختيار بين الجملة الفعلية سالفة الذكر (وهي الأكثر شيوعًا في العربية) والجملة الإسمية. لكن استخدام الجملة الإسمية يخلق مشكلة حين نُضطر إلى فصل المبتدأ عن خبره، حين نريد أن نقول للقارئ شيئا ما عن المبتدأ قبل أن نصل إلى خبر الجملة.

ورغم أن تأخر الخبر على هذا النحو يكون غالبًا له أسبابه المنطقية، إلا أنه قد يؤدي إلى تشتيت القارئ وإرباكه. لكن، إذا ما توخينا الحرص، فإننا ننجح في أداء مهمتنا وتجنب التشتت والارتباك:

“قصص طفولتي – أو ما عاش وبقي من قصص طفولتي: أعني القصص التي ظلت تُحكى، المرة تلو الأخرى، على مائدة العشاء للشبان الذين كنت أواعدهم، بينما أنا جالسة أصغي وقد احمر وجهي خجلا، ثم لأطفالي بواسطة جدهم – هي قصص هروبي من المنزل.”

هكذا تبدأ آنا كويندلن مذكراتها المسماة “كيف غيّرتْ القراءة حياتي”. هنا نجد جملة الافتتاحية وقد فُصل بين المبتدأ والخبر فيها ثلاث وثلاثون كلمة. أما إذا ما كان النص نصًّا متخصّصًا في مجال علمي أو عملي معين، لا نصا أدبيا، فإن الفصل بين جزئي الجملة على هذا النحو يكون مشتتًا في العادة، كما في النص التالي:

“إصدار قانون يستثني ضريبة الدخل من القيمة المقدرَة للمنازل الجديدة من ميزانية التعلم يمكن أن يعني خسارة مدارس مقاطعة تشيسابيك لدخلها”.

إن إحدى عشرة كلمة تفصل المبتدأ “إصدار قانون” عن خبره “يمكن”، وهو خطأ فادح من الممكن أن يحول خبرًا هامًّا يمس مصالح المواطنين إلى طلاسم.

ومتي أراد الكاتب خلق جو من الإثارة أو الترقب، أو إحداث توتر، أو جعل القارئ ينتظر وقد أكله الفضول، أو جعل القارئ يشاركه رحلة الاكتشاف، أو جعل القارئ يستمر في القراءة لمعرفة ما سيسفر عنه موقفٌ ما من حياة أو موت، فيجدر به عندئذ أن يدّخر تتمة الجملة إلى النهاية، كما فعلت أنا للتو.

وقد اختارت كيلي بِنام، وهي إحدى طالباتي السابقات، أن تفعل ذلك حين كان مطلوبًا منها أن تكتب مقالا تنعى فيه تيري شيافو، المرأة التي أدّى مرضها الطويل وموتها المثير للجدل إلى نقاشات في الدول المختلفة عن حق إنهاء الحياة:

“قبل اجتماع الناس للصلاة من أجلها أسفل نافذتها، وقبل أن يدق القضاة بمطارقهم مصدرين حكمهم في ستّ محاكم، وقبل أن يصدر الفاتيكان تصريحه، وقبل أن يوقع الرئيس على القانون في منتصف الليل، وقبل أن تنتبه المحكمة العليا لما يحدث، لم تكن تيري شيافو سوى فتاة عادية تربي هرتين بدينتين، وتشغل وظيفة غير مرموقة وتحيا الحياة الأمريكية المعتادة”.

تأخير تتمة الجملة على هذا النحو يبرز التضاد بين العادي (المتمثل في حياة تيري في البداية) وبين الهام الذي يشغل الرأي العام العالمي (أي تحول تيري إلى حديث الساعة بسبب الجدل الذي أثير حول مشروعية إنهاء حياتها بعد موتها إكلينيكيا).

ولا يمكن لهذا التنويع أن يحدث إلا إذا كانت أغلب الجُمل تبدأ بنواة الجملة تليها العناصر الأقل أهمية كما تقدم، فهذا التركيب يضفي على لغة الكتابة دلالة أدبية ويعطيها زخمًا وقوة. انظر مثلا إلى هذه الفقرة من رواية كارول شيلدز المسماة “مذكرات الحجر”:

“الغرفة الرائعة تنهار مخلفةً كتلة صلدة من الظلام. وحده جسدها ينجو، ومشكلة التخلص منه. لم يتحول الجسد إلى تراب. إدراك ساطع واضح مسلٍ أشرق على عقلها وهي تفكر في أطرافها وأعضائها وقد تحولت إلى تراب مقدس أو رماد جنائزي. شيء مضحك”.

وبديع.

• تمّ التصرّف في الترجمة على ضوء متطلبات الجملة العربية وقواعدها. نشرت في آراء. 


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads