الستارة السوداء التي تفصلنا عن الموتى - نيكانور بارا

Written By تروس on الجمعة، 29 يناير 2016 | يناير 29, 2016

الستارة السوداء التي تفصلنا عن الموتى - نيكانور بارا



للشعر التشيلي موقع خاص داخل اللغة الإسبانية وخارجها، تم تكريمه بجائزتي نوبل للآداب: جابرييلا ميسترال عام 1945 وبابلو نيرودا عام 1972. إضافة إلى أسماء أخرى كبيرة كـ “بيثنتي ويدوبرو” أحد كبار مؤسّسي الحداثة الشعرية في أمريكا اللاتينية و“بابلو دي روكا” و“جونثالو روخاس” الحاصل على جائزة ثيربانتس، أرفع جائزة للآداب في الإسبانية، والشاعر والروائي روبرتو بولانيو والشاعر “نيكانور بارا” المولود عام 1914 وصاحب مشروع الشعر المضادّ. أسس نيكانور بارا بقصيدته المضادّة تيارا سرعان ما انتشر بطول أمريكا اللاتينية. القصيدة المضادّة قصيدة مخالفة تنحو ضدّ الشعر بالمعنى السائد. هنا تكفّ الأنا البطولية عن الاشتغال، كما في حالة نيرودا على سبيل المثال، وتحلّ محلّها ذات حديثة، ساخرة ومتهكّمة على وجه الخصوص، قصيدة تتأمّل وتستقصي وتتقلّب بين أشكال شعرية وغير شعرية عدّة مستفيدة من المسرح والسينما والبوب أرت، تتوسّل لغة أقرب إلى لغة المعيش تجاورها مقولات فلسفية وصياغات سوريالية مخفّفة ومفردات قادمة من شتى الحقول العلمية والصناعية والتجارية والدينية والسياسية متضافرة جميعها في نوع من الكوميديا السوداء، مع محافظة على طاقة شعرية لا تكفّ للحظة عن استنطاق اللغة والخروج بها إلى قصيدة تشتغل على كائن يوميّ في تخبّطاته المقيمة. تجدر الإشارة هنا إلى المختارات الوافية التي أعدّها وترجمها أحمد حسان للشاعر نيكانور بارا ونشرت في مجلة “الكتابة الأخرى” عام 1992، وأعيد نشرها في كتاب عن مطبوعات المجلة نفسها عام 2001.
هنا ثلاث قصائد للشاعر لم تترجم من قبل إلى العربية.

الأفعى

خلال أعوام طويلة كان محكوما عليّ بعشق امرأة تافهة
مضحّيا من أجلها، ومعانيا من إذلالات وسخريات لا تحصى،
كنت أعمل ليل نهار كي أطعمها وأكسوها،
نفّذت بعض الجرائم وارتكبت بعض الأخطاء،
وعلى ضوء القمر قمت ببعض السرقات الصغيرة،
وتزييفات لوثائق مثيرة للشبهات،
تحت طائلة الوقوع في قلّة الحيلة أمام عينيها الخلاّبتين.
في ساعات الرضا اعتدنا التوافد على الحدائق العامة 
والتقاط صور معا ونحن نقود زورقا،
أو نذهب إلى مقهى راقص
حيث نسلم أنفسنا لرقص لا يكبح
كان يمتدّ حتى الساعات الأولى من الصباح.
عشت أعواما طويلة سجين فتنة تلك المرأة
والتي اعتادت التواجد في مكتبي عارية تماما
منفّذة تلوّيات من الصعب تخيّلها
بنية أن تلحق روحي المسكينة بمدارها
وخاصة، أن تبتزّني حتى آخر سنتافو.
منعتني بصرامة من إقامة علاقة مع أهلي.
انفضّ عني أصدقائي بفضل أهجيات مشهّرة بي
كانت الأفعي تنشرها في جريدة من ممتلكاتها.
متّقدة حتى الهذيان ما كانت تعطيني لحظة هدنة
مطالبة إيّاي بشكل قاطع أن أقبّل فمها
وأن أجيب دون إبطاء عن أسئلتها البلهاء
الكثير منها عن الخلود والحياة الأخرى
موضوعات كانت تخلق في حالة يرثى لها
دويّا في الأذن، غثيانات متقطعة، إغماءات مبتسرة
كانت تعرف كيفية استغلالها بتلك الروح العملية التي تميزها
مرتدية ملابسها على عجل دون إضاعة وقت
وتهجر مكتبي تاركة إيّاي مبهوتا.
استمرّ هذا الوضع لأكثر من خمس سنوات.
من حين لآخر كنا نسكن معا غرفة مستديرة
ندفع إيجارها بالنصف في حيّ راق قرب المقابر.
(في بعض الليالي كان علينا أن نقطع شهر عسلنا من أجل 
مواجهة الفئران التي كانت تتسّلل من النافذة).
كانت الأفعى تحمل معها دفتر حسابات دقيقا
تدوّن فيه حتّى أقلّ سنتافو اقترضته منها؛
ولم تسمح لي باستعمال فرشاة أسنانها التي أهديتها أنا نفسي لها
وكانت تتّهمني بأنني دمّرت شبابها
ومطلقة من عينيها شررا تستدعيني للمثول أمام القاضي
وأن أدفع لها في مهلة معقولة جزءا من الدين
فهي تحتاج لهذه النقود من أجل إتمام دراستها
حينئذ كان عليّ الخروج إلى الشارع والعيش من إحسان الناس
النوم على المصاطب في الساحات،
حيث كان البوليس يجدني مرات كثيرة محتضرا
بين الأوراق الأولى للخريف.
لحسن الحظ لم يمتدّ ذلك الوضع كثيرا،
لأنه في مرة محدّدة كنت فيها في إحدى الساحات كذلك
متخذا وضعا أمام إحدى الكاميرات الفوتوغرافية 
غشيت عينيّ يدان أنثويتان لذيذتان
بينما صوت محبّب إليّ سألني من أكون.
أنت حبيبتي، أجبت بكلّ صدق.
يا ملاكي! قالت هي بشكل عصبيّ،
اسمح لي أن أجلس على ركبتيك مرّة أخرى.
حينئذ استطعت التنبّه إلى أنها جاءت الآن
مزوّدة بمئزر قصير.
كان لقاء لا ينسى وإن كان مليئا بعلامات متنافرة:
لقد اشتريت قطعة أرض، ليست بعيدة من المذبح، صرخت،
أفكّر أن أبني هناك شيئا كالهرم
حيث يمكننا أن نقضي فيه آخر أيام حياتنا،
لقد أنهيت دراستي، وأصبحت محامية،
وفي متناول يديّ مال كثير؛
لنقم بعمل تجارة مثمرة، نحن الاثنين، يا حبيبي، أضافت،
بعيدا عن العالم سنشيد عشّنا.
تكفي حماقات، رددت، إن خططك تثير ريبتي.
فكري أنه بين لحظة وأخرى يا امرأتي الحقيقية
يمكن أن نسقط في البؤس الأكثر رعبا.
لقد كبر أبنائي بالفعل، والزمن مرّ،
وأنا أشعر بإنهاك عميق، دعيني أستريح للحظة،
أحضري لي بعض الماء، يا امرأة،
وتحصلي لي على قليل من الطعام،
فأنا ميّت من الجوع.
لا يمكنني العمل ثانية من أجلك
كلّ شيء انتهى بيننا.


العجوز الصعب

كان هذا عجوزا صعبا
فاجئوه مرّة يغسل جهاز راديو بصابون ومقشة صغيرة
كان ينكت طماطم في الموائد
اخترع إناء لصنع الزبدة من الفراء
كان يصحو مبكرا ويقول
لديّ ملل. ماذا يمكنني أن أفعل.


الشرك

في ذلك الوقت كنت أتجنّب المناظر مفرطة الغموض.
كمريضي المعدة الذين يتحاشون الأكلات الدسمة،
كنت أفضل البقاء في البيت جاليا بعض المسائل
المتعلقة بتكاثر العناكب،
مع هذا الهدف كنت أحبس نفسي في الحديقة
ولا أظهر أمام الناس إلا في ساعات متأخرة من الليل؛
أو كذلك أمضي بسلوك متّحد لابسا قميصا على اللحم
اعتدت إطلاق نظرات نزقة ناحية القمر
محاولا تجنب تلك الأفكار السوداء
التي تلتصق بالروح الإنسانية كالكلس الحجري.
في العزلة الشعرية كنت أتحكم في نفسي بشكل مطلق
ذاهبا من هنا إلى هناك بوعي كامل بأفعالي
أو كنت أتمدّد على ألواح قبو الخمور
لأحلم، لأخترع ميكانيزمات أو أحلّ مشكلات طارئة.
تلك كانت اللحظات التي طبّقت فيها منهجي الحلميّ الشهير
الذي يقوم على تعنيف الواحد نفسه والحلم بما يشاء
وتحريك مشاهد تم تحضيرها مسبقا بمشاركة الما وراء.
بهذه الطريقة تمكنت من التحصل على معلومات قيمة
تتعلق بسلسلة من الشكوك التي تلم بالكائن:
سفريات للخارج، اضطرابات إيروتيكية، عقد دينية.
لكن الاحترازات كلها كانت قليلة
إذ أنه لأسباب عصية على التحديد
بدأت أنزلق بشكل آليّ عبر نوع من السطح المائل
كانت روحي تفقد سموها كبالونة تنفقأ
وكفت غريزة البقاء عن العمل
والغريزة الخاصة بتحوطاتي الأكثر جوهرية
كانت تسقط لا محالة في شرك التليفون
كهاوية تجذب كل ما يحوطها
وبيدين مرتعشتين كنت أدير هذا الرقم الملعون
والذي اعتاد للآن أن يتكرر آليا في منامي.
كانت تلك لحظات من الشك والبؤس
كنت فيها، كهيكل عظميّ واقف على قدمين أمام مائدة الجحيم تلك
المغطاة بكريتون أصفر، أنتظر ردا من الطرف الآخر من العالم.
النصف الآخر من كينونتي سجين في حفرة.
كان الضجيج المتقطع للتليفون يولد في وقعا كذلك الذي تخلفه 
الماكينات الثقابة لأطباء الأسنان،
يرصع روحي كإبرات مرشوقة من عل
حتى، عندما حان الوقت المعلوم، بدأت تنضح وتتلجلج في حمى.
كان لساني الذي يشبه قطعة بيف استيك من لحم البقر
يتوسط كينونتي ومحدثتي
كتلك الستائر السوداء التي تفصلنا عن الموتى.
لم أكن أرغب في الاستمرار في تلك المحادثات مفرطة الحميمية
والتي، رغم ذلك، كنت أنا نفسي أستحثها بشكل غشيم
بصوتي اللاهث المشحون بالكهرباء.
كان إحساسي بأنني أنادى باسمي العمادي
بتلك النبرة الأليفة القسرية
يخلق فيّ توعّكا ممتدّا،
اضطرابات موضعية من الغمّ كنت أحاول تلافيها
عبر منهج سريع من الأسئلة والأجوبة
خالقا في هذا الغمّ حالة من الهيجان الإيروتيكيّ الزائف
كان في النهاية يأتي ليرتد عليّ أنا نفسي
في شكل انتصابات بازغة وإحساس بالفشل.
حينئذ كنت أضحك قسرا وساقطا بعد ذلك في حالة من الوهن العقليّ.
تلك المكالمات العبثية كانت تمتدّ لعدة ساعات
حتى ظهرت صاحبة البنسيون من وراء الساتر وقطعت بشكل فظ
تلك الغزلية الرعوية الغبية،
تلك التلويات التي تلتمس أمرا من السماء
وتلك الكوارث التي تصيب روحي بكآبة بالغة
والتي لم تنته تماما بإغلاق الهاتف
حيث أننا، إجمالا، اتفقنا على أن نلتقي في اليوم التالي
أمام نافورة من الصودا
أو على باب إحدى الكنائس التي لا أرغب في تذكر اسمها.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads