الرئيسية » , » رواية سرير الرمان (٤) | أسامة حبشى

رواية سرير الرمان (٤) | أسامة حبشى

Written By تروس on الأربعاء، 16 ديسمبر 2015 | ديسمبر 16, 2015


(4)

        وصل الأتوبيس مدينة الصحراء الذهبية قبيل الغروب بساعتين.نزلت و تحركت وحيداً عكس المدينة السياحية وأردت الغوص بين هذه الجبال على البعد، لابد من اكتشاف المكان الذى سأستقر به، ولكن كيف ومتى؟

الليل يقترب، الجبال هنا غيرالجبال التى طوفت بها بحلمى وفى حياتى منذ ثلاثين عاما مضت، والمنظر الطبيعى يكتسى لوناً آخر، القمر فى السماء يتحدى محيطه السماوى، تعرجات الرمال جديرة بالتأمل، الصمت مغرٍ بالتحدى من خلال كسره بفوضى ما، علىَّّ أن أصنعها فى التو، فغنيت وصرخت، وجريت فى كل الاتجاهاتبلاهدف بالقرب من حقيبتى الملقاة أرضاً، أشعر أنى طفل يعبث بفضائه فى حرية مطلقة، وأخيراً ألقيت جسدى على الرمال واستغرقت فى النوم. نعم تعب السير وفرحة الفضاء جعلا الليل يعبر بسلام مقدس. استيقظت عند الفجر هادئاً، فقد نمت نوماً عميقاً بلا أحلام وبلا خوف، حملت حقيبتى وأكملت السير.
  أن ترى الرمل والجبال فى لحظات الشروق أمر رائع، يقارب أن تراها فى لحظات الغروب، خاصة وأن جبال الصحراء  لها ألوان غريبة جميلة، تتراوح ما بين الأخضر والأحمر والأسود والأصفر،بالنظر لمحيط الطبيعة حولى أدرك أننى فى بداية الجنون ،وأن كل ماعشته تقريبا هو مقدمة منطقية لما سيحدث الآن، كنت على يقين طوال أربعون عاما أن الواقع هو الخيار الوحيد المتاح لنا على هذه الأرض، وإذا كان هناك قانونا فعليك خرقه، والكلمة الفضفاضة التى  تسمى"ضوابط اجتماعية" عليك تركها فى بلاعة الحمام قبل الخروج من البيت، تلك هى الأسس التى كانت تحدد ليلى، ذلك الليل الذى أطارده بكل ما أتيت من قوة، فأنا من القلائل الذين يؤمنون أنه إذا حل النهار فقد يأتى الموت، لذا أعتبر نفسى كائنا ليليا، وأدرك أنه يجب محاربة الموت بالمتع اللانهائية، ورمى الجسد فى تفاصيل عابرات السبيل بشكل دائم وفورى، دون السؤال عن أى شىء، أنا شخص مستعد للموت منذ ولادتى، شخص يحترف الجنون، شخص يسكن اللحظة،وكنت أيضا أتمنى كونى مجرما كرجال المافيا،أو قاتلا محترفا،ولكن وجدتنى فى نوع آخر من القتال والقتل، وجدتنى أقتل وأُقتل على طريقة "ابن الفارض" عندما قال:
     القتل محرم فى مذاهبنا ...لكنه حل إذا كان الحبيب القاتل.
 بصراحة لا أفعل شيئا مهما فى حياتى ، وإن رأى الأخرون عكس ذلك، وهم لايهمنونى ولا أستنجد بهم مطلقا، لى طريقا أعرفه ولى حيوات أعشقها وعلىَّ الخوض فيها مغامرا /مقامرا/مخدرا/واعيا.
لا تهمّ حالتى حال الخوض فى حياتى بقدر ماهية حياتى نفسها التى أعرفها والتى حددتها سلفا، والتى لها طقوس متعبة وصعبة على الأخرين، ومن أهم طقوسى كان الصمت الكامل فى غياب النساء، والخروج بلا ملابس داخلية مطلقا، وذلك ما اكتسبته من أمى،ولكنى ألصقت صفات أخرى لعاداتى لكى تكون خاصة بى وحدى بصرف النظر عن الواحد والتسعون مليونا الذين يعيشون بجوارى فى وطنى الأعرج، أرانى إله الجنون والفوضى ،وأرانى عبدا  لفلسفة الرمان، وأرانى كهفا للنساء عندما يهربن فىَّ، والرمان ليس مجرد نوع من الفاكهة كما يرى البعض ولكنه حياة تثمر وتمتلىء بالجنون والسحر والجنة،الرمان هو الكون ممثل فى حبيبات تتراص بجانب بعضها فى التصاق مبهر، الرمان هو الجمع بين الألوان وهو التضاد بينها أيضا،الرمان هو نقطة الإنطلاق نحوالسماء/الجنة/التماهى/الخلاص/الفجور/التستر/النساء ، وأنا أهوى جمع رمانى الخاص،أهوى الإحتفاظ بطعمه قدر المستطاع، أهوى البحث عنه أينما وجد،أعلم أن لكل امرأة رمانها الخاص، ولكن مالا أعلمه وأود تعلمه كيفيه الالتصاق إلى مالانهاية مع حبيبات الرمان بجانب النهر، ولكننى هنا أكتشف أنه يجب تغيير طقوسى ،واحترام هذا الكم الهائل من الجبال ، يجب التعامل مع الطبيعة بمنطق الطبيعة ذاتها، حيث التأمل والبحث فيما ورائها، أنا فى حضرة الرمانة الأم ،الرمانة الأزلية، فى حضرة الرمال والصخور والهواء والأرض والسماء، أنا فى حضرة النجوم والقمر والشمس،فهل بمستقر يفوق كل هذا المستقر المسمى بالطبيعة؟؟
لم يكن هذا تذكرا بقدر ماكان لحظة التساؤل الألى والمحصور فيماهى ماهية كونى حاضرا فى حضور غيابى ذاته ؟؟

  فى أثناء السير تقابلت مع بدوى من بدو المنطقة، استغرب لوجودى هنا وأخبرته عن رغبتى للذهاب إلى مكان عند البحر غير معروف لأحد، وبدأت أسئلته تحاوطنى- الذكاء والصفاء الذهنى  كان واضحاً فى أسئلته- البدوى ظن أننى هارب من أحد ما، وأخيراً وبعد حوار طويل، استقر به الرأى على أننى مجنون، وتركت له الحرية فى اعتقاد ما شاء. أخذنى البدوى معه لمكانه، تناولنا الطعام والشاى، وسط نصائحه الواضحة لى فيما يتعلق بإقامتى الجديدة بمدينة الصحراء، وسألنى عن مدينة القاهرة /مدينة الجنون والحب وأجبته، ولكن كلامى عن مدينة الحب والجنون لم يثر فضوله برؤيتها. البدوى كان مسالماً جداً، وواضح الهدف، هو يريد الرمال، ويحبها ولا يريد الموت هناك بجانب الأسفلت فى مدينة القاهرة، كان يقول بثقة:
- مدينة الصحراء مدينة التأمل والحرية، مدينة الطبيعة الخالصة، مدينة فى معزل عن التطور، وبمعزل عن الرأسمالية. هل يمكن أن تضحى بكل هذا مقابل شوارع ضيقة وخطوات لاتجد لها على الأرض مستقراً؟.

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads