الرئيسية » , » "عودة العجوز القذر" تُشرق الآن في الفرنسية بوكوفسكي يخرج إلى العلن ساخطاً ومتجاوزاً كل الممنوعات |رلى راشد

"عودة العجوز القذر" تُشرق الآن في الفرنسية بوكوفسكي يخرج إلى العلن ساخطاً ومتجاوزاً كل الممنوعات |رلى راشد

Written By هشام الصباحي on الاثنين، 21 سبتمبر 2015 | سبتمبر 21, 2015

أيّ نص سيخرج من تجربة العَوزين المادّي والعاطفي ومن تخمة الكحول؟ أيّ كتابة سيسطّرها صوت تشارلز بوكوفسكي غير المستتب وهو الشاعر والروائي الذي عجّ بصخب الموهبة واستسلم الى تمرين التأليف بدفع من الحنق؟ لا لبس أن النبرة ستتظهّر مضيئة على صورة الستينات، ومخرِّبة كمثل السبعينات الهيبيّة، ومتلوّنة على شاكلة الثمانينات المتخبّطة. ثلاثة عقود من التحوّلات ضارعها بوكوفسكي في نصوص مسنّنة اخترق فيها طبقات الحياة الأميركية السفليّة وجمع جزءا منها في كتاب أول بإسم "ملاحظات العجوز القذر" في 1969. ليُلحق في 2011 بثانٍ تضمن النصوص التي أسقطت من المجلد الأول وسمّي "ملاحظات العجوز القذر الإضافية" جرى نقله أخيرا، الى الفرنسية.

يهتمّ الوسط النشري الفرنسي بترجمة الأميركي من أصول ألمانية تشارلز بوكوفسكي مرة أخرى، الى لغة موليير. تعيد دار "غاليمار" التحويم في سمائه الإبتكارية فتختار أن تتمهّل عند مجموعة نصوص كانت صدرت قبل ثلاثة أعوام بالإنكليزية، وتُحوّر في عنوانها بعض الشيء ليصير "عودة العجوز القذر". ليس هذا النمط من الإندفاع غريبا أو مباغتا، بل يواكب ذائقة قرّاء لم يتعبوا بعد، على ما يتراءى، من رصد تحرّكات الكاتب التأليفية: يشحذ قلمه ويسخّر كل ما أوتي من قدرة ليبين مجدّدا وارثا منطقيا للثقافة المضادة. في جوارنا رجل يخرج الى العلن ساخطا ومتجاوزا كل الممنوعات وتوّاقاإلى نفسه خصوصا. رجل يجري حصره ظاهريا، في مساحة كتاب تقدّمه، للمفارقة، متعدّدا بفضل قطع سرديّة متسلسلة لا تخضع لقاعدة أو توجيه، ينحاز البعض منها الى التأمل في حين يجنح البعض الآخر نحو التخييل.
في "عودة العجوز القذر"، في حال اعتمادنا العنوان الفرنسي، نصوص تجمع بين القصة القصيرة والمقابلة والرسالة الهازئة لم يسبق ان نُشرت في قالب واحد، يَظهَر فيها تطور المسار الكتابي. غير انه تطوّر فوضوي الى حدّ كبير يشبه بوكوفسكي عينه، المرء العاجز عن التمهل وقد راقه أن يقف على شفا الأمور. في هذه النصوص، بوكوفوسكي شخص قادر على جعل أفكاره المتذبذبة تتسلل الى عقول الناس ليلاقوه فجرا عند عتبة داره أو تحت أنوار الأزقة القذرة المعتمة، ويتشاركوا معه الخمر والسخط الذهني. يجد العاقل في كتاباته مزيجا من الجنون الخالص في حين يجد المنقّب عن الراحة مدخلاً الى القلق الأكيد، وإن جزم هو، على نحو غير مقنع، تماما، في أحد النصوص: "أنا رجل عادي، أحبّ كل ما يدوم". يأتي هذا القرار في سياق تأكيد آخر يغيّر بعض الشيء، ما ظنّه كثيرون عنه، ويرفع عنه شبهة التماهي مع التيار الهيبيّ. يكتب في النص: "صحيح اني أحاذيهم من قرب، لكني أحذر كل ما يمتّ الى الدارج. هناك البيئة الهيبيّة، وهي أشبه بنادي العُطل أو المنزل المخصص لاستعادة اللياقة. في وسعكم أن تسمّوها ما يحلو لكم، غير انها مكان الزيف وما شابهه ولا يسع مروّجيه سوى أن يجملوا في كنفه طبيعتهم الذُهانية (...) يتفشّى هذا النمط من التصرف في كل مكان. غير انه، ونظرا الى أن أصدقائي النادرين يمارسون الفنّ ويغازلون الهيبيين، بل ويتمرّنون معهم (فهمتم ما أعنيه)، تَذوَّقتُ أنا أيضا، الفاكهة الممنوعة".
المجموعة كناية عن نصوص نشر البعض منها في مطبوعة "أوبن سيتي" (أي "المدينة المفتوحة")، وغابت عن المجلد الأول، أضيفت إليها أخرى تضمنتها صفحات مطبوعتين أخريين هما "نولا اكسبرس" و"لو انجليس فري". في وسطها يجرّب بوكوفسكي الهرب من واقع ذاتي مثقل، متواصلا مع نفسه من دون رأفة أحيانا. في هذا الكتاب يتبدّى أن لبوكوفسكي أكثر من جانب. يتطرّق الى التيار الهيبي، على ما أشرنا، ويعرّج على الثورة الجنسية والأزمة النفطية والعلاقات الصعبة مع النساء أيضا، ناهيك بمحاولاته الفرار من معيشه عبر القصيدة. يكتب مثلاً: "الإثنين بعد الظهر يوم زيارتي للفتاة. كانت في السابعة. قدتُ الى سانتا مونيكا ومررت بجادة بيكو، فيما آثار الكحول السيئة لا تزال بادية عليّ. وصلت فرأيت الباب مفتوحا. دفعتُه ودخلت. كانت تكتب ملاحظة. أعني والدة الطفلة. كان اسمها فيكي. قالت "كنتُ على وشك ان اترك لك هذه الملاحظة: لويز في منزل سيندي". أجبت "حسنا". سألَت "هل تملك بعض المال؟" قلتُ "كمّ تريدين؟". "حسنا، في وسعي أن أتصرف بخمسة وأربعين دولارا الآن". أجبتُ "لا استطيع أن أعطيك أكثر من 20". رَدّت "حسنا". كانت تقيم في شقة بغرفة نوم واحدة وتفتقر الى الأثاث في منطقة ساينانون. بلغ إيجارها 130 دولارا شهريا. انتمَت فيكي إلى اللواتي كان عليهن الإنتساب إلى إحدى المنظمات (....) انتقلَت من القراءة الشعرية الى الحزب الشيوعي في ساينانون. ما إن تشعر بالعزلة حتى تلتحق بمنظمة جديدة".
ينتقل بوكوفسكي أحيانا الى كواليس الحيوات الفريدة، يتسلّل الى تلك الهامشية خصوصا القابعة في أسفل درك الحيوات الرسمية. يتلبّس شخصية منظّم مباريات الملاكمة، يلحق بخطواته لحظة بلحظة ويصف ما يدور في الغرف الخلفيّة. يكتب: "في مقابل مرتّب بائس، ينبغي لي أن أظل معتقلا أربع عشرة ساعة يوميا في أحد المكاتب. أكون خلالها معلقا بسلك الهاتف أو غارقا في قراءة أوراق النتائج، هذا كله على أمل أن أؤمّن وبسعر بخس، شخصين قادرين على المثابرة خلال أكثر من جولة. لهذا السبب يصير تدبير لقاء بين ملاكمَين من العيار الثقيل، تمرينا مُنهكا. في معظم الأحيان، لا يستحق الأمر العناء حتى. لا يتحرّك هؤلاء التعساء بثقل فحسب... وإنما يكفي أن ترمي لهم ورقة نقدية لكي يتمدّدوا. في الحلبة، وفي معظم الأحيان، يثير ملاكمو الأوزان الثقيلة المشاكل ويتركون في فمك طعم الحسرة، في المحصلة. غير ان ذلك لا يمنع الهواة من أن يكرّروا استدعاءهم".
ينصرف بوكوفسكي في "عودة العجوز القذر" الى مدّنا بكثير من المرارة وبفيض من الأمثولات. الكاتب الواقعي في بعض الجوانب، على ما يعاين نفسه، يجزم ها هنا، ان أفضل الناس هم أولئك الذين لا نتعرف إليهم: دليل إضافي على خيبته من سكان هذه الأرض.



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads