الرئيسية » , , , » الشاعر الأزعر آرثر رامبو، ساقه خارج القبر ومازال يمشي | فادي عزام

الشاعر الأزعر آرثر رامبو، ساقه خارج القبر ومازال يمشي | فادي عزام

Written By هشام الصباحي on الثلاثاء، 1 سبتمبر 2015 | سبتمبر 01, 2015

فادي عزام


بعد أسبوعين من دفن أرثر رامبو يوم 10-11-1891 بدون ساقه اليمنى التي قطعت في مرسيليا. كانت أخته إيزابيل تتصفح جريدة (رسول الأرديين) فوجئت بمقالة مطبوعة على عمودين ونصف مخصصة لرامبو. بكت من الفرح فأخيها ليس تاجرا أمينا وحاذقا فحسب بل وشاعرا يكتبون عنه في الصحف. وبعد عام على وفاته، همد الجسد المشبع بالهزائم والنبذ والسرطان، وانبلجت الأسطورة لحياة هذا الشاعر الغريب الذي هزّ الشعر الفرنسي من جذوره وهو المراهق الذي لم يتجاوز التاسعة عشرة، لينصَّب شاعرا طازجا على مرِّ العصور.وبعد سبع ساعات بالطائرة وصلنا مطار شارل ديغول منه إلى سان ميشيل الحي اللاتيني نبحث عن أثر ما لهذا الولد الأزعر. نزلنا في فندق الغرباء حيث قطن بضعة أسابيع حين كان يريد أن يكون ابنا للشمس ويخرب الحواس ليصبح رآيّا. هنا عند التقاء نهاية شارع راسين  مع شارع كلية الطب. أقمنا ليلة واحدة فيه واستعدينا لذهاب إليه.

شيء ما من باريس رامبو مازال يدل عليه (إن في نفسي ذعر من جميع المدن) هكذا قال الولد الشارد الضال الذي لم تروضه باريس ولم ترضه. فنال على ما أراد، نقمة جماعية حتى من أكثر المتحمسين له ولم يمض على وجوده بينهم سوى أسابيع. تجرأ على البرناسيين(الانطباعيين) الجدد، حتى أنكروه. قال عنه: الشهب الذي انطفأ، عبقرية جوفاء،  الفاسد قليل التربية، تافه وسخيف... بعض مما رشقوه به من شتائم تبدو طازجة تنال كل المتشبهين به من بعده ممن عشقوا قلدوا الصورة، وابتعدوا عن الأصل.  مسّ "بول فاليرين" بلوثة شعر وحرفه إلى الطريق المستقيم. عاث فسادا في المشهد الثقافي البرجوازي وكشف نفاقه. كل هذا بمئة صفحة لا غير خطها على مدى ثلاث سنوات وهو دون التاسعة عشر..ثم قطع علاقته مع الجميع، حتى مع رفيقه الضال فاليرين بعد أن  خرب حياته البرجوزية الهادئة، وشرخ علاقته الزوجية للأبد.تركه في السجن يتعذب بالذنب فالرصاصة التي أطلقها على رامبو لم تصب سوى يده. ربما كان عليه أن يجيد التصويب. فوجود شاعر بهذه الطاقة يخلخل اتساق الوجود.على كل حمل المراهق الأزرق العينين يده المثقوبة برصاصة  الصديق وقلبه المشبع بالخسارة وعاد ليكتب الفصل الاخير من جحيم الشعر. ليرتد فاليرين إلى الإيمان المسيحي. ويصبح مبشرا بالمسيحية الجديدة. وليرتد رامبو عن كل تصنيف وينكر الأدب والشعر والثقافة للأبد  حارقا النسخ التي لديه من كتابه الوحيد الذي طبعه في حياته " فصل في الجحيم"  مع كل إشعاره. لكنه أبقى على دفتر الإشرافات. في الفصل الأخير قبل صمته الذي مازال يحير كتّاب سيرته يقول : (فلنتقدم ! لنحمل العبء ونسير نحو الصحراء والسأم) فخورا بالتجرد من كل الأوطان والأصحاب، ثم يصيح "لا شيء عبث فإلى العلم وإلى الأمام" هجر الشعر بعد أن وصل به وأوصله إلى قحل المطلق، واستذأب في الحياة وفرّ من أوكار أوربة الباردة الخضراء إلى قحل عدن وصحراء هرر.حيث الحرارة ربما تذيب جليد روحه المتجمدة. من محطة غاردوليس إلى (راميز) بدأت رحلتنا باتجاه إقليم الآردن على حدود بلجيكا. خبّ القطار. أراقب الحقول بهدوء، كان يمر بهذه البلدات والسهول ماشيا، جائعا متهرئ الملابس. تسع مرات فعلها وهو يعود خائبا أو هاربا من باريس إلى شارفيل. أحاول ان اقتنص بقايا أنفاس رامبو في هذا الريف المضجر. وأتسأل هل  تستحق شارفيل التضحية بأيام الإجازة بدلا من إغواء باريس. أنقل نظري بين النافذة وكتاب "بيار بتفيز رامبو الشاعر والإنسان " أجده مخاطبا كبير شعراء البرناسيين ساخرا من رومانسيتهم. ساكبا سما على أزهارهم يقول لهم (" سلحة "طير بحري تساوي كل الزهور المبثوثة في قصائدكم . "وحبذا لو فعلتم ما هو نافع . أكتبوا شيئا عن آفة البطاطا.)  تلك الصرخة التي سيجلد بها شعراء عصره، تبدو أنها صالحة لكل العصور وخاصة لشعراء هذا الوقت. بدلنا القطار في راميز الخضرة تزداد غماقة، وفضولي  يقودني إلى هذا اللامنظور. إنه في السادسة عشرة، حيرة تلوى أخرى، نزق مغموس بالتوق للمجهول عطش للكتب، قراءة تقرب حد الالتهام. قسوة إسبارطية على النفس وتوق ذاتي للعقاب. والمشي ثم المشي ثم المشي. في كل اتجاه ولأي سبب. علّ أفقا ما ينفتح ويأخذ بهذا الأفاّق عديم القلب. كل قصائد رامبو بعد عام 1871. يستحيل أن يكون منبعها القلب. فقد تحصن عن العدالة المشبوهة. والعواطف الرخيصة. سمّى الأشياء بأسمائها الأولى. دون تورية ولا مواربة بعد أن غمسها بحبر الخفاء (الرمزية) التي ستدين له بكل شيء لاحقا. يقول :(أفلحت في أن أزيل كل رجاء أنساني وخنفت كل فرح) وصلنا محطة بلدته شارفيل  نزلنا من القطار كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة. أمام المحطة توقف قطار قديم خرج عن الخدمة منذ أيامه على ما يبدو. قطا بخاري قديم، شيء من الماضي الأليف لو كان يملك القدرة على نقل أحاديث ركابه. لربما أخبرنا عن " الأزعر الرائع " " الصوفي المتوحش" النيزك " العابر الهائل " الملاك المنفي" . الذي أوقفه الرهبان هنا قبالة هذه المحطة. وأعطاه أحدهم عشر سنتيمات. وقال له: خذ يا صغيري وقص شعرك. وضع رامبو القطعة النقدية في جيبه. وهش بوجه الراهب (شكرا لأنك  وفرت لي التبغ اليوم) وحين وصلت أخبار بداية الكومونية القادمة من باريس، سار ساخرا من طلاب اللاهوت والبرجوازيين الذين شلّهم الرعب. كان يتحدث بعربدة وأيمان عن عصر العلم والشعر الذي سيخلف عصر الدجل والمال والحرية المنتظرة تحت تصرف الجميع.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads