من يوميات اناييس نن | ترجمة لطيفة الدليمي

Written By هشام الصباحي on الاثنين، 28 سبتمبر 2015 | سبتمبر 28, 2015

مكالمة هاتفية من هنري ميللر، مقابلة مع ( د. اوتو رانك – المحلل النفسي) نجحت مائة بالمائة .. اصبر رانك صديقا لهنري، انه شديد الا عجات به .. قال له ان كتابيا (مدار السرطان) لم يقدم اعماق شخصية هنري، بل اقدم على تضخيم هيأته الخارجية حسب .
قال هنري: أنا مدين بكل هذا لك انت ..
قلت: بل انت مدين لما انت عليه بذاتك .. كنت قد اخبرت هنري بان (د. رانك) سيقدره حق قدره .. وكان هنري مشوشا الى حد ما.. لكنه وضع شقته بل، انه بحاجة الى الثقة التي سيمنحها له هذا التحدي.
زرت الكونتيسة لوسي التي تظهر على صفحات (مجلة فوج) ببشرتها الصدفية المتوردة وشعرها الذهبي الشاحب باعتبارها الجميلة التي ثم تفقد الاطلالة الشهوانية لجسدها وعينيها الخضراوين .
– لهب هائل في المدفأة، مقاعد ذات اذرع مكسوة بالساتان الابيض مع اريكة واسعة، كانت ترتدي ثوبا منزليا يعيد الى الذاكرة ثياب (اوديت) حديثها كان غريبا وبالغ الهشاشة . جارح الوضوح .. لقد شرعت في إصدار مجلة مع (ادموند جالو) وتريد ترجمة بعض كتاباتي لهذه المجلة .
انظر الى النافذة الطويلة، النافذة المغطاة بالدانتيل والوسائد تحت القدمين، الحياة اللامعني لها.. كانت لوسي شديدة الحماس لفكرة انني سأحقق لها المعجزة . .
قالت: إنني احب هدوءك العظيم، انت تمتلكين حياة تجاوزت العقبات وانتصرت عليها.. اما انا فانني امر بمرحلة العمر الخطرة المتذبذية البليدة احب ان امتلك وثرقيتك، انني انتظر الحب لب الحياة حياة المرأة وجوهرها.
قلت لها: لا تنتظريه، ابتكري العالم، عالمك وحدك قفي وحيدة وسوف يسعى الحب اليك، فانا منذ كتبت كتابي الاول بدأ العالم الذي احب ان احياه ينفتح امامي..
قالت: أشعر وكأنما قد حكم علي بقدر مشؤوم: ان اكون متفرجة حسب، انا المتفرجة على حياة الاخريات لأ عجب بهن .. لكنني اريد اكتشاف عالمي الشخصي استطيع تصور ما يحيط بحيرات الناس الا حياتك انت .
– لا استطيع ان أقول اكثر من ان ما يحيط بي هو انا، كل شيء هو انا، لانني نبذت كل ما هو متعارف عليه، كل ما ينتقد به العالم، كل قوانينه وأعرافه، فانا لست مضطرة للعب دور اجتماعي مثلك اومثل (جين).
كانت لوسي تتخبط ما بين عالم الفن وعالم المجتمع، بين البوهيمية والارستقراطية، بين ألتقاليد والانحراف عنها.. ولانها فنانة مرهفة تحدثت عن طريقة سيري، تحدثت عن يدي عن ايماءاتي باسلوب متوهج ورائع ..
رأيتها وهي تفتح بثلاث زنابق (التيوليب) فبدت الزنابق اقرب الى الزهور الاصطناعية وفقدت سحرها.. هل سيزول كل هذا الجمال لان لوسي تبحث عن حياة لها نكهة الحياة .
ما هو وجه الاختلاف بيننا؟
انني احيا احلامي، ولم تكن الاحلام إلا علامة البداية، فهي توحي لي بالسبيل التي ينبغي لي ان اتجه اليها..:ما العالم الذي افتتن به (مارسيل بروسة) واغراه فهو لا يستهويني للعيش فيه..

بوسع لوسي اللحاق بي في عالمي..
اسير خفيفة في الربيع النامي المزدهر، استمع الى اصوات جديدة، الانقاس البهيجة الجديدة للارض وانا انتظر اللقاء مع (انطو انين أرثو) وعائلة (د. الليندي) هذه الليلة .
كان الليندي بكل حكمته يخلط اجراء صداقاتي، ولكن كيف اخبره بالامر؟.. لقد بدأ يعأني من الغيرة واصبح كثير المطالب . فوجدت من المستحيل علي مقاومة المتعة الهائلة في الاغراء والمغازلة، حتى وان لم اكن اعيش حالة حب .. اية اثارة !! انها تشبه الزهو الذي يحسه المتزلج على الجليد قبل النهاية الرائعة للمنحدر الابيض . او ما يشعر به السباح وهو يواجه موجة شاهقة او ما يحسه متسلق الجبال وهو يتطلع الى القمة الشامخة  الصعودات والقفزات والانحدارات .
كانت حكمة (ألليندي) تحميه من طغيان الالم .. وكنت قد بدأت اللعب . مثلما علمني في تحليله النفسي لي: !ن استسلم للنزوات والاهواء والميول، كان يتمنى ان يكون قد التقى بي في شبابه وتزوجني.
الى اي حياة كنت سآخذه .
جلست وحيدة في (الاستوديو) حضر آل ألليندي مع انطونين آرثو، كان أرثو يحدق بالكريستالات، سرنا في الحديقة الشاسعة المغمورة بضوء القمر، كان أرثو يتحرك بثقة ومزاج رومانس شفيف:
قال: الجمال الذي اعتقدنا اننا فقدناه في عالمنا، يقيم هنا، في هذا البيت السحري والحديقة الفاتنة الخرافية، انها أحدى حكايات الجن ..
كان (انطونين آرثو) نحيلا متوترا له وجه شبيه بطائر (الفاق) وعيناه حالمتان محتشدتان بالرؤى، قلق ساحر، حاد، وماكر.
المسرح بالنسبة لانطونين أرثو هو المكان الذي يطق من فوقه صيحة الالم، وصرخات الغضب والحقد والعنف ليجسد القسوة امامنا.
يقول: ان اشد انواع الحياة عنفا يمكن ان تتفجر جراء الارهاب والموت ..
تحدث أرثو عن طقوس (عبادة الدم) وكيف اننا فقدنا سحر الاتصال الانساني، تحدث عن العبادات القديمة التي عرفت كيف تجعل الايمان والنشوة الروحية تشيعان بين الناس كالعدوي.
لقد زالت قوة هذه العبادات وسحرها.. وهو يعمل الآن لاعادة الاعتبار لها فوق مسرحه ..
يريد.من المسرح ان يؤدي هذه المهمة ويشكل نقطة استقطاب لهذه العبادات والشعائر التي يمكنها ان توقظنا جميعا.
يريد (آرثو) ان يطق صرخاته ليحرض الناس على التوهج وبلوغ النشوة من جديد.. انه لا يريد مسرحا.يقوم على الحوار والتحليل ويسعى الى ان ينقل التأثير عبر تجسيد حالات النشوة والانفعالات الحادة .. يريد (انطو نين آرثو) مسرحا بلا غايات . واذ هو يتدفق بالحديث تساءلت عما اذا كان على حق ل قوله: اننا ضيعنا تلك العبادات، او اننا نحن الذين فقدنا الاحساس وقوة المشاعر ولن تنجح أية شعائر أو عبادات في اعادة ما فقدناه وبث الروح في احاسيسنا.
 (انطو نين أرثو) هو السريالي الذي تخل عنه السورياليون ونبذره، (انطونين آرثو) هذا الوجود الشجي الناحل الذي يرتاد المقاهي ولكنه لا يشاهد ثملا او جالسا بين الناس يشاركهم ضحكهم .. انه هذا المدمن المنعزل الذي يجوب الطرقات وحيدا ويحاول تقديم مسرحيات تحاكي مشاهد الارهاب والتعذيب .
عيناه زرقاوان بفعل الارهاق، وسوداوان بالالم .. انه كائن هيستيري، لقد قام باداء دوره الرائع عن الراهب ألذي عشق (جان دارك) في فيلم المخرج (كارل دراير) عيناه المفعمتان بالاسرار تشعان كأنما من اعماق كهف بعيد عيناه الغامضتان، عينا الاشباح والاسرار.
الكتابة بالنسبة لارثو مدعاة للالم، لانها تأتي متوترة مهتاجة مليئة بالتشنج، يعيش أرثو صراعا دائما مع العالم الذي يستحضره في مخيلته ويقوم بمحاكاة مسرحيته لتبدن احداثه العنيفة اشبه بحالة تأملية اكثر ساتقدم كمظهر من مظاهر القسوة .


وبينما كنا نقف في الحديقة بدأ هجومه على الهذيان واخذ يلعن ويشتم المهلوسين .
قلت انا سعيدة بهلوساتي.
قال: انا لا اجرؤ على قول هذا، الهذيان يرعبني وانا ابذل جهودا انسانية جبارة من اجل الافاقة من الهذيان .
اخبرني (د. الليندي) ايه حاول انقاذ أرثو من الادمان الذي اوشك ان يدمر.
لم ألحظ عليه امرا استثنائيا في تلك الامسية باستثناء هجومه على المفسرين من النقاد الذين اضجروه وحالوا بينه وبين احساسي ألمرفي بالعظمة .
تحدث أرثو بحمامة بالغة عن (الكابال) والسحر والاساطير والخرافة .
قال د. الليندي انه أجرى حوارات عديدة مع (آرثو) لكنه رفض ان يخضعا للتحليل النفعي باعتباره وصفة للشفاء. انما استسلم اخيرا للفكرة وتقبلها وقد اعانه التحليل الى حد بعيد.
عندما زار د. الليندي بيتي في ضيعة (لوفيسانس) قال: اشعر انني هنا في بلاد قصية .
بينما قال أرثو: كلا.. ابدا احس تماما انني في بيتي في وطني . هنا.
كتب أرثو عن رعبه في عزلته ووحدته وبعد ان قرأت مخطوطته عن (الفن والموت) اعطيته مخطوطتي (بيت سفاح القربى) وكتبت له رسالة قلت فيها:
– إن ما هو اساسي في الكتابة هو ما يمنحنا الشعور بعدم وجود مبالغات في الكلمات، وسوف تجد في كتابي هذا انني هيأت العالم لاستقبالك عن طريق تغييب الجدران والحواجز والآضواء الخافتة والبلور ذي الانعكاسات والاعصاب المخدرة .
والعيون الرؤيوية وحمى الاحلام .. انجزت هذا الكتاب قبل ان اعرفك وقد كتبته ليتناغم ويتزامن مع رؤيك الخاصة للعالم .
أخبرني (آرثو) في رسالة جوابية أنه يهيىء محاضرة عن (المسرح والطاعون ا ويشكو لي من صعوبة الموضوع وتشعباته ويشكرني على تفهمي لمشروعه المسرحي وامتنانه للعون الذي قدمته لفعله .
تحدث (هنري ميللر) عن الفصام وعالم الموت، عن عصر (فاوست) و(هاملت) عن القدر والمصير والروح .. عن سكان المدن العظمي والاستسلام للحتمية البيولوجية .
أرى ان عليه الانصراف للكتابة عن نفسه دون الاهتمام بعالم الافكار المجردة وانا اتساءل:
– لماذا يحاول الظهور بمظهر الفيلسوف المفكر.. ام انها وسيلة يستخدمها ليموضع عالمه وسط عالم جرى تنظيما ليجد لنفسه – بالتالي- مكانا فيه.
كان هنري ميللر منغمرا بالعمل وهو يتصارع مع (د. هـ. لورس) ويبحث في كدس من الملاحظات يحرك ذراعيه ويشير ويدخن ويلعن ويستخدم الآلة الكاتبة ويحتسي النبيذ الاحمر وقد سمع انني اعد بحثا كلفني به (د. الليندي) عن (تاريخ الطاعون) والعنف والارهاب اللذين يتفجران فجأة جراء الرعب من مواجهة الموت .
كانت هذه الفترة بلا ريب فترة غنية نابضة، واخذ هنري يصغي الي معتقدا ان هذه المادة تناسب موضوعه ووجه لي اسئلة صاخبة وكان مقتنعا بالمعطيات والمعلومات التي اغنت بحثه، انه لا يتورع عن استخدام اي شيء يمكنه ان يثري موضوعه ويخدمه .
يقول (هنري ميللر):
يمثل (هنري جيمس) روح المدينة الكبرى الديناميكية يمثل الحماسة والتعلقات والخيبات بينما يعمل (جيمس جويس) مثل المنقب الآثاري بحثا عن الارواح الميتة .
ايقن (هنري ميلر) انه يجتاز الآن مرحلة تحول كبرى من التلذذ الرومانسي بالحياة الى الاستمتاع الكلاسيكي بالافكار.
عندما قال له فرانكل قبل عام:
 الناس هم محض افكار.
قال هنري: لماذا الافكار: .. لماذا الرموز؟. وها هو يعود الآن ليصبح  فيلسوفا.
جلسنا في المقهى وشربنا وبدأنا نتحدث عن (اشبنجلر) استغربت لماذا يحدث هذا؟ امن اجل ان يحاول تنظيم تجاربه وموضعتها؟
انني فخورة بنشاطه وفعاليته، ادركت الآن انني كنت مخدوعة بهنري المغامر وبعالمه السفلي ومباهاته بكوارثه وليالي فجوره وبحثا المسعور عن المتعة وفضوله وحياته في الشوارع وعلاقاته بالناس في كل مكان . قاعة المحاضرات في ( السوربون)
 (د. الليندي) و(آرثو) كانا يجلسان الى المنصة الكبيرة يتحدث الليندي الى آرثو، القاعة محتشدة باناس من اعمار مختلفة . وكلهم من مريدي محاضرات (الليندي) كان الضوء وهاجا ومباشرا فأخذ أرثو يرمش ويحول بصره الى المناطق المعتمة، كان شعره الطويل يلامس كتفيه وتميز جسمه رشاقة وخفة ايماءات المثل المحترف .
بدا وجهه ناحلا مثل من اصابته الحمراء، ولم تكن نظراته موجهة الى احد.. عينا الرؤيوي الحالم .
بدا الليندي الى جواره ارضيا وثقيلا وكئيبا، خامدا ومستكينا.
سار أرثو بضع خطوات عن المنصة وبدأ يلقي محاضرته عن (المسرح والطاعون)
طلب الي الجلوس في الصف الامامي، احسست ان ذلك كله من اجل لفت الانظار اليه .
تابعت المحاضرة وانا اتساءل .
– هل اراد اقناعنا بان الانسانية تنجز اعمالا ومنجزات فنية لا حصر لها خلال موجات الطاعون لان الانسان يبحث عن البقاء او الهرب او يحاول تجاوز ذاته في فوضى الرعب من مواجهة الموت ؟
كان وجهه مسورا بكمد موجع والعرق يبلل شعره، عيناه متسعتان، عضلاته متشنجة واصابعه تجاهد ان تحتفظ بمرونتها، كان حضوره يجعل المرء يحس بلسعة وحرقة في حنجرته .. يجعله يشعر بالالام والحمى، بالنيران في الاحشاء.. كان يمر بحالة عذاب نفسي مبرح، كان يصرخ ويهذي، كان يمثل مشهد موته الخاص، ولحظات الصلب الاليمة .
في البدء اجتاحت الجمهور همهمة واضحة، ثم بداوا يضحكون .. الكل بدأ يطلق القهقهات والفحيح، ثم اخذوا يغادرون المكان واحدا بعد ألآخر محدثين جلبة ولغوا واحتجاجا.
كانوا يصفقون الباب وهم يغادرون .
الوحيدون الذين لم يتحركوا كانوا: الدكتور الليندي وزوجته، وآل لالوس ومارجريت .. المحتجون كثرة، المتهكمون اكثر.
لكن أرثو لم يتوقف واستمر حتى آخر نفس وبقي واقفا وعندما خلت القاعة تماما إلا من الاصدقاء القلائل سار مستقيما باتجاهي وقبل يدي وطلب مني ان اصحبه الى المقهى.
كان لكل هذا ما يشغله فتفرقنا لدى بوابة (السوربون) وسرنا انا وأرثو في الضباب الرقيق، سرنا في الشوارع المعتمة، كان مجروحا ومتضررا، مخيبا مخذولا جراء السخرية، لقد نفث غضبا:
– انهم يريدون سماع (ما حول) الشي ء، يريدون سماع مادة حول المسرح والطاعون اما انا فقد منحتهم التجربة بذاتها، الطاعون نفسه، فارتعبوا واستفاقوا، ومضيت في ايقاظهم .. لم يكونوا مدركين انهم موتى، وان موتهم كان شاملا، كالصمم والعمى، كنت قد جسدت لهم الألم .. ألمي أنا.. نعم وألم كل كائن حي.
تساقط الضباب والندى على وجهه، ازاح شعره بعيدا عن جبهته، كان مكروبا ومبلبلا، لكنه تحدث الآن بنبرة هادئة جلسنا، نسي المحاضرة .
. لم اجد انسانا يحس بما احسه .. انا مدمن افيون منذ خمس عشرة سنة، لقد قدموا لي الافيون وانا صغير جدا لتخفيف بعض الآلام الشنيعة في رأسي .. احس احيانا انني لا اكتب وانما اصف كفاحي مع الكتابة ومجاهدتي لأولد.
اخذ يردد بعض القصائد ونحن نتحدث عن (الفورمة) الشكل والمسرح وعن عمله بالذات .
– اناييس، ارى عينيك خضراوين وفي احيان أخرى بنفسجيتين .
تحول الى رجل مهذب رصين، سرنا ثانية تحت المطر كان الطاعون بالنسبة له لا يقل سوءا عن الموت موتنا بقبول اواسط الاشياء، الموت بالمشاجرة باشيائنا الموت بالفساد الذي يحيط بنا.
كان يريد ان يثير قلق الناس، بانهم موتى حقا ان يرغمهم ويدفعهم الى حالة شعرية .
قلت: أن الهجوم يثبت لهم انك تسعي لتدميرهم .. ولكن اية صدمة ان ترى شاعرا حساسا يواجه جمهورا معاديا.. اية قسوة .. واي قبح يكمن في الجمهور.
قلت لانطونين أرثو:
– انا أحب الشاعر فيك ..
انفعل بما قلته لكن عبارتي لم تجرح اعتزاره بنفسه.
قال: هذا هو شعوري بالذات .. انك تشبهينني اسمعي.. انني أرى الانسان شبيها بطيف، وانا اخشي الحياة وارتاب فيها.
وكل ما في الحياة يبدو لي غير حقيقي وانا احاول اقتحامها، احاول ان اكون جزءا منها.. ولكن انت يا اناييس سبقتني الى اقتحاميه. افترقت الحياة بكل هذه الحيوية التي لم اجد امرأة أخرى تتمتع بها.. لم اتعرف الى امرأة اقرب شبها بـ(الروح) منك .. كل ما يحيط بشخصك يخيفني، عيناك الشاسعتان المستحيلتان، وضوحك المستحيل شفافيتك كل هذه الاشياء التي تبدو خلوا من الاسرار تدفع المرء للاعتقاد بانه قادر على النظر اليك عبرها، انما الحقيقة شيء مختلف، ثمة اسرار لا نهائية تكنن تحت هذا الوضوح ووراء هاتين العينين الكاشفتين).
اذهلني تدفقه بالحديث، ثم فاجأني بسؤال:
– من هو الذي تحبينه انت .. ثمة الكثيرون يحبونك ولكن من الذي تحبينه انت؟
يعتقد الناس انني مجنون .. فهل تفكرين على شاكتهم !
هذا ما يخيفك لذ؟
ادركت هذه اللحظة وانا انظر الى عينيه انه مجنون فعلا،. لقد كان مجنونا وهذا ما عشقته فيه .. جنونه .. اعرف انه يريد العودة الى الحياة عن طريق حب امرأة، من خلال التناسخ والتقمص والولادة من جديد لكن فقدان المنطق في حياته يجعل من اي حب انساني امرا مستحيلا.
وحتى لا أسبب له حرجا ما.. اعلنت له عن اسطورة تقسيمي الحب الى شكلين:
– الحب الجسدي والحب الروحي وهما حالتان لا علاقة لاحدهما بالآخر.
قال: لم افكر قط انني سأكتشف فيك جنوني ذاته، كنا نجلس في مقهى ( الكوبول) و(آرثو) يتدفق بالقصائد ويتحدث عن السحر ثم يعلن:
– انا الامبراطور الروماني المجنون (هيليو جابالوس).. انا (هيليو جابالوس)
 كان أرثو يتقمص ويتماهى مع كل شخصية يكتبها.. استأجرنا سيارة فازاح شعره الطويل عن وجهه المهدم ووقف في السيارة المكشوفة مادا ذراعيا وهو يشير الى الشوارع المزدحمة بالارة واخذ يصرخ:
– ستحدث الثورة عاجلا، وسيدمر كل هذا العالم .. يجب ان يدمر فهو عالم فاسد مليء بالقبح والمومياوات،
آه .. هل شك عن انهيار وسقوط الامبراطورية الرومانية ؟ الموت، اريد للمسرح ان يقدم معالجة مذهلة وارجو ان تكهرب المسرحية مشاعر الناس .
خيل، الي اول الامر ان (آرثو) يحيا في عالم خيالي، وهو يسعى حثيثا الى الكارثة، الى صدمة عنيفة تعيده الى العالم الواقعي. او تهبه القدرة الى التناسخ والحلول عبر غرام جامح .
ولكن ما ان وقف واخذ يلوح بيديه ويصرخ، حدقت به الحشود وغضب سائق التكسي وفكرت: لم يكن أرثو يدرك أين نحن، كان مهتاجا، وعرفت انه يريد الثورة، الفاجعة، والكارثة فذلك ما سيضع خاتمة لحياته الاليمة .
عندما ذهبت لزيارته، كان يقف نبيلا مزهوا بعينين جذلتين الى حد الجنون انهما عينا المهووس المجنون، تشعان ببريق الانتصار، لانني وافقت على زيارته . كنت ارتدي زيا باللونين الاحمر والاسود مزينا او مدججا بقطع فولاذية اشبه بثياب المحاربين لكي احمي نفسي من الامتلاك .
كانت غرفته عارية متقشفة كأنها صومعة راهب: سرير ومنضدة وكرسي..
نظرت الى صوره الفوتوغرافية التي تمثله في ادواره المسرحية المختلفة، بدت محنته مريرة قاتمة وحرة ومتألقة تشع بنشوة روحية في صور أخرى وكأنه طالع من القرون الوسطى بكل حدته ورصانته المميزة .
اطلعني على مخطوطاته وثحدث عن مشاريعه ثم اخذ حديثه ينمو باتجاه الغموض ق شرع يتودد الي .. ثم ركع على ركبتيه امامي.
فكررت له ما سبق وقلته عن ايماني بالحب الروحي. كان كل ما حولنا في الغرفة يهتز ويترنح وكأننا في قلب زوبعة، عندما حسن حديثي نهض بوجه عابس جامد كأنه منحوت من الصخر:
– هل اخبرك (د. الليندي) انني اتعاطي المخدرات ؟ على اية حال، ستظهرين احتقارك لي عاجلا ام آجلآ، انا لم اخلق للحب الشهواني وهذا موضوع يعد بالغ الاهمية بالنسبة للنساء..
. ليس لمثلي ..
– لا اريد ان افقدك اناييسى ..
. لن تفقدني
– ما اتعاطاه يقتلني ولن احاول ارغامك على الوقوع في حبي.. انت انسانة ومن حقك ان تعيشي الحب .
– انا لا أريد هذا النوع من الارتباط، اما ذلك الآخر.. الحب الروحي..
– انت تريدين الهرب مني، تريدين الاختفاء.. اناييس انت كل شيء بالنسبة لي .. انا لم التق بامرأة مثلك قبل اليوم .. انت حالة نادرة لا اصدقها وانا ارتعب من فكرة ان تكوني مجرد حلم فتختفين من حياتي.
ان كبرياءك يثير السحر في كل ما يحط بك فيضطرب العقل لدى مرأك .. هذا تفصيل صغير أوحى لي به حضورك وانت في بدلة (مارس) اله الحرب فالمرأة التي تحيا بالرموز الى هذا الحد هي الوحيدة التي تدهشني.. اضافة الى هذا الوهج الروحي الذي يلازمك دوما.. آنا احب لحظات مستك التي تماثل سكناتي.. انت تتحدثين عن تدمير الذات باعتباره مجزرة ثم تضحين بنفسك من اجل الاله .
– من اجل الكمال .. المرء يموت اذا شاء بلوغ الكمال ..
– انا مغرور وشديد الزهو.
– كل المبدعين امثالك.. لا يمكنك ان تبدع حقيقة دون الاعتزار بالنفس وحب الذات …
– أنا على استعداد لاحراق كل شيء من اجلك .. مستعد لا.كرس نفسي لك .. انت تستحقين ان يقوم المرء باقتراف مذبحة لاجك .
ما الذي سيحرقه (انطونين آرثو) من اجلي ؟.. لم اسأله .
– اكتبي لي اناييس.. ان كل يوم من الانتظار هو بمثابة تعذيب لي .. فلا تعذبيني، واجرؤ على القول انك ستنسينني.. ستتخلين عني. رسالة من (انطونين آرثو)
– كنت قد احضرت بعض الاشخاص رجالا ونساء لمشاهدة اللوحة المدهشة (لوط وابنته) لكن .. انها المرة .الاولى التي أرى فيها الاستجابة الفنية تحرك الكائن وتجعله يترنح كما في الحب .. الاحاسيس ترتعشي، وانا ادرك ذلك فيك .. ان الروح والجسد متآلفان تماما، فاذا ضغطت الروح الصافية فسيكون بوسعها ان تهب وتتململ كالعاصفة في اعماقك .. ولكن في مثل هذا التزاوج المتناقض المتنافر تكون الروح هي القائدة  هي التي تستدرج الجسد وتهيمن عليه، ويجب ان تكون النهاية عندما تكون الهيمنة كاملة، ن اشعر ان فيك عالما ينتظر الولادة ليجد خلاصه .
انت نفسك لا تقيمين وزنا لمثل هذا ولكنك تنادين به بجماع نفسك .. واحاسيسك، بمشاعرك الانثوية التي هي بمثابة الروح لك .
كوني ما انت عليه .. ويجب أن تفهمي الفرح الموجه العظيم الذي نلته بلقأئك .. الفرح والمسرة والدهشة .. انني احصل على الامتلاء بكل الوسائل، اجد امتلائي في عزلتي اللامتناهية والتي تشغلني على نحو مفزع .
لقد منحني القدر اكثر مما كنت احلم بنيله، وانا احب الاشياء التي يهبني اياها القدر، ذلك امر محتوم كليا ومقدر في السماء.. انه يأتي دونما تردد ومن تلقاء ذاته وبمنتهى الجمال مما يسبب لي الفزع ويجعلني أؤمن بالمعجزات كما لو ان الاعاجيب وإلمعجزأت ممكنة التحقق في هذا العالم .. غير اني لا افكر بانني او انك من هذا العالم .. وهذا هو.. هذا هو اللقاء المكتمل الذي حرك مشاعري لانه للاسف . ان روحي وحياتي تكونتا من سلسلة من الاضاءات وألخسوفات التي تؤدي ادوارها دون توقف في داخلي .. وفوق ذلك كلا وبعد ذلك كله اجدني واقفا في الحب وانا بالنسبة لمن يحبونني لا استطيع الا ان اكون مخيبا للآمال دوما.. لقد لاحظت ذلك توا.. وفي احيان أخرى امتلك حدوسا سريعة .. وقدرة سريعة على التنبؤ وفي احيان أخرى اكون اعمى تماما حتى يصعب علي ادراك أبسط الحقائق.
ينبغي للمرء ان يمتلك فهما نادرا ودهاء غير عادي ليتقبل هذا المزيج من الظمات والنور عندما يتعلق الامر بالعاطفة فان للآخر كل الحق في الهرب مني.
– شيء آخر يربط بيننا ويقربنا الى بعضنا- سكناتك صمتك الذي يشابه صمتي.، انت الكائن الوحيد الذي لا اخجل من صمتي امامه .
انك تمتلكين صمتا محتدما يحس المرء انه مشحون بالمعاني والخلاصات، انه حيوي على نحو مدهش .. وكأنه فخ مفتوح فوق هوة سحيقة يستطيع المرء ان يسمع منها همهمة الارض الخفية نفسها.. ليس فيما اقول (فبركة) شعرية انت تعرفين ذلك جيدا، اريد
ان اصف هذه الانطباعات المشحونة بالقوة، الانطباعات الحقة لدي. عندما وقفنا في المحطة وقلت لك:
– نحن مثل روحين ضالتين في فضاء لا متناه، احسست بذلك الصمت، هذا السكون المتحرك الناطق الذي يتحدث الي ويجعلني ابكي لفرط الفرح . معك اجدني عدت من الهوة السحيقة والكهوف التي كنت آحيا فيها.. وقد ناضلت لازيح عمل الروح فيما وراء الحياة وبعدها.. في ميتتها المختلفة، انا نفسي (هوة) مؤكدة .. حقيقية .
ان تكون على تماس مع (انطونين آرثو) فمعنى ذلك ان تصاب بالتسمم بذلك السم الذي دمر (آرثو) بيديه ..
كان يقتنص احلامي لانها تماثل احلامه ..
انني اعيش حبي للشاعر الذي يسير وسط احلامي، احب الامه ووهجة النار فيه . .. لا الرجل الذي يقبع فيه 
لانني لا استطيع الارتباط به جسديا.

 ايلول 1934
سرنا طويلا انا وهنري ميللر في شارع (دي لا تومب سوار) فقد انتقل هنري من ذلك الاستوديو الصغير الى (فيلا سورا) وساعدناه جميعا في طلاء الجدران وتعليق اللوحات والتنظيف .
انت غرفة (الاستوديو) كبيرة لها نافذة علوية واسعة تمنحها فضاء شاسعا، وارتفاعا وثمة مطبخ ملحق بغرفة استراحة، أقيم تحت الشرفة ويؤدي اليه سلم ويطل على شرفة اخري.
عثرت اثناء التنظيف على صورة فوتوغرافية لـ (أرثو) الذي سبق له واقام هنا ردحا من الزمن، كانت صورة رائعة تمثله في دور الراهب الذي عشق (جان دارك) في فيلم (دراير).
بدت وجنتاه غائرتين وعيناه حالمتين قاصيتين، كان (انطونين أرثو) يرفض ان يعطي صورة للآخرين، لانه يخشى لعنة السحر، كان يعتقد انه سيتعرض للاذي اذا ما اقدم شخص شرير يفرز الدبابيس في صورته .
ها هو الآن بين يدي: راهب ساحر يقع تحت رحمتي ولكن لن امسه حتى بطرف ابهامي وانما سأحتفظ بالصورة في مكان ما..
 (مدار السرطان) في المطبعة ..
احس هنري ان مرحلة حياة جديدة قد بدأت بالنسبة له، واظهر صديقه (فريد) احساسه بالغبن لان هنري لم يطلب منه العيش معه في (فيلا سورا) بعد ان عاشا معا في الاستوديو القديم .
شاء هنري ان يكون وحيدا قمنا بتعليق اللوحات المائية والبطاقات التي تخص الشخصيات الروائية التي سيكتب عنها (هنري).
صدر كاب (مدار السرطان) لـ( هنري ميللر) في اليوم ذاته الذي استقر فيه هنري في اول بيت حقيقي له .. الكتاب الذي بدأ العمل فيه قبل اربع سنوات بدأه في المحترف .. الذي كان يقطن فيه مع (فرانكل) دائرة مكتملة .. جلسنا جميعا نرزم نسخ (مدار السرطان) ونثبت العناوين لكي نرسلها بالبريد. احس انني مقسمة الى ثلاث نفوس ..
احداها تعيش في ضيعة (لوفيسانس)، لها خادمة اسبانية وتتناول افطارها في السرير، وتأكل لحوم الطرائد التي يصطادونها خصيما لها.. تستمع الى الراديو تصدر الاوامر الى البستاني، تدفع فواتيرها بواسطة (الصكوك) وتسلقي امام مدفأة الحطب وتنسخ يومياتها وتقوم بترجمتها من الفرنسية الى الانجليزية، روح تحكم جوار الناقدة وتقلق بشأن حياتها الراقية المرفهة .
نفسي الاخري في (فيلا سورا) مع هنري ميللر وفرد وسيل لاينقطع من الاصدقاء يأتون ويذهبون، وانا اقوم بتقشير البطاطا واطحن القهوة على الطريقة الفرنسية وارزم الكتب واحتسي المشروبات باكواب وكؤوس مثلومة استغنيت عنها في قمر (لوفيساس) امشي على الطرقات المرصوفة بالقرميد لاذهب الى السوق واقوم بتصليح الجرامفون لان هنري لا يجيد مثل هذه التفاصيل العملية .
استقل الحافلة، اجلسى في المقهى اتحدث طويلا عن الكتب والافلام والكتابة والكتاب .. أدخن بينهم وأرقب دخول وخروج الناس للفيلا فقد اقام هنري علاقات صداقة مع الجيران، اولهم (دي ساجريت) الذي كان ياتي خارجا من غرفة نومه الى شرفته، ثم الى شرفة هنري ويتجه الى السلم .
كما ان هنري اقام صداقة مع المرأة التي تقيم في الطابق الارضي.. وهي سيدة كانت تعيش في اليونان، وصداقة مع مصور فوتوغرافي يعيش في الطابق تحت الأرضي.
نفسي الثالثة تلك التي تجاهد لتتعلم وتكون كاتبة محترفة تكتب كما تريد وتؤمن وتساعد (د. راتك) ليبدأ حياة جديدة مثلما ساعدها لتصنع حياتها من جديد.
شخصية تتوق لكل ما هو مجهول وغير مألوف .. اخيرا وعدته ان اذهب الى نيويورك لمدة شهرين احس ان الشهرين يبدوان قصيرين جدا في دورة الابدية .
ذبلت جميع الزهور التي تلقيتها خلال مرضي، اتأمل احيانا باقات الزهور واتمني في سري ان أعود الى ايام نقاهتي- الى لحظات السكون والغبطة قبل ان تستعيد الحياة الدفاقة قوتها ودراماها من جديد.
قاومت العودة الى الحياة الطبيعية مرة اخرى، ثم اندفعت اليها، وبدأت اشعر الآن بنشوة الصراعات الدائمة واستمتع على مدى بضعة ايام بالاختلاف والانفصال والتباعد، اراقب الاشياء عن بعد.. رسائل والدي الوعظية، افراح هنري ميللر اثر صدور كتابه ( مدار السرطان) يقول (د. رانك):
– لقد تعلم هنري الثبات منك .. اما انا فقد تعلمت السرعة والتغير منه .. الاصدقاء يغيرون القيم والمفاهيم .
ها هو هنري يتحدث عن حياة الوقار والرصانة .
هاتفني (د. رانك) قائلا: لدي انباء سارة لك .. ستقوم النحاتة (كانا اورلوف) بعرض منحوتة لرأسك في معرضها.
وقال (رانك): سأشتري المنحوتة لاضعها في مكتبتي والنحاتة ترجوك ان تجلسى امامها لتهيىء المزيد من التخطيطات للتمثال ..
قلت لهنري ميللر: حقا انك تبتكر شخصيك في كتبك وتقدمها كل مرة على نحو مختلف .. ففي (مدار السرطان) كنت مجرد شخص معني بالجنس والطعام، اما في كتابك الثاني (ربيع اسود) فقد بدأت تمتلك عينين ويدين وقلبا واذنين ومع كل كتاب كنت تتم تخليق الرجل الذي فيك .
وستصبح فيما بعد جديرا بالكتابة عن المرأة .. ولكن ليس الآن .
ولكن لماذا وهبت (العينين) في كتابك لشخصية (براساي) المصور الفوتوغرال ! لقد كانتا عينيك وقمت بوصف ما ترده انت وليس ما يرده (براساي) لماذا جعلت (لوينفليس) شاعرا؟
انها قصائدا تلك التي كنت تثني عليها وتمجدها في هذا الكتاب ..
تقيم العرافة في شقة معتمة رثة وسط حي عمالي قرب منطقة (كيشي)..
اناس فقراء ينتظرون في غرفة المعيشة ذات اللون البني وا شجار النخيل الصناعية واحواض الاسماك الزجاجية واوراق الطالع التي علقت على الجدران: مديرات منازل، بوابو عمارات، عمال، نساء حوامل امناء مخازن، كم يتوقون للامل ؟ كم يحتاجون الى معرفة ما يجهلونه عن انفسهم ؟
احسست بالخجل لانني هنا لأسائل شخصا ما عن قدري.. فكرت بتفسيرات (فرويد) عن العرافين، (ان لديهم القدرة على قراءة ما تفكر فيه ويجول في ذهنك) . .
لعلني لم ادرك بعد ما الذي يعنيه فقداني لـ(د. رانك) الذي سيسافر الى امريكا.
اتراه سيكون فقدانا حقيقيا واكيدا: كفقداني لابي؟ لعلني كنت اخشي المستقبل شأني شأن هؤلاء ألبؤساء من العمال المنتظرين هناك .
طلبت مني العرافة ان اذهب ال غرفة الطعام .. انها امرأة ذات هيئة مرهقة، نحيلة بشعر أشعث واظفار قذرة، هناك آنية زهور اصطناعية فوق المائدة، وعلى الخودن المعتني بتنظيم محتوياته كرة زجاجية، التقطتها المرأة روضعتها وسط مائدة الطعام على قطعة نسيج حمراء ثم اخبرتني بلغة خفيفة ناتجة عن فقدانها احد اسنانها انها ترى رجلا في البحر، في طريقه الى امريكا، وهو من ذكرني بـ(د. رانك)، رأت سفرتي القادمة الى امريكا ونجاحي في عملي الجديد.. كانت ترى الآخرين على مقربة مني مشوشين وغير واضحي المعالم ولكنهم في محنة ..
ترى عودة ابي.. رجل يناهز الخمسين، رجل سبب لي الاذى، ولم استطع الانسجام معه والذي ضيعت بسببه عواطفي وقواي.
رأتني العرافة اوقع على ورقة ..
هذا كل ما هنالك ؟.. هذا كل شيء؟ اهذا كل ما تستطيع قوله للمرضى والمذعنين والبشر المتعبين الذين كانوا يجلسون في غرفة الانتظار؟
هربت لانساها.. وذهبت لزيارة (مانويلا ديل ريو) لارتب الأستعدادات للتمرن على رقصاتي القديمة .. كان رانك يصر على ان اعود لممارسة الرقص من جديد، احببت حذاء رقصها المغبر وصنوجها الرثة، ارديتها الحمر البراقة، ثيابها الارجوانية وامها ذات العين الواحدة والتي تشبه (القوادات) وكب (البودل) وصندوق الملابس المعد لعرض الرقص في لندن .
غرزت في شعري مشطا اسبانيا وتحدثت عن رائحة المسرح قبل ان اشمها حقيقة ولكن ما ان سمت ما نويلا تقول:
– يوم الاثنين في الحادية عشرة في (ساحة البيجال) في استوديو بيجال .
كان ذلك كافيا لاتم الرائحة .. اضفت الدانتيلا السوداء لثوبي واعطيت اوراق الكتابة كلها لهنري ميللر لانني لست واثقة من انني سأواصل كابة الكتب حاليا.
بدأت اعد حقائبي للرحيل الى نيويورك واخرجت صوري الفوتوغرافية من اطرها؟
ان التفاصيل الصغيرة التي تمنحنا المتعة ليست ضرورية لعالم الافكار.. انها تدرج في الحياة من اجل المتعة: جمال وقبح تفاصيل الحياة: الرائحة المبتذلة للملفوف الساخن، رائحة العالم، بعد دوامات الاحلام والافكار تجيء الاشياء الملموسة الدافئة، والاشياء السقيمة الفجة .
عندما كنت فتاة صغيرة كنت احب اللون الازرق، والآن البرتقالي، ولكني وجدت ان البرتقالي يكمل الازرق، حزمت مخطوطة كتابي ( بيت سفاح القربى) ودفاتر يومياتي ومخطوطة (شتاء الخديعة)، ذهبت الى (د. رانك) لاحلل اسباب صراعي مع ابي ثم لم افعل شيئا سوى اضافة اب آخر لحياتي وفقدان جديد.
عاد ابي الحقيقي من مدينة (كان) مريضا، واقمنا حوارات رقيقة ناعمة واطعني على يديه المصابتين بالاكزيما واحسست في اعماق اوهامي بشيء من الحب ازاءه وابدي حزنة وفجيعته بسبب سفري الى نيويورك .
آلمني ان اؤجر بيتي (لوفيسانس) للغرباء.. كان علي ان اخلي البيت واخزن الاشياء في المخزن، كانت النوافذ عارية من الستائر في آخر ليلة امضيناها هناك، وكان القمر قد شق طريقه الى النوافذ مثل ضوء ثلجي، مستحيل مؤثر وراء الاغصان العارية السوداء.
رأينا الفجر يبزغ ايضا، انه قمر (بيلياس وميليزاند) وفجرهما.
لقد اقتلعت نفسي من عالم حكايتي الخرافية وتخليت عن قوقعتي وعشي وملاذي.
مستلقية في سريري الفارسي، انظر الى الحديقة محمومة بالذكريات وانا انظر الى الوسائد البرتقالية والصندوق الصيني الاحمر والظلة الفارسية التي كدست معا، الاثاث في الشارع . البوابة الخضراء الكبيرة مفتوحة والبيت خلا من محتوياته، البيت خال ومفتوح مثل هيكل عظمي والزجال يتحركون ليغلفوا قطع الاثاث العزيزة بالبطانيات البالية .
كيف يمكن العيش في الحاضر عندما لا يكون ثمة احد هناك في الوقت ذاته ؟
لا احد يتقاطع معك او لا احد بوسعه الرد على اسئلتك، ان الحاضر مصنوع من متعة تصادم جسدين غير سماويين في اندماج مساوي.
 تشرين الاول 1935
اعمل طوال الصباح في كتابي (شتاء الخديعة) ثم أسير بعد الغداء على ضفاف (السين) احس بسعادة غامرة لكوني قريبة من النهر..
تتناهى الى سمعي فجة المقاهي، لا املك نقودا، اغمض عيني عندما أمر امام المخازن .
 (هنري ميللر) يعمل هو الآخر ويحذف بضع صفحات لم ترق لي فيها خطابية ومواعظ وشيء من الاسفاف .
كان واضحا تماما ان (السوريالية) تعني شيئا مختلفا بالنسبة لهنري، فأنا امتك اسلوبا بسيطا، كما ظهر ذلك في كتابي عن والدي، اسلوبا مباشرا شبيها باليوميات والكتابة الوثائقية، اما اسلوب هنري فانه يمتاز بالثراء ويبدو خاليا من المعنى بالنسبة لعقل متفحص .
استدير وأعود للكتابة ..
الصفحات المعدودة التي كتبتها عن والدي، كانت عميقة تؤثر في مشاعر قارئها، فقد كنت امينة تماما وانجزتها باسلوب بسيط خال من الزخرف، كان كل ما يشغلني هو كيف سأكتب ما اريده بعفوية تامة .
انهيت الصفحة الاخيرة من (شتاء الخديعة) وهي صفحة تخص ذكرياتي يوم افقت من التخدير فرأيت فتاة صغيرة ميتة بأهداب طويلة رأس صغير، هذه الفتاة التي ماتت في داخلي وبموتها ماتت حاجتي الى (الأب) العاطفة الجياشة التي كتبت بها السطور الاخيرة من الكتاب كانت من القوة بحيث انني لم اتوصل آلى ادراك معانيها الا في وقت متأخر جدا.
لم ينته الكتاب .. انه في منتصف رحلة الكتابة كتبت الصفحات العاطفية في هذا الكتاب دونما ترتيب ثم بدأت املأ الفراغات واشكل مباني الكتاب وكنت في مزاج جاد ميال الى العزلة والاعتكاف ولم اعرف اية متع سوى متعة الكتابة المتقشفة .
مفتاح عمل هنري ميللر ينحصر في كلمة (التهكمية) فهوا لتهكمي المضحك في موضوعة الجنس والتهكمي في الافكار، المضحك في (هاملت) والمضحك في (برجسون) او (مينوفسكي)، المضحك في الحياة .. اما ما احسه انا فهو امر عميق للغاية وبالتالي مغرق في انسانيته .
كتبت هذا الكتاب عن والدي فأحسست بالوحدة لانني انتزعت نفي من اجواء (هنري ميللر) والحياة في (فيلا سورا).
ان الصراع ما بين ذاتي الانثوية التي تريد العيش في عالم محكوم بقانون الرجل وتحيا في تناغم مع الرجال – وبين المبدعة القادرة على ابتكار عالم وايقاع ينتميان اليها- هذا الصراع ادي الى استحالة وجود احد يشاركني عالمي الخاص، ثمة رغبة لدي للاكتشاف ولدي احتداماتي وانفعالاتي: لدي المخيلة والبهاء..
انتهيت من كتابة الصفحات العاطفية حول والدي في كتاب (شتاء الخديعة) فانتهى الصراع مع ازدواجية وتناقضات كتابة هنري..
انه يعبر. عن فكرة ما ويوشك ان يتحدث عن الجانب الساخر فيها في الوقت ذاته … يطرح الفكرة ثم يسخر منها..
دار بيننا حوار صاخب حول ما اريد البرهنة عليه: يمكن للانسان ان يكون معارضا لا متناقضا لان الابداع سيكون مستحيلا في حالة التناقض . لابد للابداع ان ينحاز فهناك مدى بين النسبية والتعارضات الهدامة ..
قال هنري: التهكمية – انها وسيلة للهدم .. نعم، ان موهبة هنري مكرسة للهدم .. ولكن ما الذي يهدمه ؟ عالم الافكار؟
ان افضل وسيلة لتخريب عالم الافكار هي في العيش والكتابة عن الحياة والاهو اه والرغبات .
لكنه لم ينصرف عن الافكار ففي لحظة بدا منتشيا بفكرة (الموت) فقد اثاره موت (فرانكل) وايقظه مثلما فعل بي (د. هـ. لورس) وبدأ مقالته من (الموت اللعين لفرانكل) باربع صفحات رصينة ثم أنهى الموضوع بعشرين صفحة تهكمية ساخرة .
بدءا من اليوم الذي تحدثت فيه الى النحاتة (جين) القيت نفسي ثانية في دوامة الحياة: البالية – الحفلات الموسيقية – التقيت (رينيه لالو) و(كاربنتيه) و(سلفادور دالي) .
وحل محلي في ( فيلا سورا)، التي لم استطع الانسجام مع اجوائها حل نوع من (الدادائية) واوصدت الابواب بوجهي، ولم اعد قادرة على كسب قوتي في عمل (المحللة النفسية)، دون وجود (د. رانك) والفيتني عاجزة عن الشروع في عملية انشاء دار نشر لان فرانكل هيمن على المطبعة ولم يكن بوسعي السفر وانا خالية الوفاض.
قال هنري: اشعر باليأس ازاء بلادة العالم .. فلم يعثر على الصدى الذي ينشده .
كنا نتحدث ونحن نسير على ضفاف السين والضباب يدوم حولنا وكأننا في متاهة تماثل مزاجي الكئيب . التقيت الشاعر: (جول سوبرفيل): عينان نديتان حالمتان، ورجل مسكون له جذور بشرية، انه امريكي جنوبي، بشكل ما.. كتب حكاية خرافية غنائيا ممتعة وانجز قصائد رقيقة، وهو مولع بالغموض والفانتازيا قرأ لي قصائده الجديدة بشيء من الشجن .
تحدثنا عن (السوريالية)، لم يكن (سوبرفيل) يميل الى السورياليين لأنه ينشد البساطة والانسانية، واتفق معي بأن الاحلام تمتلك الصفاء والوضوح – انه يحلم ليل نهار ويكره (السوريالية) لانها ضرب من فوضى تنافي كل منطق .
لقد ابتكر (سوبر فيل) عالما من ابداعه ليس ببعيد عن الواقع عالم مسكون بالاطفال والفكاهة والغرابة والبحر والبيوت والحدائق والحيوانات .
وقال انه كان يحاول دوما الامساك بالرجل الذي يريد ان يصير اليه .
أناييس نن
 روائية، ناقدة، كاتبة يوميات ..
اسبانية الجذور فرنسية الثقافة – امريكية المقام ولدت سنة 1903، في ضاحية ( فويي) الباريسية وتوفيت بالسرطان سنة 1977 في لوس انجلوس .
من اهم اعمالها:
(عشرة مجلدات من اليوميات (ترجمت الى لغات عالمية عديدة
 الروايات: اهمها: شتاء الخديعة، جاسوس في بيت الحب غرف القلب الاربع .. سلم الحريق ومن قصصها: اطفال القطرس – دلتا فينوس – تحت الناقوس الزجاجي.
اول كتبها كان دراسة نقدية عن د. هـ لورنس لها كتاب ( مدن داخلية) و(حديث امرأة).
عملت في مستهل حياتها موديلا للرسامين وعارضة ازياء – وراقصة اسبانية – ومحللة نفسية مع ( د. رانك).
 قفز اسمها الى قائمة أعلى المبيعات في امريكا وبريطانيا بعد وفاتها بشهور.
القت عددا هائلا من المحاضرات في الادب والنقد وكانت تعتاش من اجور محاضراتها وريع كتبها.
تكمن اهمية يومياتها في انها بانوراما غنية لاحداث قرننا العشرين الثقافية والنفسية والسياسية .
 
 
 
(ترجمة:لطيفة الدليمي(مترجمة وكاتبة من العراق


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads