الرئيسية » » النسق المعرفي والثقافي: أزمة التبعية ومصر المستقبل | د.حاتم الجوهري

النسق المعرفي والثقافي: أزمة التبعية ومصر المستقبل | د.حاتم الجوهري

Written By هشام الصباحي on الأحد، 18 ديسمبر 2016 | ديسمبر 18, 2016

النسق المعرفي والثقافي: أزمة التبعية ومصر المستقبل

                                                                                                د.حاتم الجوهري

أحيانا ترجع بعض الخطوات للوراء،
 لكي يمكنك الرؤية بشكل أفضل..
في علاقتي بالحالة المصرية أعتقد أن الأزمة والرؤية والقرار كان مبكرا جدا، في تسعينيات القرن الماضي حينما كتبت الشعر كمنبر للعلاقة مع الجماعة في ظل تداعيات داخلية وخارجية؛ وجدت أن الشاعر والجماعة والمنبر ليسوا علي نسق واحد، وكل منهم يغني على ليلاه، المنبر كاد أن يختفي، والجماعة وظرفيتها لم تعد في حاجة لروح الشاعر المبصر، والشاعر إما تنمط بنسبة وارتدي رداء "الشكل الأدبي" السائد، أو اختار الابتعاد مثلي، ليحاول أن يفهم العالم من زاوية أخري، رغم أن الشعر ظل هو حائط الصد الأخير في هذا العالم.

التبعية وافتقاد الفكرة المركزية:
وابتعدت وأخذت القرار بالمعرفة وسبيلها، وحاولت أن أصل للأنساق الفكرية الكبري التي تحكم المشهد المصري والعربي، وشيئا فشيئا، أدركت الأزمة بين النظرية والتطبيق، بين التبعية والاتساق مع الذات، والأزمة أنك في مصر كلما اتسقت مع الذات لابد ستبتعد عن المشهد، لأن المشهد برمته تابع في أبنيته الكلية. وفي المقابل هذا البعد حينما تتسق مع الواقع وظرفيته وتبتعد عن "النمط المعرفي" السائد على كل المستويات، سيدفع في اتجاه المراكمة في بناء رؤية لأزمة المجتمع المصري، تتجاوز التناقضات الجاهزة بين الفصائل السياسية أو الأبنية الاجتماعية. أزمة المتجمع المصري أنه يفتقد للفكرة المركزية فى البناء عليها.

المهمة مزدوجة: ما تغير واستشراف البديل
كل مجتمع له طبيعة خاصة به، ذاتيته الحاكمة التي منها يتفرع –كما هو مفترض- كل الأشكال الإنسانية الأخري التي تحكم وجوده، واختصارا لعرض فكرتي المعرفية سأتحدث مباشرة: المجتمع المصري كانت تحكمه فكرة إنسانية او فلسفة للحياة، ترتبط بطبيعته وذاتيته الخاصة، الأزمة الآن أن طبيعة المجتمع وذاتيته التاريخية قد تغيرت، ولكن الفكرة والمسار الإنساني الموروث الذى يحكم وجوده كفلسفة للحياة لم يتغير، إذن تصبح مشكلة الظاهرة الإنسانية التي أمامنا في مصر ويجب مقاربتها ذات شقين، الأول: الكشف عن الذاتية او الطبيعة التي تغيرت، وما هي الطبيعة الجديدة. الثاني: الكشف عن الفكرة الحاكمة المرتبطة بها، وكيف تغيرت وما الحلول من أجل استشراف المستقبل.

نهاية الدولة المركزية: للسيطرة علي المياة
 وتوزيع ودمج السكان اقتصاديا
تكونت مصر وذاتيتها عبر التاريخ حول فكرة النهر القاهر الذى يحتاج لسلطة مركزية، لتنظيم عملية الحياة وطرق مواجهة النهر وفيضانه او جفافه، وهذه الطبيعة مكنت السلطة المركزية من فرض "النمط الإنساني" على سكان دلتا النيل وصعيده، وهو ما جعل الفكرة الإنسانية التي تحكم الشعب المصري هي "فلسفة التكيف" (كما رصدتها في كتابي المصريون بين التكيف والثورة)، وتحول "معيار القيمة" المفترض في الثبات النسبي او بطء التغير، إلي "معيار للتكيف" والتعايش مع النمط السائد الذى تفرضه السلطة المركزية أيا كانت وأيا كان ذلك النمط.

السد العالي: السيطرة علي النهر،
والحاجة لفكرة مركزية جديدة للدولة
لكن انتهت سطوة الدولة المركزية في مصر، في الخمسين سنة الماضية لعدة أسباب، أهمها: بناء السد العالي والسيطرة علي النهر وترويضه- انتهاء سلطة "الدمج والتسكين" المركزية التاريخية عن طريق إعادة توزيع الأراضي الزراعية في كل عصر (بعد التوزيع الأخير من الدولة المركزية الأخيرة فى عهد عبد الناصر)- ظهور أبنية اجتماعية جديدة تعتمد علي النفط والثروات المستجلبة من الخارج (عادة ما أنشات مجتمعات عمرانية خاصة بها فى المدن الجديدة والقديمة)- انحسار مساحة الأرض الزراعية وقلة المياة وتغير سلة المحاصيل وهجرة الزراعة وضعف مساهمتها فى النشاط الاقتصادي للدولة ككل- تراجع سلطة "الجهاز البيروقراطي" المصري الذى كان أداة للضبط وخلق "أنماط التكيف" و"النمط السائد"..

الدراسات الإنسانية والبحث عن نسق جديد:
نحن أمام مهمة معرفية وهدف علمي جديد كمهتمين بالدراسات الإنسانية وواقع المجتمع المصري كقاعدة للانطلاق، الهدف المعرفي الجديد ليس بالصوت المرتفع ولا بالمزايدة ولا الصدام مع السلطة التي تعبر عن بقايا دولة المياه وبنيتها التاريخية، بل إن الجهد الحقيقي يجب أن يكون في الكشف عن أفول النسق التاريخي للحياة في مصر، والحاجة لنمط جديد علينا ان نشير له، ولحتمية الوعي به للخروج من دائرة الصدام والجمود والأزمة! حتمية الوعي بانتهاء الفكرة المركزية الحاكمة للمجتمع المصري، وضرورة البحث عن فكرة جديدة لعلاقة السلطة بالمجتمع، بل البحث عن بنية اجتماعية جديدة لإعادة صف المجتمع وترتيبه.. هذا هو لب السعي الثقافي والمعرفي الحقيقي في مصر الآن.

الفكرة أم البنية أولا:
تفككت البنية التاريخية لدولة المياة في مصر، ولدينا بقايا لموروث "فلسفة التكيف" وخلق "النمط السائد" عند الجهاز البيروقراطي، والسلطة الحالية بوصفها الوريث لدولة المياة المركزية.. ومن جهة أخري البنية الجديدة غير المرتبطة بدولة المياة، أنتجت أفكار تقوم علي: الحرية، وتعدد الأنماط، والمواجهة وكشف المسكوت عنه، ولأن أفكارها لا تجد لها المستقر بعد في بنية دولة المياة المركزية، فنجد محاولات تتراوح ما بين: الهجرة، ومحاولة خلق أنماط فكرية جديدة تسود في وسائل خارج سيطرة آليات السلطة الحالية، علي وسائل التواصل الحديث مثلا..
من هنا يترسخ الصراع وسوف يزداد عمقا، بين بنية سلطة تحاول العمل من خلال فكرة مركزية انتهت فعليا على الأرض، ومجتمع يتمرد ويعبر عن فلسفته الوجودية الجديدة.. والمشكلة تتضح أكثر في: إن الدولة لا تملك بنية لفرض آليات التنميط كما كان يحدث عبر التاريخ، ولا المجتمع يملك السلطة لفرض بنية اجتماعية تتسق مع طبيعته القائمة على الحرية والتعدد.

الأرض والمجتمع و"النسق الإنساني" الجديد:
سأميل هنا لمصطلح يتجاوز الأيديولوجيا التاريخية، في البحث عن نسق حامل للمستقبل للمجتمع المصري، وهو ما سأسميه "النسق الإنساني" ليشمل المعرفي والاجتماعي والثقافي والحضانة البشرية ككل، وهو أقرب لتصوري لفكرة الحضارة كوعاء للوجود الإنساني كما طرحته فى كتاب: المصريون بين التكيف والثورة.
النسق الإنساني الجديد لحل أزمة المجتمع المصري فى لحظته المفصلية هذه يجب ان يقوم على علاقة جديدة بالأرض وخلق أبنية إنسانية جديدة (الأبنية الإنسانية تتجاوز المفهوم المادى والمثالي وتخلق مركزيتها الخاصة). الفكرة المركزية الجديدة للمجتمع المصري يجب أن تنتظم حول توزيع عادل للأرض الجديدة وخلق مجتمعات إنسانية جديدة، تنتظم حول أنشطة إقتصادية ترتبط بطبيعة مصر الذاتية، واستغلال مواردها الموجودة بالفعل..

الحضارة الجديدة والأرض الجديدة
علمنا التاريخ أن أى سلطة جديدة او حضارة جديدة، عادة ما ترتبط بالأرض الجديدة أو تشييد وبناء عاصمة جديدة لها، لكن ما أطرحه هنا مغاير نوعا، ما أطرحه هنا هو خلق ذاتية جديدة للمجتمع المصري لخلق فكرة مركزية جديدة، تقوم علي إعادة توزيع الكثافة السكانية (بوعي معرفي وسياسي مقصود)، لدينا عدة بقع جغرافية في مصر تصلح لتكون مجتمعات إنسانية جديدة تقوم على العدالة والحرية وتعدد الأنماط (كطبع غالبية المواليد الجدد في مصر الآن)..
وهذه المجتمعات الجديدة ستحل المعضلة التاريخية؛ التي عبرت عنها صدمة 25 يناير في حينه، ستجد المعبر بين السلطة وريثة دولة المياه المركزية وفرض النمط السائد، وبين الأجيال الجديدة نبت الحرية والتعدد ورفض القهر وآليات التنميط، شريطة العدل في ترتتيب البنية الاجتماعية للمصريين والسعي لـ "المجتمع الفعال" الذي يفرز أفضل عناصره عن طريق الحراك المفتوح وليس الاختيارات المسبقة.

ما الذى يحدث الآن:
الذى يحدث الآن أن السلطة لأنها غير مدركة لعملية التحول التاريخية التي حدثت في المجتمع المصري، تحاول التمسك بآليات السيطرة والتنميط وخلق "النمط السائد" صناعيا أو فوقيا عن طريق التوجيه السياسي المباشر غير المستند لأبنية اجتماعية تاريخية، عن طريق "إدارة التناقضات" للسيطرة على أبنية المجتمع المصري، كما أن مثقف السلطة يقوم بدوره الوظيفي لا دوره المعرفي؛ يحاول أن يتصارع مع أبنية الأجيال الجديدة لا أن يفهما ويقدم النصيحة الأصوبـ للسلطة في البلاد. والنتيجة: الصدام مستمر، والذي سيدفع بالبلاد في اتجاه الجمود والتحجر، ولا هذا الطرف سينجح في الأخذ بالبلاد للمستقبل ولا ذاك الطرف!
ما أطرحه الآن باعتباري من الذين كرسوا حياتهم لفهم معضلة التناقض في المجتمع المصري، ووصلت في خاتمة كتابي عن نطرية الثورة في مصر؛ إلي أن ما يحدث في مصر هو "ثورة قيمية" علي فرضيات ومورثات التاريخ المصري وفلسفة التكيف كعقيدة فرضتها دولة المياه علي سكانها.. هو الدعوة للحوار والنقاش المعرفي لتسليط الضوء على تفكك الفكرة المركزية لمصر القديمة، وضرورة الحركة في اتجاه "النسق الإنساني" لمجتمعات عمرانية جديدة تخلق النط الحضاري الجديد لمصر وتحل الأزمة بين مفهوم سلطة دولة المياة والنمط الواحد، ومجتمع الحرية وتعدد الأنماط.
رسالتنا التي يجب أن نرسلها للدولة المصرية، أن الزمن تغير ومعه تغيرت طبيعة البلاد، ذلك هو النسق المعرفي الذى يجب العمل من أجله، والبحث فى استشراف آفاقه الخاصة بعيدا عن التبعية المعرفية، فمثلا هذه المجتمعات اللإنسانية الجديدة ستعبر عن علاقات إنسانية جديدة، الأولي بنا كمهتمين بجدية بالدراسات الإنسانية وانعكاسها على الوطن ومستقبله العمل عليها، وكشف أهميتها كبديل مركزي للمستقبل وفكرة مركزية جديدة حاكمة لمصر.

  خاتمة:
لقد حدثت الثورة بالفعل قبل 25 يناير بفترة طويلة، حينما تغيرت البنية التاريخية للمجتمع المصري وتفككت عبر أكثر من نصف قرن مضي! ويناير كانت مجرد ذروة للصدام ولفت الانتباه. والمهمة الآن هي إيصال الرسالة لبنية الدولة التاريخية وورثتها ومثقفيها والمسئولين عن نسقها المعرفي والوجودي والدفاع عنه! الهدف الأسمي هو ضبط النسق المعرفي لبنية الدولة لتصدق أن عليها الاستجابة لذلك التغير المجتمعي التاريخي.
علاقة "النسق الإنساني" الجديد بالمعرفة، أنه سيتحول لفكرة مركزية جديدة يتفرع عنها أبنية إنسانية جديدة على المستوى الفلسفي والفكري والسياسي والثقافي والأدبي والاجتماعي والفني، سيتحول لفكرة مركزية جديدة تعيد صف وبناء المجتمع المصري ككل، خاصة حينما يستقر النمط في تلك المجتمعات الجديدة، ويبدأ في الانتقال للمدن القديمة في مصر.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads