الرئيسية » » طائرٌ على النافذة | سوار ملا

طائرٌ على النافذة | سوار ملا

Written By هشام الصباحي on الخميس، 23 فبراير 2017 | فبراير 23, 2017

منذ وقتٍ طويل لم أتحدَّث كما فعلتُ اليوم. تكلَّمت إلى كلّ شيء صادفته، إلى الجدران المطلية بدهان برتقاليٍّ منذ يومين، إلى البراد المعطّل الذي ينتظر من يرميه خارج البيت، إلى ساعة يدي المتوقّفة منذ عامٍ، إلى كلّ وجه حاصرته شاشة التلفاز، إلى أرقام مجهولة في هاتفي، إلى ذاكرتي المستندة على الزمن، الذي يمرّ ثقيلاً ثقيلاً. نال منّي التعبُ، لكنّه لايزال ممكناً بعدُ، النظر من خلال النافذة نحو سحب نقيّة تدور كراقصاتٍ حول قمرٍ ضئيل أنهكته نظراتي القلقة.

***

حينما ولدتُ حضرَ الصيف. حضرت الشمسُ، حضرت السماء الصافية، حضر الجبل الشديد الزرقة، حضرت السحابة الرقيقة اللامرئيّة، حضرت الأصواتُ الصاخبة، حضرَ الوجود وبدأ البكاء، بدأت الدموع الغزيرة مثل أمواجٍ هاربةٍ من مركز العدم، الجاف، ولم تخمدْ بعدُ.

***

كلّ ما ألمحه في الخارج، خلف النوافذ الموصدة، يجعلني أنظر إليه بخشيةٍ. أحسّ أن العالمَ في الخارج عدوٌّ للعالمِ في الداخل. حين أخرجُ أصيرُ عدوَّ نفسي. لذا، أقضي الكثير من الوقت معتكفاً في مأواي الضيّق، شاعراً ببعض السكينة تجاه ذاتي وبعض الخوف تجاه الآخرين الذين يقضون جل وقتهم خارجاً. أنا الآن في الخارج وأخشى على نفسي منّي ولا أزال أُبعد بصري عن كلّ شيءٍ قد يعكس صورتي فأراني. أحنُّ أبداً إلى مكاني الهادئ، وطوال الوقت أستعجلُ لأصل إليه.

***

يسكنني الخوف كلغزٍ.
الخوفُ يؤلّف روحيّ مُذ تكوَّنتُ.
ولا أعرفُ بعد، من يُسرّ بدل ذلك، حيث لا شيءَ بالمجان في هذا العالم.
لا أعرف من، لكنني متأكدٌ أنّ أحداً ما ينتفعُ جرّاء ذلك، وهذا هو العزاءُ الوحيد لي.
أخافُ فينتفعُ أحدٌ ما. يا له من عمل نبيل!
الآن أشعرُ بالخوفِ فيحسّ آخرٌ بالسعادةِ.
أنا فرحٌ إذن، لأَنِّي خائفٌ، ولأنّه ثمّة أحدٌ ما لا أعرفه، فرحٌ أيضاً لأني خائفٌ.
هذه الليلة يخطرُ لي أن أؤجّل لقاءَ نهاية الأسبوع كيلا ينقصَ خوفيّ فتختلّ سعادة أحدٍ ما.

***

لا يبرحني الخوفُ وقلبي يخفقُ على الدوام مثل محرِّكٍ يقاومُ ضعفَ الطاقةِ فيُجهَد كثيراً.
تافهاً يبدو الخائف، وهو في الحقيقة أكثر تفاهة مما يبدو بكثير.
حيث ما الذي يجب أن يعنيه الخوف من الموت مثلاً، لكائن لا يعرفُ من أين قدمَ ليعيشَ هذه الحياة التي لا يعرف عنها شيئاً على الإطلاق ؟..

***


إلى أبي..

1

تذكَّرتُكَ مرتين هذا الصباح،
أول مرَّة حينما سمعتُ صوتاً يردِّد اسمي بلطفٍ ولم أكن أقوَى على الالتفات نحوه، ومن ثمَّ، عندما مررتُ في شارعٍ مكتظٍ بآباء يلوّحون لأطفالهم خلف سور المدرسةِ، وكان أحدهم طويلاً وشفتاه تتبسّمان بلا انقطاع.

2

أحنُّ كثيراً
فأكتب لك رسائل طويلة لن تقرأها أبداً.
في آخر رسالةٍ دوَّنتُ كلّ ما أريدكَ أن تعرفَه عنّي وأسقطتُ الورقة في نهرٍ يصنع قوساً حول مقبرة البلدةِ.

3

قضيتُ الكثير من الوقتِ في التفكيرِ مذْ ولجتُ البيت، واستدلّيتُ على صورةٍ في مخيِّلتي، تحملُني فيها طفلاً وتسرع بي نحو بحيرةٍ يغرقُ فيها شابٌ
خارت قواه فجأةً.

4

اعترفنا قبل أيَّامٍ في جلسةٍ دافئة، قائلين:
"إنَّه في مكانٍ أفضل لا شكّ، ولأنّه طيّب فاستحق الراحة الأبديَّة باكراً".

5

لم تُنسَ.
وهذا القلق النابض في صدورنا لا نهدّئ رجفانه سوى بتذكُّر وجهك الغائب وابتسامتك الطويلة التي نبتَت على قبركَ شجرةً لم يزرعها أحدٌ وسقتها سماء بلا سحبٍ.


6

اليوم مررتُ في ساحةٍ خالية ولم أرَ حاجةً لوجودِ غيركَ فيها، أن تقف بجانبي وتضع ساعدكَ على كتفي كما في صورةٍ قديمة أخذناها معاً فَوْقَ جبال عالية.

7

كانت الشمسُ تشرقُ ورياحٌ خفيفة تدخلُ الحجرةَ وتميلُ بعيني نحوكَ، أنتَ الذي هناك، تحت أتربة كدّسها الآخرون فوقك وغابوا فصارت سماءً نبتت منها نباتات لا تثمرُ ولا نعرف نوعها إلا أننا نسمِّيها في قلوبنا: أعشاب أبينا.

8

نمَت السعادة في المكان، تصوّرتكَ تعود من نزهةٍ وفي فمك كلمات مطمئنة لم تنسها منذ تسعة أعوام. أنت تقدرُ على المستحيلِ، وستعودُ كما تخيَّلتُك اليوم بعد أن فتحتُ عيني ورأيت غمامةً بيضاء فوق رأسي تحملُ ذكرياتكَ الحلوة إليَّ.

***

على الدوامِ سيمرُّ الوقت، سيمرُّ بيننا حاملاً كلّ تلك الأحلام التي لم تتحقّق.

سيمرُّ، ثقيلاً، لكنّنا لن ندعه ينقضي هذه المرّة
دونما أن نخطفَ من يده الغليظة
ما نحبُّ.
أيُّتها الحياة الصّعبة، لن نهدأ بعد الآن،
لن نهدأ أبداً.
سنقاتلُ الوقتَ حتى يجيء الزمن الذي سيجيء.
سنقاتلُ الوقتَ حتى يحضر الزمن الذي سيحضر.
لن نهدأ بعد الآن،
سأجرُّ أحلاماً جميلة من بين قدمي الوقت المارّ
وأرسلها إليكِ كلّ ليلةٍ لتضعيها فوق صدركِ السَّاحر، كي تشرب منه نضوجَ الحبِّ.
كلّ ليلةٍ سيشرف طائر على نافذتكِ، طائر ألبستُه نظراتيّ
ليحدِّق في عينكِ المتوهجة كنجم أخيرٍ لا يزول،
في عينكِ السّاهرة كالأبديَّة، في جمالكِ النقيّ مثل زهرةٍ لم تهزّها يدٌ بعدُ.
كلّ ليلةٍ سيطلّ الطائرُ الذي سيفتح عينَيّ عليكِ، فانظُري إليه، انظُري جيَّداً، إنَّه يرتدي شهوتيّ بين حدقتيه.
انظُري إليه، إنَّه يحملُ تأملي في جسدكِ حينَ كنتِ قريبةً منّي، في الليل المتأخّر.
انظُري إليه، إنَّه يطيرُ بالحبِّ مُذ كنّا في الخامسة عشرة ولم ينَل منه التعبُ.
انظُري إليه، إنَّه طائر لا يخاف، لا ينتهي، لا يُحَدّ...
انظُري إليه، إنَّه يجرُّ أحلامي نحوَ تحقّقها، إنَّه طريقي الطويل إليكِ، إنَّه نهايتي البديعة عندكِ.
آه، فقط انظُري... أترين الحبَّ الجميل كلغزٍ، الحبّ الذي خيَّبَ ظنّ الخيبةِ،
أترينه في نظراتي التي تتسلق نافذتكِ الآن، نظراتي التي في عينِ طائرٍ كَبُر في حلمي الأزليّ بكِ،
أترينها وأنتِ تديرين رأسكِ لتنظري نحو الخارج أو إلى غيمة تمرّ فَوْقَ شرفتكِ؟
أتشعرين بحرارةِ الحبّ الذي ليسَ لنا غيره؟


 *شاعر من سورية يقيم في ألمانيا
المصدر موقع ضفة ثالثة
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads