الرئيسية » , , , , , , » حوار مع ايتالو كالفينو..ساحر المدن اللامرئية ومخترق التخوم القصية للسرد

حوار مع ايتالو كالفينو..ساحر المدن اللامرئية ومخترق التخوم القصية للسرد

Written By هشام الصباحي on الاثنين، 23 نوفمبر 2015 | نوفمبر 23, 2015

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي 
عندما سمع الروائي الأمريكي"جون أبدايك"بوفاة إيتالو كالفينو في أيلول 1985 علق قائلا:"كان كالفينو كائنا رقيقا مثلما كان لامعا و قد أوصل الرواية الى تخوم لم تكن لتصلها من غير جهده الدائب الذي أطلق الرواية في عوالم السرد الرائعة والموغلة في القدم". كتب ابدايك هذا في وقت كان فيه كالفينو الكاتب الأكثـر شهرة و سطوة، و كان تأثير قصصه ورواياته الرائعة والمدهشة يمتد أبعد بكثير من حدود بيئته المتوسطية.


 
أجرت مجلة"باريس ريفيو"حوارا مطولا مع كالفينو قبل عامين من وفاته و أدار الحوار"وارين ويفر Warren Weaver"مترجم أعمال كالفينو الى الانكليزية منذ عام 1965، و قد مهد "ويفر"للحوار بمقدمة تعريفية بكالفينو تشتمل على مقاطع سيرية من حياته مع إضاءات شخصية على تفاصيل شديدة الخصوصية تنبئ بعالمه السايكولوجي و بنيته الذهنية و سماته الفردية قلما نعثر عليها في أماكن أخرى، لذا رأيت أن أمهد للحوار مع كالفينو بهذه المقدمة التعريفية المهمة.

لطفية الدليمي


ولد ايتالو كالفينو في 15 تشرين أول 1923 في"سانتياغو دي لاس فيغاس"احدى ضواحي هافانا و كان أبوه مهندسا زراعيا قضى سنوات في البلدان الاستوائية معظمها في امريكا اللاتينية، و كانت امه"إيفا"عالمة نبات تنحدر من ساردينيا و بعد ولادة ايتالو بفترة قصيرة عاد أبواه الى إيطاليا و استقرا في"ليغوريا"و هي ذات البلدة التي تحدَر منها أسلاف كالفينو و فيما اخذ ايتالو يزداد نضجا فقد أعتاد تقسيم وقته بين بلدة"سان ريمو"الساحلية-حيث كان والده يدير محطة زراعية لتزهير النباتات- و بين منزل العائلة الريفي في التلال حيث تفوق الأب ايضا في زراعة الكريب فروت و الافوكادو. 
درس ايتالو في سان ريمو و التحق بقسم العلوم الزراعية في جامعة تورين و واصل دراسته حتى موعد الامتحانات الأولى إذ حدث ان احتل الألمان بلدة ليغوريا و كامل الشمال الإيطالي في الحرب العالمية الثانية فكانت فرصة مناسبة لايتالو و أخيه البالغ 16 سنة للهرب من براثن الفاشية الإيطالية و الانضمام الى حركة المناوئين لها، بدا ايتالو يكتب في هذه الفترة و بخاصة حول تجاربه في وقت الحرب و نشر اولى مجموعاته القصصية في الوقت ذاته الذي عاد فيه لا كمال دراسته الجامعية بعد أن اتخذ قراره بالانتقال من دراسة الزراعة الى الأدب، و خلال دراسته الجامعية اكمل روايته الأولى"الطريق إلى عش العناكب"لم تحظ بشيء من الاهتمام غير ان الكاتب"سيزار بافيزي"مرر الرواية الى الناشر"جوليو اينودي"من تورين فقبلها مفتتحا عهدا من العلاقة المنتجة مع ايتالو كالفينو دامت معظم سنوات حياته، و عندما ظهرت الرواية عام 1947 كان كالفينو قد حصل على شهادته الجامعية و ابتدأ العمل بشكل منتظم مع اينودي. كان الأدب الإيطالي في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية سياسيا و بقوة و كانت"تورين"العاصمة الصناعية الإيطالية هي ذاتها بؤرة النشاط السياسي للكثير من الناشطين من أمثال ايتالو الذي انضم الى الحزب الشيوعي الإيطالي و بدأ بكتابة تقارير في صحيفة الحزب الشيوعي اليومية، و بعد نشر روايته الاولى حاول كالفينو ان يكتب ثانية غير ان الفرصة لم تسنح حتى عام 1952 اذ نشر خلالها نوفيللا بعنوان"الفيكونت المشطور"التي أطراها النقاد و مراجعو الكتب في الصحف مع ان عزوفه عن أسلوبه الواقعي الذي اعتمده في كتابة روايته الأولى قد سبب له انتقادا واسعا و مؤلما من الحزب الشيوعي الذي استقال منه عام 1956 بعد غزو القوات السوفييتية لهنغاريا، و في ذات العام نشر مجموعة من الحكايات الفلكلورية الايطالية، وفي السنة اللاحقة لها نشر"البارون في الغابات"ثم أعقبها عام 1959 بنشر رواية"الفارس المتخفي"و قد نشر المجموعتين الأخيرتين بعد ان أضاف لهما الفيكونت المشطور في مجلد واحد بعنوان"أسلافنا". كان العملان الأخيران اللذان نشرا أثناء حياة كالفينو هما رواية"السيد بالومار"عام 1983 و"قصص حب مؤلمة"عام 1984. توفي كالفينو في 19 ايلول 1985في المستشفى بعد 13 يوما من اصابته بجلطة دماغية.
قابلت كالفينو أول مرة في مخزن للكتب في روما في وقت ما من ربيع عام 1965 و لا تزال ذاكرتي البصرية تحتفظ بصورة لنا في ذلك اللقاء و نحن نرتدي بدلتين خفيفتين. كنت في تلك الأيام مقيما في روما لأكثر من عقد من السنوات و كان كالفينو قد عاد اليها من باريس، وعندما رآني بادرني بالسؤال فجأة – فهو لم يكن يميل الى الإطناب و المقدمات الطويلة –:"هل ترغب بترجمة عملي الأخير Cosmicomics؟"، أجبت على الفور نعم رغم اني لم اكن قد قرأت العمل بعد، التقطت نسخة من العمل قبل ان أغادر المخزن و رتبنا موعدا للقائنا الثاني بعد ايام قليلة. كان كالفينو يسكن مع عائلته في شقة صغيرة محدثة الأثاث تقع في الجزء القروسطي من روما قريبا من نهر التيبر، و لا زلت أتذكر شقته هذه قليلة الأثاث وكيف كانت الشمس تغمر جدرانها البيضاء حيث التقينا ثانية بعد لقائنا في مخزن الكتب و تحدثنا عن كتابه المذكور و كنت قد أتممت قراءته للتو. اعلمني كالفينو انه كان قد اتفق مع مترجم انكليزي على ترجمة عمله هذا لكن هذا الأخير فشل، حسبما يرى كالفينو، فأحببت ان أعرف سبب فشله فأخذ كالفينو يستعرض أمامي بعضا من مراسلاته مع المترجم و قرأت في واحدة منها كيف ان المترجم أختار ان يضع عبارة"بالأسود و الأبيض In Black and White"عنوانا لإحدى قصص كالفينو التي كانت في الأصل بعنوان"بلا ألوان Without Colors"و قد رأى كالفينو في هذا الأجراء نوعا من وهمٍ فائض و قناعة بأصالة فائقة تبيح لك ان تفعل ما تريد!! و قرأت في رسالة كالفينو الخاصة بالاستغناء عن خدمات المترجم إشارة تقول ان الأسود و الأبيض ينتميان الى طائفة الألوان، و بعد أن قرات التفاصيل وافقت على العمل في ترجمة أعمال كالفينو الى الانكليزية وكانت ترجمتي الأولى له قطعة متواصلة من تاريخ مضن للغاية فقد حدث ان اتبع الرجل نصيحتي غير المحظوظة و تعاقد مع ناشر جديد لأعماله بعد تعقيدات تنظيمية مع الناشر الأول غير ان المحرر الرئيسي لدى الناشر الجديد انتحر بعد فترة من بدء العمل و هكذا ظلت مخطوطتي المترجمة محفوظة في الأدراج ورفضها الناشرون الآخرون حتى وافقت دار نشر هاركورت بريس والتي استمر كالفينو ينشر فيها أعماله طيلة حياته. لقيت ترجمتي بعد نشر الكتاب تقريضا ممتازا من جانب مع نقد شديد العدائية من قبل شخص يمكن التنبؤ بهويته ببساطة فائقة: ذاك هو المترجم الاول للعمل الذي استغنى عنه كالفينو، و قد حاز الكتاب على جائزة الكتاب الوطني للترجمة. 
منذ عام 1966 و حتى وفاة كالفينو في 1985 لم يمر وقت دون ان أترجم فيه شيئا من أعمال كالفينو و كان ممكنا بل ومن المعتاد دوما ان يتصل بي و يطلب ترجمة بضع صفحات من كتاب بسرعة قصوى مع التشديد على اعتبار ان للموضوع أسبقية على كل ما عداها، أو يحدث ان يطلب احيانا ترجمة كلمة له كان سيلقيها في برنامج تلفزيوني كندي او مقدمة قصيرة لكتاب ما. كان كالفينو يحب الأعمال الغريبة، فرواية"قلعة المصائر المتقاطعة"عام 1969 ولدت كتعليق على حزمة من أوراق اللعب"التاروت"المحفوظة منذ عصر النهضة. عندما تعمل مع كالفينو عليك دوما ان تزن كل كلمة تكتبها فقد كنت أتردد لدقائق في كيفية ترجمة أبسط المفردات الايطالية مثل"جميل Bello"أو"سيئ cattivo"إذ كان ينبغي لك وفي كل المواضع ان تمتحن كل مفردة بتدقيق و اذكر إنني حين كنت أترجم"مدن لا مرئية"كيف اعتاد الزائرون ان يسمعوني في نهاية الاسبوع و أنا أردد مقاطع من العمل بصوت عال لأتأكد من كل شيء.
لا يعتز الكتّاب عادة بمترجمي أعمالهم و لطالما انتابني شعور طاغ ان كالفينو كان يفضل ترجمة أعماله بنفسه و قد احب في سنواته الأخيرة ان يجري تغييرات على نصوصي المترجمة لأعماله بلغته الانكليزية الخاصة و لم تكن هذه التغييرات تصحيحات بالضرورة بل كانت في الأغلب إعادة نظر و ترتيب في بعض أجزاء النص الأصلي و هو امر نادرا ما فعله كالفينو سابقا. كانت لغة كالفينو الانكليزية ذهنية نظرية اكثر مما هي مشبعة بالمفردات الاصطلاحية Idiomatic و كانت له طريقته الخاصة في الوقوع في اسر المفردات الغريبة، فعندما ترجمت رواية"السيد بالومار"افتتن كالفينو حد الوله بمفردة"التغذية الارتجاعية Feedback"فظل يحشرها بين ثنايا النص و كانت مهمتي أن أحذفها بعده بهدوء!! 
و لم يكن باستطاعتي وقتها أن اوضح له الامر بأن مفردة مثل"Feedback"قد تبدو جميلة الوقع على الأذن الإيطالية لكنها غير مناسبة للتضمين أبدا في عمل مكتوب بالانكليزية. 
لم يكن كالفينو من نوع الرجل الثرثار أبدا كما لم يبد أي ميل اجتماعي تجاه أي احد فقد اعتاد ان يرى كل أصدقائه القدامى بلا تمييز بينهم و لم يعتبر ايا منهم من المقربين الخلص له، و مع أننا بقينا أصدقاء لعشرين سنة امتدت منذ 65 و حتى وفاته واعتدنا زيارة بعضنا في منازلنا الخاصة، لكننا كنا على الدوام نتخاطب بطريقة اقرب الى الرسميات المتشددة وكنت اخاطبه"السيد كالفينو"و كان يخاطبني"ويفر"رغم انه كان يدرك تماما كم أكون ممتعضا عندما يخاطبني احد بلقبي المجرد الذي يذكرني بأيام تلمذتي المريعة، لكني لا أريد بذات الوقت ان أعطي انطباعا عن الرجل بأنه لم يكن قادرا على بناء صداقات عميقة، فمع نوبات صمته الطويلة لا أزال أذكر ضحكاته التي كانت تشع ألقاً عندما يحدث شيء خارج عن السياق و نحن نعمل معا، و لا أزال اذكر بخاصة هدية قدمها لي يوما ما و قد كتب بداخلها"الى بيل المترجم كما القديس".
نص الحوار
× أية منزلة يمكن ان تكون للذهول Dilirium في حياتك العملية؟
- الذهول؟!! انا عقلاني دوما و كل ما أقوله او أكتبه يخضع كلية لمعايير العقلانية و الوضوح و المنطق. ما الذي تظنه في؟ هل تتوقع ان استحيل انسانا مسكونا بالبارانويا،عندما يتعلق الأمر بي في الكتابة فإنني أصير اعمى عندها، لو كنت أجبتك مثلا (نعم انا أنفعل كثيرا و أصاب بذهول عظيم اثناء الكتابة و اشعر بنشوة عظمى في هذا الفعل) فلا اعرف حقا كيف يمكن لي ان اكتب هكذا اشياء مجنونة و لكنت أنت نفسك رأيتني رجلا اخرق بلا أية معقولية مقبولة. ربما كان السؤال الأفضل الذي نبدأ به حوارنا هو كم أضع من نفسي فيما اكتبه؟، و لو كنت سألتني هذا لأجبتك: أضع رؤيتي المعقلنة و إرادتي و ذائقتي و خلفيتي الثقافية و لكن بلا تحكم كامل بما افعل و ربما جاز لنا ان نرى في هذا شكلا من أشكال العصاب او الذهول الذي يرافقني في الكتابة.
× ما طبيعة أحلامك؟ هل أنت مهتم بـ (يونغ) أكثر مما تفعل مع (فرويد)؟
- ان ايضاح طبيعة احلامي لن يرضي محللا فرويديا أكثر مما يمكن ان يفعل مع نظيره اليونغي. أقرأ (فرويد) لأنني أراه كاتبا ممتازا و كتاباته اقرب الى المغامرات البوليسية المثيرة التي يمكن متابعتها بشغف عظيم، كما اقرأ ايضا لـ (يونغ) الذي يبدي اهتماما بمفردات في غاية الأهمية لأي كاتب مثل الرموز و الأساطير مع انني لا أرى في (يونغ) كاتبا جيدا مثل (فرويد) لكنني مولع بالاثنين معا. 
× تتكرر مفاهيم (الحظ) و (الصدفة) كثيرا في أعمالك، و تتنقل من خلط أوراق لعبة (التاروت) الى التوزيع العشوائي لأوراق مسودات الكتابة. كيف يلعب مفهوم الصدفة دورا في تشكيل اعمالك؟
- كتابي الخاص بورق لعب (التاروت) و المعنون (قلعة المصائر المتقاطعة Castle of Crossed Destinies) هو الأكثر من بين كتبي الذي أجريت فيه حسابات و احتمالات و ما من شيء فيه ترك عرضة للصدفة. لا أعتقد ان الصدفة يمكن ان يكون لها ذلك الاثر البالغ في الادب الذي اكتب.
× كيف تكتب؟ أعني الإشارة الى تفاصيل الفعل الفيزيائي للكتابة ذاتها؟
- أكتب بيدي و اجري الكثير الكثير من التصحيحات الى حد استطيع القول معه انني أشطب اكثر مما اكتب. أرى نفسي ابحث عن الكلمات عندما اتكلم و تلك ذات الصعوبة التي اعانيها عندما أكتب، ثم اقوم بعمل عدد من الاضافات و التعديلات. اكتب في العادة بحرف صغير لذا تمر علي لحظات اعجز فيها عن قراءة ما كتبت بنفسي فألجأ الى عدسة مكبرة تعينني على قراءة ما سبق ان كتبته بخط يدي. أكتب في العادة ايضا بخطين مختلفين: الاول كبير الحجم و يحصل هذا عندما اكون واثقا كل الثقة مما اكتب، اما الثاني فصغير الحجم و هذه استخدمها عندما اكون في حالة عقلية اقل وثوقية، و فيها يكون صعبا علي أنا ذاتي ان افك شفرة ما كتبت. تمتلئ صفحاتي دوما بسطور ملغاة و تعديلات، و عندما أبدأ بطباعة مسودات مأخوذة عن نصوصي الأولية المليئة بالخربشات بعد فك تشفيرها ارى نفسي قد انجزت نصا مغايرا لما بدأت به و هو الآخر اجري عليه تعديلات لاحقا. أشعر بحسد هائل فعلا تجاه هؤلاء الكتاب الذين يمضون في الكتابة بلا تصحيحات و فك تشفير لما يكتبون.
× هل تعمل يوميا أم في ساعات محددة و لأيام محددة؟ 
- نظريا أود لو كان بإمكاني العمل كل يوم و لكن يحصل أنني أجد دوما لنفسي أي عذر ممكن لكي لا أبدا العمل صباحا اذ علي الخروج و إتمام شراء بعض المشتريات و الصحف، و كقاعدة يحصل دائما انني استهلك كل صباحاتي في اعمالي الروتينية و اجلس للكتابة من بعد ظهر كل يوم. أنا في العادة كاتب نهاري و لكن لما كنت أضيع فترة الصباح من كل يوم دوما أمكن لي أن اصف نفسي كاتبا لفترة ما بعد الظهيرة كما يمكن لي احيانا ان اعمل ليلا و لكن لو فعلت سيكون صعبا علي ان أنام الليل لذا احاول تجنب هذا الامر على قدر ما استطيع.
× هل تشرع في أعمالك ابتداء من حزمة أفكار صغيرة غير مترابطة أم من مفهوم واحد طاغ ثم تقوم لاحقا بالاشتغال عليه؟
- أبدأ في العادة من صورة صغيرة مفردة ثم اعمل على توسيعها. 
× كتب (تورجينيف) مرة:"أفضل أن املك القليل من العدة المعمارية التي أتعامل بها في هيكلة الرواية على امتلاك الكثير منها خشية ان يتداخل المعمار مع صدقية ما اكتب". هل يمكنك ان تعلق على هذه الملاحظة بالإشارة الى ما تكتب؟
_ يمكنني القول ان في السنوات العشر المنصرمة كان لمعمارية ما أكتب اهمية ربما يمكنني وصفها بانها مبالغ بها و كمثال على هذا عندما بدأت كتابة (مدن لامرئية) كانت لدي فكرة ضبابية عن هيكل و معمارية النص ثم استحالت المعمارية شيئا فشيئا لتكون هي قلب الرواية و عقدتها في كتاب أعددته أصلا دون ان تكون له عقدة واضحة الملامح و يمكننا قول الشيء ذاته بحق عملي الاخر (قلعة المصائر المتقاطعة): الهيكل المعماري اضحى متطابقا مع الرواية ذاتها، و منذ ذلك الحين و انا مسكون بالأهمية الطاغية لهيكل و معمارية أي كتاب اكتب الى حد انني اصبحت مجنونا بها، و يصدق نفس الرأي مع كتابي الاخر (لو ان مسافرا في ليلة شتاء) الذي ما كان له ان يوجد اصلا لولا انني وضعت له هيكلا دقيقا و مصنوعا بحرفية عالية. أظن أنني نجحت في هذا الجهد و هو مبعث سعادة كبيرة لي و لكن لا بد من الاشارة الى ان القارئ ليس معنيا بهذه التفاصيل ابدا فالمهم لديه هو الاستمتاع بقراءة اي كتاب باستقلالية كاملة عن الجهد الذي وضعته فيه.
× تعيش في مدن كثيرة و تتنقل في العادة بين روما و باريس و تورين ثم تعود بعدها الى هذا المنزل الساحلي قرب البحر حيث نجري هذا الحوار. هل ثمة من تأثير ما للمكان على ما تكتب؟
_ لا أظن ذلك. ربما كان لتجربة الحياة اليومية في مكان ما تأثير على ما اكتب و لكن ليس لأنني اقيم في هذا المكان او ذاك. أعمل في الوقت الحاضر على كتاب يرتبط الى حد ما بالمنزل الذي اقيم فيه هنا في توسكانيا حيث اعتدت أن امضي ايام الصيف لبضع سنوات خلت، لكن بإمكاني ان أمضي قدما في إتمام العمل لو انني أقمت في مكان اخر.
× هل يمكنك ان تكتب في غرفة فندق؟
-- أعتدت القول ان غرفة الفندق هي مكان مثالي للكتابة لأنها في العادة هادئة و مجهولة العنوان فلا أكوام رسائل تتكدس أمامك تنتظر الاجابة عليها و لا مهمات اخرى بانتظارك سوى ان تجلس و تكتب، و مع اني ارى في غرفة الفندق مكانا مثاليا للكتابة لكن احتاج الى مكان خاص بي اقرب ما يكون الى مخبأ، و لو ان فكرة ما اختمرت في ذهني و كانت واضحة لي تماما فلدي دوما القدرة على كتابتها اينما كان حتى لو كنت في غرفة فندق.
× هل تسافر في العادة مع دفاتر ملاحظاتك وأوراقك؟ 
- نعم احمل معي في العادة ملاحظاتي و ملخصات لما اريد ان اكتب، و للسنوات العشر المنصرمة صرت مسكونا بفكرة ان احمل معي دوما ملخصات عن وقائع حياتي اينما رحلت.
× كان والداك عالمين كما نعرف. أ لم يفكرا بأن يجعلا منك عالما؟
- كان والدي عالما في تحسين المزروعات و والدتي كانت عالمة نبات و كان كلاهما مغرمين بعالم الخضار و الطبيعة و العلوم الطبيعية و كانا يعرفان منذ البدء بعدم ميلي الى اي من اختصاصاتهما أو اهتماماتهما مع اني في الواقع اشعر بأسف شديد اليوم لأنني لم أتمثل تجربتهما العلمية كفاية كما كان ينبغي، و ربما كان عزوفي عن اهتماماتهما العلمية يعود الى انهما كانا اكبر مني بكثير فوالدتي كانت في الاربعين عندما ولدت و والدي كان في الخمسين و لذا كانت بيننا هوة واسعة كما ترى. 
× متى بدأت تكتب؟
- عندما كنت يافعا لم تكن لدي أية فكرة عما أريد ان أكونه. بدأت الكتابة مبكرا نوعا ما و لكن قبل ان أخوض في اية تجربة كتابية كان شغفي الاول في الرسم فقد رسمت بضعة رسوم كاريكاتيرية لأصدقائي التلاميذ و اساتذتي في المدرسة لكنها ظلت رسوما خيالية أنجزت بلا اي تدريب. عندما كنت صبيا سجلتني والدتي في مدرسة تدير برنامجا لتعليم الرسم بالمراسلة و كنت وقتها في الحادية عشرة عندما ظهر لي احد رسوماتي في مجلة كانت تنشرها مدرسة الرسم التي سجلت فيها و قد اشاروا فيها الى انني كنت تلميذهم الأصغر، و اذكر أيضا انني كتبت بضعة اشعار في تلك المرحلة و عندما بلغت السادسة عشرة جربت كتابة بعض الاشياء للمسرح الذي كان شغفي الاول حينها ربما لان علاقتي بالعالم الخارجي وقتذاك كانت عبر المذياع فحسب و الذي اعتدت سماع الكثير من النصوص المسرحية عبر اثيره. 
× من الكتاب الذين كان لهم اعظم الأثر في حياتك، أعني الكتاب الذين قرأتهم باعظم متعة متصورة؟
- ثمة كتاب من الذين قرأتهم و انا في سن الصبا مثل (ستيفنسون) لا زالوا يمثلون لي نماذج معتبرة في الطلاقة و الدافع السردي و الطاقة على العمل، و لا يزال كتاب مثل كيبلنغ و ستيفنسون نماذجي المفضلة بين الكتاب و أضع بعدهم ستاندال.
× متى تخليت عن الكتابة للمسرح؟
- بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن في المسرح الايطالي نماذج واعدة في وقت كانت الرواية تشهد فيه انطلاقة متفجرة لذا عكفت على كتابة القصة ثم بدأت بعدها بكتابة الرواية و تلك محض اليات عقلية في كيفية التعبير عن ذاتك و املك طريقتي في كتابة النثر و هي أقرب لما يفعله الشاعر عندما يكتب قصيدة و لست من ذلك النوع الذي يكتب روايات طويلة بل اضغط فكرة او تجربة ما في نص تركيبي قصير يقف في النهاية مع غيره من النصوص القصيرة لتكون في النهاية سلسلة.
أعير اهتماما كبيرا جدا للتعابير و الكلمات معا و أدقق في ايقاعاتها و اصواتها و الصور التي تحفزها في القارئ. أرى مثلا ان كتاب (مدن لا مرئية) يقع في منزلة بين الشعر و الرواية.
× هل ترى ان شباب اليوم يمتلك سمات ٍ مختلفة عن تلك التي كانت لجيلكم؟
_ يحصل بين الحين و الآخر ان اغضب لدرجة الجنون بشأن الجيل الشاب و لكن لم يحصل ان القيت مواعظ في أي محفل شبابي لأنني لا أطيق الوعظ كما ان أحدا لن يستمع لي. لا بد ان شيئا ما قد حصل بين جيلي و جيل الشباب محدثا انقطاعا في استمرارية التجربة و ربما كان هذا بسبب افتقادنا الى نقاط التقاء مرجعية و لكن علي القول انني عندما كنت شابا لم القِ بالا أبدا لأي نقد او توبيخ لذا لا أجدني املك الحق في نقد او توبيخ الشباب اليوم.
× هل الروائيون ملفقو أكاذيب؟ و اذا لم تكن تراهم هكذا فعن أي نوع من الحقيقة يكتبون؟
- الروائيون يحكون عن ذلك الجزء من الحقيقة القابع في أعماق كل كذبة، و بالنسبة للروائي كما للمحلل النفسي ليس بالأمر المهم النظر فيما اذا كنت تقول صدقا او كذبا لان الأكاذيب يمكن لها ان تكون ممتعة و بليغة و كاشفة، شأنها شأن أية حقيقة ندعي قولها بصدق. لدي شكوكي الكبيرة تجاه الكتاب الذين يدعون قول الحقيقة الكاملة عن أنفسهم و عن الحياة و العالم بأسره و أفضل البقاء في جانب الكتاب الذين يحكون عن الحقيقة و هم يكشفون عن ذواتهم باعتبارهم اعظم الكذابين في العالم، ففي عملي (لو أن مسافرا في ليلة شتاء) على سبيل المثال، و هي رواية مؤسسة بالكامل على الفانتازيا، كان هدفي ان أتحدث عن حقيقة لم يكن بوسعي أن أرويها بأية طريقة أخرى.
× هل ترى ان الكتاب يكتبون ما يتمكنون من كتابته ام ما ينبغي لهم كتابته؟
- الكتاب يكتبون في العادة ما يستطيعون، لأن لفعل الكتابة وظيفة تكون مؤثرة متى ما اتاح لها المرء أن تعبر عن عالمه الداخلي. يعاني الكاتب غالبا من محددات عديدة: محددات أدبية مثل عدد السطور في السوناتا الغنائية او قواعد التراجيديا الكلاسيكية و ثمة محددات اجتماعية تستوجبها انشغالات دينية او اخلاقية او فلسفية أو سياسية و مع أن هذه المحددات لا يمكن فرضها مباشرة على الكاتب لكن لابد له من (فلترتها) عبر ذاته الجوانية.
× هل كان لـ (جويس) أو غيره من الكتاب المحدثين من تأثير ما عليك؟
- المؤلف المفضل لي بين المحدثين هو كافكا و الرواية المعاصرة المفضلة لي هي (اميركا).
× تبدو اقرب الى الكتاب الذين يكتبون بالانكليزية: كونراد و جيمس و ستيفنسون اكثر من الكتاب الذين يكتبون النثر الايطالي التقليدي. هل ترى الامر هكذا؟
- لطالما رأيت نفسي مشدودا الى (جياكومو ليوباردي) فإضافة إلى أنه شاعر لامع فهو كاتب ممتاز و يكتب نثرا عظيما مفعما بالفكاهة و الخيال و العمق.
× كيف رأيت العمل مع ناشرك الايطالي (اينودي Einaudi)؟ هل عطل شيئا من قدرتك الابداعية؟
- إينودي ناشر متخصص في التاريخ و الفلسفة و اللغة و العلم و السوسيولوجيا و الكلاسيكيات و تحتل الرواية مؤخرة قائمة منشوراته لذا فان العمل لدى اينودي كان بمثابة العيش في عالم موسوعي.
× يبدو صراع الانسان مع العالم حوله وهو ويحاول ان يرى النظام وسط الفوضى، ثيمة رئيسية في الكثير من اعمالك، أذكر هنا خاصة ما ورد في كتابك (لو ان مسافرا في ليلة شتاء) الذي يحاول قارئه ان يفكك أسرار الفصل الذي يلي كل فصل يقرؤه؟
- الصراع بين الخيارات التي يفرضها العالم مع نزوع الانسان المتواصل و المسكون بفكرة ايجاد معنى ما في هذه الخيارات هو نموذج لما يتردد غالبا في كل ما اكتب.
× تتقلب في كتاباتك بين نمطي الكتابة الواقعية و الفنتازيا. هل تهوى الاثنين بنفس القدر؟
- عندما اكتب كتابا هو نتاج اشتغال كامل للكشف الشخصي اجد في نفسي لهفة و توقا عظيمين لاستخدام لغة الحياة اليومية جنبا الى جنب مع نشاطاتي و افكاري و لكن عندما اكتب شيئا يميل الى الجانب السيري Autobiographical و أرى نفسي مقيدا الى الخصوصيات الدقيقة للحياة اليومية حينها تكون لهفتي الى لغة ليست لها روابط واضحة مع جوانب كينونتي الذاتية وتكون اكثر قدرة في اداء الغرض المطلوب.
× كيف استقبلت اعمالك في اميركا؟
- مدن لامرئية"هو عملي الذي حظي بأكثر المعجبين هناك رغم انه و لدهشتي ليس واحدا من كتبي السهلة فهو ليس رواية بل مجموعة قصائد في قالب نثري. كتابي الاخر"حكايات فلكلورية ايطالية"كان قصة نجاح اخرى في امريكا بعد ان ظهرت ترجمته الانكليزية الكاملة عقب خمس و عشرين سنة من نشره بالايطالية. كان نجاح"مدن لامرئية"نخبويا أذ امتدحه محبو الادب و الطبقة المثقفة بينما كان نجاح الحكايات اكثر جماهيرية. في الولايات المتحدة تبدو صورتي كاتبا للفنتازيا و الحكايات.
× هل ترى ان أوروبا قد تسيدتها الثقافتان البريطانية و الاميركية؟
- لا ليست لدي أية ردود أفعال شوفينية بخصوص هذه المسألة. ان معرفة الثقافات الاجنبية عنصر حيوي في أية ثقافة وارى أننا لا يمكن ان نرتوي من هذه المعرفة يوما ما، و ينبغي لكل حضارة ان تبقي أبوابها مفتوحة لكل التأثيرات الثقافية اذا ما ارادت ان تحافظ على توقد شعلتها الابداعية. في ايطاليا كان المركب الحضاري الفاعل في الأغلب هو الأدب الفرنسي مع ان الأدب الامريكي ترك بصمته علي طوال حياتي. (ادغارالان بو) كان واحدا من اهتماماتي المبكرة و علمني ما هي الرواية ثم اكتشفت لاحقا أن (هوثورن) أعظم منه، و في سنوات ارتقائي الادبي مبكرا في الاربعينات كان الادباء المهيمنون هم: همنغواي و فوكنر و فيتزجيرالد و كان لنا في ايطاليا على الدوام ولع شديد بالأدب الأميركي حتى ان مؤلفين أقل قامة من السابقين (من أمثال سارويان و كالدويل) كان ينظر لهم على انهم نماذج تصلح للاقتداء في الاسلوب رغم ظهور نابوكوف لاحقا الذي أكن له – و لا أزال - قدرا كبيرا من الاعجاب.
× في الايام الحرجة الاولى بعد الحرب العالمية الثانية مكثت بشكل متواصل في ايطاليا و لم نر انعكاسا للأوضاع السياسية في رواياتك باستثناء روايتك القصيرة (المراقب The Watcher) مع أنك كنت شخصا منغمسا في السياسة. ما تقول في هذا؟
- كنت في السنوات اللاحقة للحرب أرمي الى استيعاب معاني المعاناة و الجروح البليغة التي احدثتها في نفسي سنوات الحرب و بخاصة بعد الاحتلال الالماني لايطاليا لذا انغمرت كشاب في العمل السياسي و انضممت الى الحزب الشيوعي الايطالي و الذي أراه مختلفا عن كل الاحزاب الشيوعية في بلدان أخرى، ثم ادركت لاحقا و بصورة متعاظمة صعوبة تحقيق فكرة إقامة ديمقراطية حقيقية في ايطاليا باستخدام النموذج – او لنقل الاسطورة – السوفيتي و قد نمت القطيعة داخلي حتى وجدتني اقطع كل صلاتي مع الشيوعية و من بعدها السياسة و كان هذا لحسن حظي فانا ارى اليوم اننا نرتكب خطا جسيما بوضع الأدب في مقام بعد السياسة لان الاخيرة تفشل دوما في انجاز اهدافها في حين ان الأدب ينجح على الاقل في أنجاز شيء ما و يمكن ان يكون له في المدى البعيد شيء من تاثير عملي. 
بت ادرك الآن ان الأهداف الثمينة في الحياة لا يمكن إنجازها الا عبر صيرورات بطيئة للغاية.
× تنتمي لبلد كتب كل من كتابه الكبار للسينما أو حتى قام بإخراج فلم سينمائي بينما تبدو انت مقاوما لغواية السينما. لماذا و كيف هذا؟
- في صباي كنت احد المولعين الكبار بالسينما و لكنني حرصت ان اكون متفرجا على الدوام و لم انجذب ابدا يوما ما لفكرة ان أغادر موقعي كمتفرج و انتقل الى الجانب الاخر من الشاشة. أن معرفة دقائق عمل السينما ستقتل حتما في داخلي ذلك الانبهار الطفولي الذي لطالما شعرت به تجاه السينما.
× هل اثقل الضجر حياتك و خيم عليها يوما ما؟
- نعم في طفولتي و هنا لا بد ان اشير الى أن الضجر الطفولي هو من طراز خاص لأنه ضجر مليء بالأحلام و هو في حقيقته عملية إسقاط Projection لتبني مكان اخر او فكرة اخرى. في الطفولة يتأسس الضجر على فعل التكرار و ينطلق من استمرارية حال لا نتوقع معها اية دهشة. أعاني اليوم شيئا مختلفا عن الضجر: أنه الخوف من تكرار نفسي في عملي الأدبي و هذا يمثل لي على الدوام تحديا متواصلا كل يوم لذا ينبغي لي ان اجد شيئا يبدو جديدا تماما و يكون في ذات الوقت ابعد قليلا من المدى الذي تبلغه قدراتي التي اعرفها.



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads