الرئيسية » » اليأس، بالذات يحتاج إلى رشاقة | علي العمري

اليأس، بالذات يحتاج إلى رشاقة | علي العمري

Written By تروس on الأحد، 8 نوفمبر 2015 | نوفمبر 08, 2015

منتصفُ الأربعين ذروةٌ أتسلَّقُها بلا نشوة، أصل مُـنهكاً، وأنتبه الآن كم طريقتي ضيقة في البقاء! لم أفهم الشساعةَ إلا بسلوك محبوس، ولأنني مولود في لحظة حرب، اعتبرت حياتي كلها بمثابة معركة.

والآن في منتصف الأربعين لم أعد أعرف لِمَ أنا مستعجلٌ، ولا عما أفتش، أتغذَّى من حريق اللحظات، وحواسي تشتغل بسلاسة منشار في اللحم.

الآن أشعر بما لا يُلمس في الوقت كلما صار كمَّــاشَــة، أدأبُ برائحة إبط تليق بكادح، لا أدري لماذا ألهث، ومع أنني مستعجل، أشتكي دائماً من هِــمَّةٍ فاترة كما لو كنت عائداً للتو من مقبرة.

أسكن ملجأً بنافذة واحدة، النافذةُ التي كانت حتماً خطأ مهندس في الجدار، أقاوم الكآبة بالركض، معتقداً أن اليأس بالذات محتاج للرشاقة، وكهارب تربّى طويلاً في معامل العبادة، أعجز أن أكون ولو حجراً في حلق الهاوية، ولأن طريقتي في البقاء ضيقة، أتقشَّـف بأعصاب ناسكٍ مليئةٍ بالمسامير، وكأي مغبون أستعمل الذهن بتكنيك جزار في مغازلة الذبيحة.

ولطالما تمنَّيتُ أن أصبح في مثل وداعة تمثال من الخشب، لكن طريقي إلى الصمت مسدود، أتكلم مع نفسي كثيراً، أستطعم رخاوةَ الكلمات في الهذيان، أكثـرُ من مفردة جعلتها تلفُّ على نفسها، لأعلمها الدوخةَ وكيف تتذوق سخونةَ القيء، حتى بصاقي أحقنه في مفردات ليتكثَّــف ومع الوقت يصبح بلغماً، أثرثر معزولاً معتبراً أن كل دفاع عن النفس يبدأ من جراحة الكلمات.

قلقي يشيخ ولم أجد له مهنةً، ففي ذروة الأربعين أتأكد كم أنا مطرودٌ، فمن يرعى الغنمَ ويطارد المِعْـزى في صباه، يحيا بقيةَ عمره بهاجس البحث عن كهف.

أستعجل ومن يراني أمشي يظنني أرقص، صرت مثيراً للشبهات، ولو حاولت مرة أن أستريح في شارع سانداً رأسي إلي جدار، فسأسمع بغتةً الصوتَ شاتماً: (انقلع من هنا يا بن الكلب) أفزّ مهرولاً وقد تذكرت الكماشةَ، مشوَّشاً لا أعرف شرقَ اللعنة من غربها.

علاقتي بالزمن معطوبة، فإلى الآن لا زلت أحسُّ كم يقظتي في الصباح مشؤومة، وفي الظهيرة غثياني مزمن، ينتابني الدوارُ ما أن يصبح ظلُّ كلِّ شيء مثلَه، لا أطيق المعنى واضحاً يجرجره الناسُ في الطرقات، لكنني متورّطٌ أعمل بهِمَّة بائع خردوات عجوز، ألهث طيلةَ النهار، لهاثَ من يتبع أكذوبةً، ويتوسَّخ بالأوهام في الشوارع.

ألهث ظاناً أن حقيقتي لا تلمع إلا في اللهاث.

هكذا أصل منتصف الأربعين بإحساس من يقف مرتجفاً على الشفا، أراجع أخطائي لأكتشف كم كانت صواباً، خسائري لا زلت أظنها بحاجة إلى مزيد من التراكم، مع ذلك لا أفكر في المستقبل كخُطَّة للنجاة، فما يتداعى لا يحتاج خطة للسقوط، قد أتعقّل قليلاً، نزقي سينشف مع الأيام ويتفتَّــت مثل فِـلِّـين في الشمس، أريد أن أنحدر على الأقل ببطء، وفي طريقي سأحاول دحرجة ما يتوفر من حكمة، على أن تكون خفيفةً وبلا دويٍّ، حكمةُ أن أخسر ضاحكاً، فكم من ربح يكمن دائماً في الخسارة، ولأنني تسلَّقت بما يكفي،عليّ تدبُّر الانهيار بلا ضجيج، فليس سهلاً أن يهوي شخص من ذروة ولا يُسْـمَعُ ارتطامُ عظامه بالعدم.

ما يتغير ليس أكثر من حالتي في الهبوط، وسأظل أحنُّ لكهف يتراءى لي في الضباب، وما سأعرفه عني سيثير السخريةَ أكثر، لن أنسى واقعيتي في الشوارع، لهاثي سيكلفني كثيراً، لأتعايش بحذرِ منبوذٍ في هذه المدينة، أتغذى من حريق اللحظات، أما كآبتي فسأظل أمرّنها لئلا تترهَّــل، أحتاجها شفافةً، طريقتي في البقاء محسومةٌ، فلم أختبر الشساعةَ إلا كفكرة تتوهج في رأسي، قبل أن تصير رماداً.


* شاعر من السعودية





التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads