الرئيسية » , , » الريح التي نسيتهم | صالحة عبيد

الريح التي نسيتهم | صالحة عبيد

Written By هشام الصباحي on السبت، 10 أكتوبر 2015 | أكتوبر 10, 2015

«طائرٌ أنا .. أحلق فيَّ» – أمبرتو أكابال
ما الذي يربطك بالمكان .. مكانك الآني؟ هل هو الوقت الذي كان ماضيك فيه .. لهفتك لأطياف الأشياء التي وعدتك بأن تعود لتأخذك في تمشية طويلة ذات يوم .. فانتظرت .. أم هو الوقت المزدهر بك الآن حيث وجدت ما بذرته من حلم؟ .. وما آمنت به من رؤى يصير واقعاً؟ .. هل هي الريح التي نسيتك؟ فلم تأخذك ولم تبعدك ولم تأسرك في لعبة الترحال الأبدية؟ بقيت حبيساً .. يراك أحدهم شقيّ الحظ لأنك لن تختبر الحياة بعيداً عن وضاعة المحدودية ويراك الآخر أسعد البشر حظاً لأنه من مكانك القصي اكتشف أن النكهة الأولى تبقى الأثيرة وأن كل ما عداها هو سورٌ فوق آخر تتسلقهم ولا تصل.
الريح لا تنسى أحداً، إن اقتلاعها لجذر أول قد لا يرتبط بك مباشرة يعني أنك قد خسرت المعركة ما لم تكن مستعداً .. أتأمل مع الريح العنيدة نموذج الشاعر «أمبرتو أكابال» الذي عصفت الريح بأجيال سبقته أتت على اللغة والثقافة والعادات والأفكار واستبدلها بأخرى على مدى أربعة قرون هي عمر الاستعمار الإسباني لغواتيمالا .. فأرى أن أكابال قد شد جناحيه في وجه تلك الريح بما يكفي لتجنب أن ينفصل عن كل ما يربطه بالمكان متمثلاً بالماضي والحاضر والمستقبل .. لقد بدأ التحليق في سعته الملتبسة .. كسر العادة الغريبة بالأخرى المألوفة التي شوهت .. وأعاد للحياة فكرة الثأر المتحضر من كل من أشعلوا النسيان ومضوا .. هل يكون للثأر وجه متحضر؟ وجه ينجو من صراخ الإنسان الأول وتعطشه للموت؟ .. قد يفعل الشعر – ربما – وهو ما أراه في روح «أكابال» الطائرة شعراً بلغة تتسامى عما كتب وتتخفف من الأبجدية المكتوبة لتخرج شفاهية .. قصيدة تُكتب على الهواء قبل الورقة .. ثم تمضي لتنتشر بالإسبانية والإنجليزية والفرنسية والعربية .. معيدة دهشة الغرابة وفضول اكتشاف هذا الحس المبهم معها .. إنها هنا كأس الماء البارد كما يصف هو القصيدة .. الكأس الذي يهديه للآخر فتنتعش دواخله دون أن ترتوي باحثاً عن المزيد من اللغة .. التي تحمل معها حضارة ويتوارى خلفها شعب مخذول أخذ على حين ضعف .. إنه يتشفى للجثث التي تناثرت ويهدم المشانق التي نصبت ويعيد للهندي الأحمر فيها رأسه الذي فصل عن جسده مرفوعاً .. أكابال التقليدي ظاهراً فيما يعنى بقبليته التي اندثرت غدراً يعاكس ذلك جوهراً ويسير ليعيد بناء الصندوق الذي تحطم ليعيد المكان الذي كان دون أن يقبع فيه بمحدودية واستكانته لأن الأبجدية لم توجد لتركن في الصناديق ولكنه من خلال ذلك يعيد وصلها بداخلها الذي شردت منه حتى لا تعيش ضياعاً أزلياً كالذي عاشه .. هو الذي أجرى مقابلته الأولى في متنزه يعرفه المشردون لأنه لم يمتلك منزلاً ومكاناً يشكل معه الارتباط .. فكانت علاقته بالأرض مباشرة وهي التي ما انفك يتشرب من ذاكرتها على اعتبارها مأواه الأول فكان بدوره الجندي الأخير الذي نصب نفسه ليحفظها من أن غربتها التي ستلف كل ما فوقها.
من زاوية أخرى هل هناك ما قد يأخذك عن المكان فعلاً؟ الجفاف .. الخوف .. رغبة النجاة .. الاختناق .. ألا جذور بقيت .. ألا وجود لما يحيمك .. أن ليس هناك لغة؟ كلها أوهام ننسجها ونصدقها .. آملين أن تبقى كالحاجز بين فكرتي الجحيم السابق والنعيم الحالي .. لكنها تبقى هشة لأن الريح التي حملتك تنسى أن تحملك صافياً من كل الشظايا .. يروي الشاعر اللبناني عيسى مخلوف ذلك عن هربه من الحرب الأهلية اللبنانية إلى فنزويلا ثم إلى أماكن عدة، فيقول إنه فعل ذلك «بانتظار أن تهدأ الحرب لكنها لم تهدأ، الحرب التي كبرت معنا وكبرنا معها ورافقتنا حتى ونحن خارج دائرة نيرانها». تخرج من نيران «مخلوف» بفكرة مفادها أن الريح تنسى أن تبتر أو أنها لم تكن قوية حقاً لتجيد ذلك وأنك لن تفصل عنك أبداً ما عجزت الريح عنه .. أنت «أبداً» تعود لمكانك الأول ولو من خلال فكرة .. أو رائحة أو حتى لفظة عابرة.
s.obaid@alroeya.com

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads