الرئيسية » , , , , , » خواكيم سارتوريوس | العلاقة بين فعل الكتابة وتشكيل الهوية

خواكيم سارتوريوس | العلاقة بين فعل الكتابة وتشكيل الهوية

Written By هشام الصباحي on الخميس، 24 سبتمبر 2015 | سبتمبر 24, 2015

العلاقة بين فعل الكتابة وتشكيل الهوية

                  

1-      ما هي الهوية؟ لست طبيبا نفسيا، ولست متخصصا في علم الاجتماع، ولست دارساً للأدب، إذن بشكل عفوي يمكنني أن أقول: هي الصورة التي أراها لنفسي. هي الصورة التي يتغير من حولها كل شيء لكن يبقى جوهرها كما هو، هي التي شيدت علي خبرات أساسية مستمدة من منشأي، وطفولتي، وتأثري من أساتذتي، ومن الأدب، كذلك من لغتي والحوارات مع الآخرين ومع الثقافات الأخرى. يجب أن أعترف بأنني نادرا ما فكرت في هويتي، العام الماضي، وبشكل مفاجئ انتبهت اليها، في مهرجان الشعر في مدينة “يانجتشو” جنوب الصين، شعراء كُثر من جنسيات عديدة مدعوون لقراءة قصائدهم بلغتهم الأم، وتعقب القراءة ترجمة للغة الصينية. جمهور كبير جداً من الطلاب والسكان المهتمين بالأدب والثقافة، بدأت قراءة قصائد “الإسكندرية"، التي تدور حول المدينة الهيلينية القديمة والمدينة المصرية الحديثة، حول كونستانتين كفافيس، والثقافة الكونية التي فُقدت في منطقة شرق البحر المتوسط. فجأة، وبينما كنت اقرأ تبادر الي ذهني سؤال. السؤال قفز الى عقلي بعنف: ما هو الهدف من قراءة هذه النصوص هنا في الصين؟ نصوص قريبة جداً الى قلبي ومرتبطة ارتباطا وثيقا بتاريخي المتوسطي. ما الذي يمكن أن يفهمه الصينيون من هذه الأبيات؟ ووصلت الى قناعة أن القصائد لا يمكن أن يكون لها أي تأثير عليهم لأن كل الإشارات والتشبيهات لن تصل اليهم؟ "بالله ماالذي أفعله هنا؟ ماذا اقرأ ولمن؟” أخذ السؤال يطرق رأسي كما لم يحدث لي من قبل، أدركت في اللحظة ذاتها هويتي الأوروبية، او على وجه التحديد هويتي الغريبة عن هذا المكان، هوية مكانها اللغة الألمانية ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، دخلت في حالة أشبه بالذعر، ولم أعد قادراً على مواصلة القراءة.

 2-      ماذا تخبرنا هذه القصة؟ الأدب ليس ذا مدى وصول عالمي، هو دائما شخصي. وهو شخصي بشكل جذري وراديكالي، ان كان أدباً جيداً، وبكلمات أخرى، الأدب دائماً ما يرتبط بالكاتب وهويته. تخبرنا القصة ايضأ أننا وبسبب تحركنا الدائم في نفس الفضاء، نصبح واعيين بهويتنا حين تضعها ظروف خارجية محل اختبار. اسمحوا لي أن انتقل الى عملية الكتابة، التي أراها كمجموعة من الاجراءات النشطة الواعية للغاية، مرتبطة ارتباطا وثيقا بالخيال، وارتباط وثيق ايضاً بالتذكر. نحن نكتب ما يبدو لنا هاماً ونحفظه من النسيان، وبهذه الطريقة من خلال التدوين نتمسك بالجوانب الجوهرية - أو ما نعتقد أنها جوانب جوهرية - ما نعتقد أنها أشياء يجب حفظها من النسيان “جوانب جوهرية” تؤكد على هويتنا أولاً، وتضيف اليها عناصر جديدة ثانياً، فتتطور.

 3-      هل يعني ذلك أن عملية الكتابة يمكن أن تغير هويتنا؟ قلت في البداية أننا لا نلتفت لهويتنا بدون مؤثرات خارجية، وهي الحالة الطبيعية، ربما. وربما يمكن فقط لشخص مثلي أن يقول ذلك، شخص ولد في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية ونشأ في دولة لم تعرف أي أزمات خلال الستة عقود الماضية، دولة مزدهرة، دولة قانون ودستور. دولة تعتبر جنة حين يُنظر لها من خلال مناطق كثيرة في العالم. بدون شك في مناطق الأزمات والحالات الحرجة، تتشكل هوية كتابية مختلفة تماماً .على سبيل المثال، الكتاب الذين اضطروا إلى مغادرة ألمانيا النازية، اما عن طريق الطرد، الفرار، الهجرة، أو النفى تحت أقسى الظروف، وتحت تهديدات خسارة حياتهم، كان عليهم قبول التغييرات في هوياتهم.

الكاتب النمساوي ستيفان تسفايج، الذي هاجر إلى لندن عام 1934، و انتقل عبر نيويورك والأرجنتين إلى البرازيل عام 1939 بعد اندلاع الحرب ، وقضى حياته هناك، في بتروبوليس. أتم في الأشهر التي سبقت انتحاره مذكراته تحت اسم “عالم الأمس” والتي استحضر من خلالها الإمبراطورية النمساوية المجرية القديمة متعددة الأعراق، وهويته “القديمة” التي تفتت أمام الواقع الجديد. برتولد بريخت سلك درباً بعيدا عن ذلك تماما في معالجة قضيته، فقد أدت سنوات المنفى الطويلة في الدنمارك والولايات المتحدة الأمريكية إلى تغيير حقيقي في هويته، فقام بالتعبير عنها في العديد من القصائد والمسرحيات. وأصبح أكثر وعيا بذلك في كتاباته، كما أن توجهه الواضح تجاه الشيوعية بعد عام 1945 يجب ان ينظر له ضمن إطار تجاربه في الولايات المتحدة الأمريكية. مثال آخر على التغير في عملية بناء وتشكيل الهوية هم الشعراء القدامى في أوروبا الشرقية، الذين عايشوا دكتاتورية بعد أخرى، ومع هذا التاريخ من العنف وعدم جدوى الكتابة نفسها لا سيما الكتابة عن أجسادهم وأرواحهم، تجاربهم لا يمكن مقارنتها مع أمثالنا الذين ولدوا بعد الحرب، لهذا السبب تعكس قصائدهم- ولنأخذ على سبيل المثال الشاعران البولنديان “تشيسلاف ميلوش” أو “يسلاوا سزيمبروسكا" - وعي عميق، ومسؤوليات ثقيلة، لا يمكن أبدا أن يصل اليها الكتاب الغربيين. هاينر مولر، كاتب المسرح الألماني الشرقي الأكثر شهرة، تحدث بعد عام 1989 عن الارتفاع الكبير المطلوب لإحداث سقوط مأساوي، وهو أمر كان يحتاجه في أعماله  ولم يجده بعد إعادة توحيد ألمانيا. ففي النضال ضد الرقابة والقمع قام بتطوير شكل من أشكال اللغة مليء بالحيل، وبالتالي صنع هوية كتابية خاصة به لا تخطؤها عين. التاريخ المصري الحديث، اتسم بالصراعات السياسية والدينية. وأنا مهتم جدا بسؤال كيف يرى الكتاب المصريين هذه العلاقة بين بناء الهوية والظروف القاسية؟ كيف تؤثر التطورات الأخيرة على كتاباتهم، وبالتالي هوياتهم؟

4- للخروج بنتيجة، أعتقد أن تفرد الشخص قائم في جميع حالات التحول. القوة الدافعة للتغيير في الهوية لا تأتي من خلال الكتابة نفسها، ولكن من خلال الأحداث الخارجية.  والكتابة في هذا السياق، هي إعادة لتقييم الأمور وتحديد المواقف تجاه هذه التحولات. ومع ذلك، هناك تفاعل بين الكتابة وتشكيل الهوية، حيث يستدعى فعل الكتابة تجارب جديدة الى الوعي، وبتراكم هذه التجارب، تدخل مكونات جديدة الى هوياتنا. وعلى كل منا، نحن الذين نتنقل في عوالم الأدب ألا ننسى أبدا أن شيطان الكتابة لا يسكن داخل هوياتنا، إنما يكمن خلف كل كاتب: شيطان الخوف، شيطان الكمال، شيطان الرغبة أو شيطان الذاكرة. هؤلاء أيضاً يحتاجون أن يُطلوا برؤوسهم من فوق أسنة أحرفنا.

خواكيم سارتوريوس


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads