الرئيسية » , » فصل من رواية نساء ترجمة شارل شهوان تشارلز بوكوفسكي

فصل من رواية نساء ترجمة شارل شهوان تشارلز بوكوفسكي

Written By هشام الصباحي on الخميس، 17 سبتمبر 2015 | سبتمبر 17, 2015

فصل من رواية نساء


 ترجمة شارل شهوان
تشارلز بوكوفسكي

1

كان عمري خمسين سنة وما ضاجعت امرأة من أربعة أعوام. لم تكن لديّ نسوة صديقات. كنت أرمقهن فيما أعبر إزاءهن في الشوارع، أو أنّى أبصرتهن، غير أني كنت أنظرهن من دون توق وبإحساس مفعم بالهباء. كنت أستمني بانتظام، بيد أن خاطر إقامة علاقة مع امرأة، حتى بالمفهوم اللاجنسي، كان أنأى من خيلائي. لديَّ إبنة في السادسة من العمر هي ثمرة علاقة غير شرعية، تعيش مع أمّها وأدفع نفقة إعالتها. كنت متزوجاً قبلاً منذ سنوات في سن الخامسة والثلاثين. دام الزواج سنتين ونصف السنة، زوجتي طلّقتني، وقعت في الغرام مرة واحدة لا غير، ماتت نتيجة إدمان كحولي حاد، قضت في عمر الثامنة والأربعين حين كنت أنا في الثامنة والثلاثين. كانت زوجتي تصغرني بإثنتي عشرة سنة. أحسب أنها هي الآن أيضاً ميتة، رغم أني لست متأكداً، كانت بعدما تطلّقنا، تكتب لي رسالة طويلة كل عيد ميلاد طوال ست سنوات، ما أجبتها إطلاقاً...
لست أذكر بالتحديد متى رأيت ليديا فانس للمرّة الأولى، كان ذلك مذ ما يقارب ستة أعوام، وكنت تركت للتو وظيفة مارستها إثنتي عشرة سنة كساعٍ للبريد، وأحاول أن أصبح كاتباً، كنت مذعوراً واحتسيت الكحول أكثر من أي وقت مضى، كنت أحاول كتابة روايتي الأولى. فيما أكتب كل ليلة، كنت أعبُّ نصفيّة ويسكي وصندوقَي بيرة سعة ست قنانٍ، كنت أدخّن السيجار الرخيص وأطبع على الآلة الكاتبة، وأشرب مستمعاً إلى الموسيقى الكلاسيكية عبر الراديو حتى بزوغ الفجر. حددتُ لي هدفاً بأن أنجز عشر صفحات كل ليلة، غير أني ما كنت أدرك البتة حتى اليوم التالي كم من الصفحات كنت خططت. كنت أنهض في الصباح، أتقيأ ثم أخطو إلى الغرفة الأمامية وألقي نظرة إلى الأريكة لأرى كم هنالك من الصفحات فوقها. كنت دوماً أتجاوز صفحاتي العشر. أحياناً كنت أجد هناك 17، 18، 23 أو 25 صفحة. وبالطبع كان يجب تنقيح منجز كل ليلة أو حتى رميه. استغرقتني كتابة روايتي الأولى إحدى وعشرين ليلة.
مالكا العمارة حيث قطنتُ إنذاك، وكانا يسكنان الشقة الخلفية، خالا أني ممسوس، كل صباح آن أستيقظ، كنت أجد كيساً ورقياً بنياً كبيراً أمام مدخل الشقة. تنوّعت المحتويات، غير أن الأكياس احتوت غالباً البندورة والفجل والبرتقال وبصلاً أخضر وعلب حساء وبصلاً أحمر. كنت نديمهما في احتساء البيرة بين ليلة وأخرى حتى الرابعة أو الخامسة فجراً. كان يغمى على العجوز عموماً، وكنا أنا والعجوز زوجته نتشابك الأيدي وأقبلها بين الفينة والأخرى، ولأهبها دوماً قبيل المغادرة قبلة من العيار الثقيل. كانت جعدة بشكل فظيع بيد أنه لم يكن في وسعها أي شيء حيال الأمر. كانت كاثوليكية وتبدو ظريفة آن تعتمر قبعتها الزهرية وتتوجه إلى الكنيسة صباح يوم الأحد.
أعتقد أني التقيتُ ليديا فانس إبان قراءتي الشعرية الأولى، جرى ذلك في مكتبة عند جادة كينمور "مكتبة دراوبريدج". مرةً أخرى كنت مصاباً بالذعر، خارقاً، ومع ذلك مذعوراً. حين دخلت لم يكن هناك أي مقعد شاغر. بيتر الذي يدير المكتبة ويساكن فتاة سوداء، ألفيت أمامه كدسة من المال. "اللعنة"، بادرني قائلاً: "لو كان في وسعي أن أحشدهم هنا دوماً على هذا المنوال لاستطعت جمع ما يكفي من المال للقيام برحلة أخرى إلى الهند!". وبحث وبدأوا يصفّقون. في ما يتعلق بمسألة القراءات الشعرية وحسب، كنت في صدد تحقيق نجاح باهر.
قرأتُ طوال نصف ساعة ثم دعوتُ إلى استراحة. كنت ما زلت صاحياً غير ثمل واستطعتُ أن أشعر بها العيون المحدّقة فيّ من العتمة. اقترب بعض الأشخاص وتحدثوا إليّ. ثم خلل هدأة وجيزة أقبلت ليديا فانس. كنت قاعداً إلى طاولة أحتسي البيرة. وضعت يديها فوق حافة الطاولة، وانحنت وحدّقت فيّ. كان شعرها طويلاً بنيّاً، بالغ الطول، وأنفها بارزاً، وإحدى عينيها لم تكن تماماً شبيهة بالأخرى، غير أنها كانت تنفح حيوية، كان حضورها طاغياً. أحسست بها الذبذبات العابرة ما بيننا. بعض الذبذبات كان مشوّشاً وسيئاً، بيد أنها كانت موجودة. رمقتني ورمقتها في المقابل، كانت ليديا فانس ترتدي سترة رعاة بقر جلدية ذات هدّاب يلفّ العنق، لم يكن ثدياها سيئين على الإطلاق. بادرتها بالقول: "أود انتزاع هذا الهدّاب من على سترتك، يمكننا الابتداء من هناك!". انصرفت ليديا. لم أفلح، لطالما أخفقتُ في التودد إلى السيدات. غير أنها امتلكت قواماً خارقاً. تفرّجتُ على تلك المؤخرة فيما سارت مبتعدة. وهزهزتها مَقْعَدةُ بنطالها الجينز بروعة ورِنْتُها فيما ابتعدت.
أنهيت الجزء الثاني من القراءة ونسيت بشأن ليديا، تماماً مثلما أنسى أمر النسوة اللواتي أصادفهن على أرصفة الشوارع. أخذتُ نقودي، وقّعتُ بعض المناديل، بعض القطع الورقية ثم غادرت، وسقتُ سيارتي عائداً إلى شقتي.
كنت لا أزال أتابع كل ليلة كتابة روايتي الأولى، ما كنت أشرع البتة بالكتابة قبل السادسة و18 دقيقة مساء. كان ذلك هو توقيت تسجيل حضوري إلى دوام العمل في إدارة بريد "ترمينال آنيكس". كانت الساعة عند تمام السادسة حين وصلا، بيتر وليديا فانس. فتحتُ الباب، بادرني بيتر: "أنظر يا هنري، أنظر ماذا جلبت لك".
قفزت ليديا واعتلت المنضدة. كان جينزها الأزرق أضيق من أيّما وقت مضى. راحت تلوّح بقوّة بشعرها البني الطويل من نحو إلى نحو، كانت مجنونة، كانت خارقة. للمرة الأولى أخذت في الاعتبار فعلياً إحتمال مضاجعتها. بدأت تلقي الشِعْر. شِعْرُها الخاص. كانت بغاية الرداءة. حاول بيتر إيقافها: "لا! لا! لا! لا شِعرَ مقفّى في منزل هنري شيناسكي!".
"دعها على رسلها يا بيتر!".
وددتُ التفرّج على وركيها. كانت تفشخ طالعةً نازلة تلك المنضدة العتيقة. ثم رقصت، لوّحت بذراعيها. كان الشِعْرُ فظيعاً، الجسد والجنون ما كانا كذلك البتة.
قفزت ليديا إلى الأرضية.
"هل أُعجبكَ يا هنري؟".
"ماذا؟".
"الشِعْر".
"لا أظن".
انتصبت ليديا هناك حاملةً صفحات الشِعْر في يدها، أمسكها بيتر: "هيّا نتضاجع!". بادرها: "هيّا فلنمارس الجنس".
دفعته بعيداً عنها.
"حسناً"، قال بيتر، "إذاً، أنا مغادر!".
"غادرْ إذاً، لديّ سيارتي"، ردّت ليديا، "في مقدوري العودة إلى منزلي".
أسرع بيتر في اتجاه الباب. توقف واستدار قائلاً: "حسناً يا شيناسكي! لا تنس ما جلبتُ لكَ!".
أغلق الباب بعنف ومضى، جلست ليديا على الأريكة إزاء الباب، جلستُ على مقربة قدم واحدة منها. تأملتها، بدت بديعة، كنت خائفاً، مددتُ يدي ولامستُ شعرها الطويل، كان شعرها ساحراً. أبعدتُ يدي. "هل كلّ هذا الشَعْر حقيقة شَعْركِ؟"، سألتها. كنت أدرك أنه كذلك. "أجل"، قالت: "إنه شَعْري". وضعتُ يدي تحت ذقنها وبارتباك حاولتُ أن أدير وجهها نحو وجهي. لم أكن جريئاً في مثل هذه الأوضاع. قبّلتُها قبلة خفيفة.
هبّت ليديا واقفةً: "عليَّ أن أغادر. إني أدفع أجرة حاضنة أطفال".
"إسمعي"، قلت: "إبقي. سأدفع أنا. إبقي وحسب بعض الوقت".
"لا، لا أستطيع"، ردّت: "يجب عليّ الذهاب".
مشت نحو الباب. تبعتُها. فتحت الباب ثم استدارتْ، مددتُ ذراعيّ نحوها مرّةً أخيرة. رفعتْ رأسها ومنحتني قبلة ضئيلة جداً. ثم انسحبتْ واضعةً بيني يديّ بعض الأوراق المطبوعة على الآلة الكاتبة. أُغلقَ الباب. قعدتُ على الأريكة، والأوراق بين يديّ، وأنصتُّ إلى انطلاق سيّارتها.
كانت القصائد مثبّتة معاً برزّة سلكية، منسوخة ومعنونة "هي ي ي ي ي". قرأتُ بعضها. كانت لافتة، مليئة بالدعابة والجنس إنما مكتوبة برداءة. كانت بقلم ليديا وأخواتها الثلاث. جميعهن مرحات ومقدامات ومثيرات في آنٍ واحد. رميتُ الأوراق وفتحتُ نصفية ويسكي. في الخارج كانت حلّت الظلمة. والراديو كان يبث غالباً موسيقى موزار وبراهمز وبيتهوفن.


2

بعد يوم أو أكثر وصلتني بالبريد رسالة من ليديا، كانت قصيدة طويلة وتبدأ:
أخرج أيّها الغول العجوز
أخرج من جحرك المظلم، أيّها الغول العجوز
أخرج إلى نور الشمس معنا
دعنا نغرز زهور المرغريتا في شَعْرِك...
وتابعت القصيدة تخبرني كم أنه يكون طيباً الشعور بالرقص في الحقول رفقة مخلوقات صغار الظباء الإناث التي ستجلب لي الحبور والمعرفة الحقّة. وضعتُ الرسالة في جارور خزانة الأواني المطبخية.
صباح اليوم التالي أيقظني طرقٌ على ألواح باب المدخل الزجاجية. كان الوقت العاشرة والنصف صباحاً.
"أغربْ من هنا".
"أنا ليديا".
"حسناً. مهلكِ دقيقة".
ارتديتُ قميصاً وبنطالاً ما وفتحتُ الباب. ثم ركضتُ نحو الحمّام وتقيّأتُ، حاولتُ أن أنظّف أسناني بالفرشاة، فما كان سوى أن تقيّأتُ مجدداً. حلاوة معجون الأسنان قلبت معدتي. خرجت.
"أنتَ مريض"، بدأت ليديا: "هل تريدني أن أغادر؟".
"آه، لا، أنا بخير. أنا أصحو دائماً على هذه الحال".
بدت ليديا فاتنة. إنسلّ الضوء عبر الستارات وأنارها. كان تحمل في يدها برتقالة وراحت تنطنطها في الهواء، دوّمت البرتقالةُ في الصباح المشمس.
"لا أستطيع أن أمكث"، قالت، "غير أني أود أن أسألك أمراً".
"بالتأكيد".
"أنا نحّاتة. أرغب في إنجاز منحوتة لرأسك".
"موافق".
"سوف يجب أن تقدمَ إلى بيتي. لا أملك محترفاً. يجب أن نقوم بذلك في منزلي. لن يزعجك الأمر، أليس كذلك؟".
"كلاّ".
دوّنتُ عنوانَها، ومعلومات حول كيفية الوصول إلى هناك.
"حاول أن تحضر قرابة الساعة الحادية عشرة صباحاً. يعود الأولاد إلى المنزل من المدرسة وسط ما بعد الظهيرة، وسيصرف ذلك انتباهي".
أكدّتُ قائلاً: "سأكون هناك تمام الحادية عشرة".
قعدتُ قبالة ليديا في ركن الفطور، وبيننا كومة ضخمة من الطين. وشرعتْ تطرح أسئلة.
"هل ما زال والداك على قيد الحياة؟".
"كلاّ".
"هل تحب لوس أنجليس؟".
"إنها مدينتي المفضّلة".
"لماذا تكتب عن النسوة بالطريقة التي تفعل؟".
"ماذا تقصدين؟".
"أنت تعرف".
"لا. لست أعرف".
"حسناً. أعتقد أنه من المخزي أن رجلاً يكتب مثلك ببراعة لا يفقه في المقابل أي شيء في ما يتعلق بالنساء".
لم أُجبْ.
"اللعنة! ما الذي فعلته ليزا بالـ...؟". وبدأت تفتش الحجرة. "آه من الفتيات الصغيرات اللواتي يسرقن أدوات أمهاتهن!".
عثرت ليديا على واحدة أخرى: "سوف أجعل هذه تفي بالغرض. لا تحرّك ساكناً الآن، إسترخِ لكن إبقَ ثابتاً".
كنت مواجهاً لها. راحت تشكّلُ بكومة الطين مستخدمةً أداة خشبية تتوّج رأسها حلقة من السلك المعدني، راحت تلوّح الأداة في اتجاهي من فوق كومة الطين. كنت أرقبها. عيناها كانتا تحّدقان فيّ. كانتا كبيرتين بلون بنيّ غامق. حتى عينها الطائشة، تلك التي لم تشبه تماماً الأخرى، بدت جميلة. بادلتُها النظرات. تابعت ليديا العمل. مضى الوقت. كنت في حال من النشوة. ثم بادرتني مقترحةً: ماذا لو نرتاح قليلاً؟ أو ترغب في قنينة بيرة؟".
"جيّد. أجل".
حين نهضت لتتوجه إلى البرّاد لحقتُ بها. أخرجت القنينة وأغلقت الباب. ما إن استدارت حتى أمسكتُ بها من خصرها وجذبتُها إليّ. ألصقتُ فمي وجسمي بفمها وجسمها. أمسكتْ قنينة البيرة بيد واحدة بعيداً بمسافة ذراعها، قبّلتُها من جديد، دفعتني ليديا بعيداً عنها.
"حسناً". انبرت قائلةً: "يكفي. ثمة عمل علينا إنجازه".
عدنا وجلسنا مجدداً، وشربتُ بيرتي فيما دخّنت ليديا سيجارة وما بيننا الطين. رنّ بعدئذٍ جرس الباب. نهضت ليديا. انتصبت هناك امرأة بدينة ذات عينين مسعورتين مستجديتين.
"أقدّم لك أختي غليندولين".
"مرحباً".
سحبت غليندولين كرسياً وشرعت تتكلم. كانت قادرة فعلياً على التحدّث، لو أنها كانت أبا الهول بالذات لاستطاعت أن تتكلّم، لو كانت صخرة لقُدِّرَ لها أن تتكلّم. تساءلتُ في نفسي متى يمكن أن تتعب وتغادر. حتى بعد أن توقفتُ عن الإنصات شعرتُ كما لو أنني أقصف بكرات "بينغ بونغ" ضئيلة. افتقدتْ غليندولين أي مفهوم للوقت، ومطلق خاطر بأنه يمكن أنها تتطفّل. تابعت تثرثر وتثرثر من غير توقف.
"إسمعي"، انبريت قائلاً في النهاية "متى ستغادرين؟".
بدأتْ عندئذٍ مسرحية الأختين. شرعتا تتلاسنان، كانتا واقفتين وراحت كلٌّ منهما تلوّح ذراعيها في وجه الأخرى. ارتفعت درجات الطبقات الصوتية. هددّت كلّ منهما الأخرى بالأذيّة الجسدية. في نهاية الأمر، قرابة نهاية العالم، قامت غليندولين فجأة بإنفثالة خارقة لجذعها ووثبت باهتياج إلى خارج الباب صافقةً بعنف الباب المنخليّ وتوارت، غير أنه كان في الوسع سماعها ملتهبة سخطاً ونائحة وهي متوجهة إلى شقتها في القسم الخلفي من العمارة.
سرنا ليديا وأنا عائدين إلى ركن الفطور وقعدنا. تناولتْ أداة النحت وحدقت عيناها في عينيّ.

3

ذات صبيحة بعد بضعة أيام ولجتُ فناء ليديا فيما كانت تدخل عائدةً من الزقاق. كانت توجهت لزيارة صديقتها تينا التي تقطن وحدة سكنية عند ناصية الشارع، بدت مثيرة ذلك الصباح، تشبه إلى حد بعيد يوم زيارتها الأولى مع البرتقالة. "واو"، هتفت: "إنك ترتدي قميصاً جديداً".
كان ذلك صحيحاً. ابتعتُ القميص لأني كنت أفكر بليديا، وأتوق إلى رؤيتها. أدركتُ أنها أدركتْ ذلك، وكانت تهزأ منيّ، غير أني لم آبه.
فتحت ليديا الباب بالمفتاح وولجنا إلى الداخل، كان الطين جاثماً في وسط طاولة ركن الفطور، مغطى بقماشة رطبة. نزعت القماشة وسألتني: "ما رأيك؟".
لم ترحمني ليديا إطلاقاً. كلّها كانت هناك، الندوب، أنف السكّير، الفم الأشبه بفم القرد، العينان الضيّقتان كشقّين طويلين، وفوق ذلك كله إبتسامة الحبور تلك العريضة البلهاء لرجل سعيد، سخيف محظوظ ويتساءل لماذا. كانت في الثلاثين وتجاوزت أنا الخمسين من عمري، من ذا الذي يأبه.
"بلى"، أجبت: "هذا أنا بالكمال والتمام. أعجبتني. غير أنها تبدو منجزة تقريباً. سوف أصاب بالإحباط حين ستنتهي. لقد أمضينا صباحات وما بعد ظهيرات رائعة".
"هل أعاق ذلك كتابتك؟".
"البتة، إني لا أكتب قط إلا بعد حلول الظلام. أعجز كلّياً عن الكتابة في النهار".
تناولت ليديا أداة النحت ورمقتني. "لا تقلق، لديَّ الكثير من العمل بعد لأنجزها. أرغب في أن تكون هذه مثالية".
خلل أول استراحة، أحضَرتْ نصفية ويسكي من البرّاد.
لفظتُ "آه".
"كم ترغب؟"، سألتني حاملة كوباً زجاجياً طويلاً.
"النصف بالنصف".
حضّرت الشراب فازدرته جرعة واحدة.
انبرت قائلةً: "لقد سمعتُ عنك أخباراً".
"مثل ماذا؟".
"كيف أنك تطرد أشخاصاً من أمام مدخل منزلك. وأنك تضرب نساءك".
"أضرب نسائي؟".
"أجل. أحدهم أخبرني هذا".
ضممتُ بذراعيَّ ليديا وتبادلنا قبلة هي الأطول مذ التقينا. ثبّتُّها إزاء حافة المجلى ورحت أحكّ قضيبي بجسدها. دفعتني عنها بيد أني قبضتُ عليها مجدداً في وسط المطبخ.
مدّت ليديا يدها ممسكةً يدي، ودفعتها نزولاً إلى مقدّم جينزها وإلى جوف سروالها التحتي. لمس أحد رؤوس أصابعي بلبل فرجِها، كانت رطبة. فيما تابعتُ تقبيلها، رحت أغرز أصبعي عميقاً داخل فرجِها. بعدئذ انتشلتُ يدي، انفصلتُ عنها، أحضرتُ قنينة الويسكي وصببتُ لي كأساً أخرى، قعدتُ من جديد إلى طاولة ركن الفطور، وتوجهتْ ليديا إلى الناحية الأخرى، جلستْ وحدّقت فيّ، ثم بدأت تعمل على الطين من جديد. تجرعتُ كأسي الويسكي على مهل.
"إسمعي"، بادرتها: "إني أعرفُ مأساتك".
"ماذا؟".
"أعرف مأساتك".
"ماذا تقصد؟".
"إسمعي"، قلتُ: "انسي المسألة".
"أريد أن أعرف".
"لا أريد أن أؤذي مشاعرك".
"اللعنة، أريد أن أعرف ما الذي تتحدث عنه".
"حسناً، إن سقيتني كأساً أخرى فسأخبرك".
"اتفقنا". تناولت ليديا كأسي الفارغة وسكبت لي نصف ويسكي، ونصف ماء. فازدرتها مجدداً جرعة واحدة.
سألتني: "ماذا إذاً؟".
"اللعنة، أنتِ تعرفين جيداً".
"أعرف ماذا؟".
"أنكِ تملكين فَرْجاً كبيراً".
"ماذا تقول؟".
"ليس هذا بالأمر الاستثنائي، فلقد ولدتِ طفلين".
جلست ليديا بسكون تعمل في الطين. ثم وضعتْ أداتها. سارتْ إلى ركن المطبخ قرب البوابة الخلفية. راقبتُها وهي تنحني وتنزع حذاءها العالي. بعدها خلعت جينزها وسروالها التحتي وانبرى هناك فرجها محملقاً بي.
"حسناً يا ابن الزانية"، هتفتْ: "سوف أثبت لك أنك مخطىء".
خلعتُ حذائي وبنطالي وسروالي التحتي القصير. خررتُ على ركبتي فوق الأرضية المشمّعة ثم اعتليتُها بدِعَة متمدداً فوقها. شرعتُ أقبّلها. انتصبتُ سريعاً وأحسستُني ألجها.
وبدأت أخرق... مرة اثنتين ثلاثاً...
اندلعَ طرقٌ على البوابة الأمامية، كان طرقاً طفلياً، قبضات ضئيلة مسعورة ملحاح. خلعتني ليديا بسرعة عنها. "إنّها ليزا! هي لم تذهب إلى المدرسة اليوم! كانت توجهت إلى عند..." هبّت ليديا واقفة، وراحت ترتدي ملابسها.
"إرتدِ ملابسك"، عاجلتني بالقول.
ارتديتُ ملابسي بأسرع ما أوتيت. توجهت ليديا نحو البوّابة، وانبرت هناك إبنتها بسنواتها الخمس زاعقةً: "أمّاه، أمّاه! لقد جرحتُ أصبعي!".
جلتُ هائماً في الغرفة الأمامية. كانت ليديا وضعت ليزا في حضنها. "أوه دعي مامي ترى، أوه دعي المامي تبوس إصبعكِ. ماما سوف تبلسمها لكِ!".
"مامي، إنها تؤلمني".
تفحّصتُ الجرحَ. كان تقريباً غير مرئي.
"إسمعي"، خاطبتُ ليديا أخيراً: "نلتقي غداً".
"أنا آسفة"، ردّت قائلة.
"أعرف".
رفعت ليزا أبصارها ناظرة إليّ. كانت الدموع تترقرق وتترقرق.
ردّدتْ ليديا: "ليزا لن تسمح أبداً بحدوث أي مكروه للماما".
فتحتُ البوّابة، أغلقتُ البوّابة وسرتُ نحو سيارتي المركوري كوميت طراز 1962.

4

كنت في تلك الآونة أشرف على تحرير مجلة صغيرة بعنوان "المجاز غير المكبوح" كان لديّ محرّران مساعدان، وكان يساورنا أننا كنا ننشر لأفضل شعراء زمننا، هذا بالإضافة إلى بعض ممن هم أقل شأناً. أحد المحرّرين طوله متر و95 سنتيمتراً، كان دوسويّ الذكاء ومطروداً من المدرسة الثانوية. يدعى كينيث مولوك (أسود) وكانت تعيله أحياناً أمّه وأحياناً أخته. المحرّر الآخر كان يدعى سامي ليفنسون (يهودي) عمره 27 ويعيش مع والديه، وكانا يعيلانه.
كانت الصفحات قد طبعت، ووجب علينا الآن أن نتفحّص ترتيب الملازم وشبكها بالغلف وجمعها.
"ما يجب أن تفعله"، قال سامي، "هو إقامة حفل تجميع. تقدّم فيه المشروب وبعض التفاهات، ودعهم يقومون بالعمل".
أجبته: "إني أكره الحفلات".
بادر سامي: "سأهتمّ بالدعوات".
"حسناً"، أجبته، ودعوتُ ليديا.
ليلة الحفلة وصل سامي محضراً معه الصفحات التي كان أنجز جمعها. كان من الصنف العصبيّ، ومصاباً بعرّة في الرأس، وما كان قادراً على الصبر لانتظار رؤية قصائده مطبوعة. كان قد قام بشبك كل ملازم مجلة "المجاز غير المكبوح" بمفرده، ثم ثبّتها بالغلف. لم نستطع العثور على كينيث مولوك، كان لربما في السجن أو معتقلاً.
وصل المدعوون، كنت أعرف البعض القليل منهم. توجهتُ إلى صاحبة الشقة في الفناء الخلفيّ. أقبلتْ إلى الباب.
"إني أقيم حفلاً كبيراً يا سيّدة أوكيفي، أرغب في حضورك أنتِ وزوجك. الجعة وفيرة، وأيضاً بسكويت العقدية والتشيبس".
"آه، يا إلهي، لا!".
"ما الخطب؟".
"لقد رأيت الأشخاص الذين دخلوا إلى عندك! تلك اللّحى، وكل ذلك الشَعْر، وتلك الملابس الرثة! أساور وخرز... أنهم يبدون أشبه بعصبة من الشيوعيين! كيف تستطيع أن تتحمّل أشخاصاً من هذا الصنف؟".
"أنا مثلكِ لا أستطيع تحمّل أولئك الأشخاص يا سيّدة أوكيفي. مجرّد ما في الأمر أننا نحتسي البيرة ونتحادث. ولا ضرر في ذلك".
"خذ حذركَ، أن هذا النوع لا يتوانى عن سرقة أنابيب السمكرّية".
أغلقت البوّابة.
وصلت ليديا في وقت متأخر. دخلت من الباب أشبه بممثلّة، أوّل ما لاحظته هو قبّعتها الكاوبوي الكبيرة، والريشة الأرجوانية المشبوكة إلى الجانب، لم تكلّمني، بل جلستْ فوراً إلى جانب موظّف مكتبة شاب وانغمست في حوار حماسيّ معه. شرعتُ أشرب بإسراف وفقد حديثي بعض ديناميته والدعابة. بائع المكتبة كان شاباً من النوع المقبول ويسعى لأن يصبح كاتباً، يدعى راندي إيفانز، بيد أنه كان مأخوذاً إلى حد بعيد بكافكا، ما يمنعه من بلوغ أي نوع من الوضوح الأدبي، كنا نشرنا له في "المجاز غير المكبوح" لتحاشي جرح مشاعره، وأيضاً للتمكن من توزيع المجلّة عبر مكتبته.
احتسيتُ البيرة وجلتُ في الأرجاء. خرجتُ إلى الرواق الخلفيّ، جلستُ على الشرفة في الزقاق وراقبتُ هرّاً ضخماً أسود يحاول دخول وعاء للنفايات. سرتُ متوجهاً نحوه، وثب من على المستوعب ما إن دنوتُ. وقف على مبعدة متر واحد بعيداً منيّ يراقبني. رفعتُ الغطاء من على مستوعب النفايات، انبعثت النتانة كريهة بشكل رهيب. تقيأتُ داخل المستوعب. ألقيتُ الغطاء على الرصيف. قفز الهرّ ووقف جامعاً قوائمه الأربع فوق حافة المستوعب. تردد ثم متوهجاً تحت قمر بدر ووثب إلى جوفه.
كانت ليديا لا تزال تتحدث إلى راندي، ولاحظتُ من تحت الطاولة، أن إحدى قدميها كانت تلامس إحدى قدميّ راندي. فتحتُ قنينة بيرة أخرى.
كان سامي يُضحك الجمعُ، كنت أبرع منه بعض الشيء في القيام بذلك متى رغبت في إضحاك الحشد، غير أني لم أكن على ما يرام تلك الليلة. كان هناك إمرأتان و15 أو 16 رجلاً، ليديا وأبريل. كانت أبريل تلتزم حميّة حادة وبدينة. كانت متمددة على الأرضية، بعيد ساعة أو ما يقارب نَهضتْ وغادرتْ بمعيْة كارل وهو مدمن مخدر "سبيد" تالف كلياً. وبقي في النتيجة 15 أو 16 رجلاً وليديا، وجدتُ قنينة ويسكي في المطبخ، أخرجتُها إلى الرواق الخلفيّ ورحت أتجرع منها بين الفينة والأخرى.
بدأ الرجال يغادرون شيئاً فشيئاً فيما تقدّم الليل، حتى راندي غادر. في النهاية لم يبقَ هناك سوى سامي وليديا وأنا، كانت ليديا تتحدث إلى سامي. أخبر سامي قصصاً مضحكة. استطعتُ أن أضحك. ثم قال إنه يجب عليه المغادرة.
بادرته ليديا: "رجاء لا تذهب يا سامي".
انبريت قائلاً: "دعي الفتى يغادر".
ردّ سامي "أجل، ينبغي أن أذهب".
بعدما غادر سامي أعقبت ليديا "ما كان من الضروري أن تدفعه إلى الرحيل. إن سامي شخص ظريف، أنه حقيقة مسلٍّ، لقد جرحت مشاعره".
"لكني أودّ أن أتحدث إليكِ على انفراد يا ليديا".
"إني أستمتع برفقة أصدقائك. لا يتسنى لي لقاء كل أنواع الناس كما هي الحال معك. إني أحب الناس!".
"أنا لا أحبّهم".
"أعرف أنك لا تحبّهم، غير أني أنا أحبّهم. الناس يأتون لرؤيتك. ربما لو لم يأتوا لرؤيتك لكنت ستحبّهم أكثر".
"لا، كلّما رأيتهم أقلّ، أحببتهم أكثر فأكثر".
"لقد جرحتُ مشاعر سامي".
"أوه اللعنة، لقد توجه إلى البيت إلى عند أمّه".
"أنت غيور. أنت متقلقل. تحسب أني أود مضاجعة كل رجل أتحدث إليه".
"لا، لست كذلك. إسمعي، ما رأيك باحتساء كأس صغيرة؟".
نهضتُ وحضّرتُ لها كأساً. أشعلت ليديا سيجارة طويلة، واحتست جرعة من شرابها. "إنك بلا ريب تبدين جميلة في تلك القبّعة". وتابعت: "الريشة الأرجوانية مميزة بالفعل".
"إنها قبعة أبي".
"ألنْ يفتقدها؟".
"لقد مات".
جذبتُ ليديا نحوي من على الأريكة ووهبتُها قبلة مديدة. أخبرتني عن والدها. كان توفى وترك وراءه أربع شقيقات وحفنة قليلة من المال. مكّنهنْ ذلك من أن يكنّ مستقلاّت، ومكّن ليديا من تطليق زوجها. أخبرتني أيضاً أنها تعرضت إلى ما يشبه الانهيار العصبيّ، وقضت ردحاً من الزمن في مصحّة عقلية. قبّلتُها مجدداً. "إسمعي"، قلت، "تعالي نتمدد على السرير، أني متعب".
فوجئتُ بها وقد تبعتني إلى داخل غرفة النوم. تمددتُ فوق الفراش وشعرت بليديا تجلس. أغمضتُ عينيَّ وحزرتُ أنها كانت تخلع حذاءها الطويل. سمعت إحدى الفردتين وهي ترتطم بالأرض، ثم الأخرى. رحتُ أخلع ملابسي فوق الفراش، تطاولتُ وأطفأتُ لمبة السقف. تابعتُ خلعَ ملابسي. وتبادلنا مجدداً بعض القبلات.
"متى كانت آخر مرة ضاجعتَ امرأة؟".
"منذ أربعة أعوام".
"أتقول أربعة أعوام؟".
"أجل".
"أعتقد أنك تستحق بعض الحب"، قالت، لقد راودني حلم بشأنك. فتحتُ صدركَ مثل خزانة، كان له أبواب، وحينما فتحتُ الأبواب أبصرتُ كل صنوف الأشياء الناعمة في جوفك: دببة قطنية، حيوانات صغيرة مكسوّة بالزغب، كل هذه الأشياء الناعمة الجديرة بالمعانقة. ثم راودني حلم حول ذلك الرجل الآخر. توجّهَ نحوي، وناولني بعض الأوراق. كان كاتباً. أخذتُ الأوراق ونظرتُ إليها. وكانت الأوراق مصابة بالسرطان. كانت كتاباته مصابة بالسرطان. إنني أهتدي بأحلامي. إنك تستحقّ بعض الحب".
تبادلنا ثانيةً القبل.
"إسمع"، إنبرت: "بعد أن تقحم ذلك الشيء في جوفي، إسحبه تواً قبل أن تبلغ الذروة. إتفقنا".
"فهمت".
اعتليتُها. كان الأمر جميلاً. كان ثمة أمر ما يحدث، شيء حقيقي ومع فتاة تصغرني بعشرين سنة وكانت للحقّ فوق ذلك كله جميلة. أنجزتُ عشر خرقات بالكاد وبلغتُ الذروة في جوفها.
وثبتْ منتفضة.
"يا ابن العاهرة! لقد قذفتَ في داخلي!".
"ليديا مذ زمن طويل لم... كان الشعور رائعاً... لم أستطع كبح نفسي... لقد فوجئتُ بالأمر! بحق يسوع! لم أستطع تمالك نفسي".
ركضتْ إلى داخل الحمّام وفتحت المياه داخل حوض الاستحمام. وقفتْ قبالة المرآة مسرّحة بالمشط شعرها البنيّ الطويل. كانت بحق فاتنة.
"يا... إبن... العاهرة! يا ربّي. يا لخدعة طلاّب المدارس هذه البلهاء. هذا سخف طلاب الثانويّة، وما كان من الممكن أن تحصل على توقيت أسوأ، جيد، إذاً، نحن مقاصصان الآن! إننا مقاصصان الآن!".
توجهتُ إليها في الحمّام. "ليديا، أحبّكِ".
"أغرب عنّي أيّها الملعون".
طردتني إلى الخارج. أقفلت الباب. ووقفتُ خارجاً في الرواق منصتاً إلى اندياح مياه حوض الاستحمام.



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads